العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

غزّة أعادت القضية الفلسطينية إلى مركزيتها

بقلم: د. دلال البزري {

السبت ٠٤ نوفمبر ٢٠٢٣ - 02:00

كان‭ ‬الكوكبُ‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭ ‬قبل‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ (‬الشهر‭ ‬الماضي‭)‬،‭ ‬والفلسطينيون‭ ‬شعبا‭ ‬منسيا،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬المزايدات‭ ‬والذرائع،‭ ‬وفكرة‭ ‬مركزية‭ ‬قضيتهم‭ ‬عربيا‭ ‬آخذة‭ ‬بالاضمحلال‭. ‬أما‭ ‬الآن،‭ ‬فلا‭. ‬الحدث‭ ‬منذ‭ ‬بدايته،‭ ‬فجَّر‭ ‬زلزالاً،‭ ‬بؤرتُه‭ ‬غزّة‭ ‬الفلسطينية‭. ‬ارتعشت‭ ‬له‭ ‬قشرة‭ ‬الأرض،‭ ‬وانطلقت‭ ‬من‭ ‬باطنها‭ ‬طاقة‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬العنف‭ ‬والإبادة‭ ‬والدمار‭. ‬ما‭ ‬أخلّ‭ ‬بتوازناتٍ‭ ‬وعقائد‭ ‬وترتيبات‭ ‬كانت‭ ‬شبه‭ ‬مستقرّة،‭ ‬ولكنها‭ ‬ذات‭ ‬سيولة‭ ‬عالية‭.‬

إسرائيل‭ ‬وجوديا‭. ‬لنتذكّر‭: ‬الطموح‭ ‬الصهيوني‭ ‬الطوباوي،‭ ‬أساس‭ ‬عقيدة‭ ‬إسرائيل‭ ‬الوجودية،‭ ‬يقول‭ ‬بإقامة‭ ‬دولة‭ ‬تمنح‭ ‬اليهود‭ ‬وطناً‭ ‬‮«‬طبيعياً‭ ‬نهائياً‭ ‬آمناً‮»‬‭. ‬تهتزّ‭ ‬هذه‭ ‬العقيدة‭ ‬اليوم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭. ‬ومعها‭ ‬اضطربت‭ ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬إنشاء‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬سيجعل‭ ‬اليهود‭ ‬سعداء‭ ‬آمنين‭. ‬وكان‭ ‬شرط‭ ‬هذين،‭ ‬السعادة‭ ‬والأمان،‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لإسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬قوية،‭ ‬واقتصاد‭ ‬حديث،‭ ‬وجيش‭ ‬عظيم‭. ‬والثلاثة‭ ‬تلقّوا‭ ‬ضرْبة‭ ‬مباشرة‭.‬

ما‭ ‬حصل‭ ‬خلْخل‭ ‬هذه‭ ‬الأسس‭ ‬في‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭. ‬ولم‭ ‬يبق‭ ‬إسرائيلي‭ ‬إلا‭ ‬وعلَّق‭ ‬على‭ ‬طريقته،‭ ‬ومن‭ ‬الزاوية‭ ‬التي‭ ‬يقف‭ ‬فيها،‭ ‬من‭ ‬مسؤولين‭ ‬إلى‭ ‬سفراء‭ ‬إلى‭ ‬روائيين‭ ‬ومثقفين،‭ ‬يعبّرون‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬وجودية‭ ‬بالمعنى‭ ‬الحرفي‭ ‬للكلمة،‭ ‬أي‭ ‬أزمة‭ ‬وجود‭ ‬اليهود‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬البقعة‭ ‬من‭ ‬الأرض،‭ ‬يعبّرون‭ ‬عن‭ ‬أزمتهم‭ ‬الوجودية‭ ‬بطرقٍ‭ ‬ملتوية‭ ‬مختلفة‭.‬

لم‭ ‬ينجُ‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬يوفال‭ ‬هراري،‭ ‬من‭ ‬التضارب‭ ‬الذي‭ ‬استولى‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬إسرائيلية‭ ‬كبيرة‭. ‬كل‭ ‬ما‭ ‬وجده‭ ‬للقول،‭ ‬هو‭ ‬معاتبة‭ ‬‮«‬اليسار‭ ‬العالمي‮»‬‭ ‬على‭ ‬بيان‭ ‬أصدره،‭ ‬لم‭ ‬يُشِر‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬فظائع‭ ‬حماس‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬ويتضامن‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬يؤكّد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬لا‭ ‬نيّة‭ ‬لإسرائيل‭ ‬بقتل‭ ‬مدنيين‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حساب‮»‬،‭ ‬وينهي‭ ‬حديثه‭ ‬بالمقارنة‭ ‬بين‭ ‬الأسد‭ ‬ونتنياهو،‭ ‬فالأخير‭ ‬لن‭ ‬يصل‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ (‬بالشعب‭ ‬السوري‭) ‬في‭ ‬حمص‭ ‬وحماة‮»‬‭. ‬والتظاهرات‭ ‬القليلة‭ ‬في‭ ‬تل‭ ‬أبيب،‭ ‬المطالبة‭ ‬بوقف‭ ‬المجزرة‭ ‬ضد‭ ‬أهل‭ ‬غزّة‭ ‬لم‭ ‬تثِر‭ ‬لدى‭ ‬هذا‭ ‬المؤرخ‭ ‬‮«‬الحسّاس‮»‬،‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬معضلة‭ ‬إسرائيل‭ ‬الوجودية‭ ‬هذه‭. ‬وبدا‭ ‬الشارع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬المتظاهر،‭ ‬على‭ ‬ضآلته،‭ ‬أقلّ‭ ‬دوغمائية‭ ‬منه‭.‬

هذا‭ ‬اليسار‭ ‬العالمي،‭ ‬المقصود‭ ‬بالأوروبي‭ ‬والأمريكي،‭ ‬يشهد‭ ‬في‭ ‬دياره‭ ‬أعمق‭ ‬النقاشات‭ ‬والانقسامات‭ ‬والإحالات‭ ‬التاريخية‭. ‬في‭ ‬فرنسا،‭ ‬خرج‭ ‬الرئيسان،‭ ‬شارل‭ ‬ديجول‭ ‬وجاك‭ ‬شيراك،‭ ‬من‭ ‬أرشيف‭ ‬التاريخ،‭ ‬وتكلم‭ ‬ديجوليون‭ ‬عن‭ ‬شرف‭ ‬دفاع‭ ‬الرجلين‭ ‬عن‭ ‬فلسطين،‭ ‬الأول‭ ‬بالكلمة‭ ‬الحقّة،‭ ‬والثاني‭ ‬بتصدّيه‭ ‬للجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬القدس‭... ‬اللتين‭ ‬ينطق‭ ‬الرئيس‭ ‬الحالي‭ ‬بنقيضهما،‭ ‬‮«‬ملوّثاً‭ ‬الضمير‭ ‬الفرنسي‮»‬‭.‬

وانقسمت‭ ‬الأحزاب‭ ‬الفرنسية،‭ ‬بين‭ ‬يمين‭ (‬معتدل‭) ‬يشبه‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬بـ«داعش‮»‬،‭ ‬ويقول‭ ‬إنها‭ ‬حرب‭ ‬حضارات‭ ‬بين‭ ‬الغرب‭ ‬الديمقراطي‭ ‬والإسلاميين‭ ‬والإرهاب،‭ ‬وحزب‭ ‬وسط‭ ‬يوفَّق‭ ‬أحد‭ ‬أقطابه‭ ‬بصيغة‭ ‬‮«‬متوازنة‮»‬‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬العنف‭ ‬البربري‭ ‬لحماس‭ ‬بلا‭ ‬عُذر،‭ ‬فإنه‭ ‬ليس‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سبب‮»‬‭. ‬وبين‭ ‬أحزاب‭ ‬يسارية‭ ‬جلها‭ ‬في‭ ‬ائتلاف،‭ ‬منقسمة‭ ‬على‭ ‬نفسها،‭ ‬بين‭ ‬متضامن‭ ‬بالمطلق‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬ومتضامن‭ ‬مع‭ ‬‮«‬تحفّظ‮»‬‭ ‬حول‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭. ‬فيما‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرّف‭ ‬يضحك‭ ‬في‭ ‬عبّه؛‭ ‬فنظرياته‭ ‬عن‭ ‬‮«‬صراع‭ ‬الحضارات‮»‬‭ ‬تتجلّى‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬غزّة‭ ‬بأسطع‭ ‬الأوجه‭. ‬وهي‭ ‬تثبت‭ ‬ما‭ ‬يبوح‭ ‬به‭ ‬منظّروه‭ ‬وروائيوه،‭ ‬القائلون‭ ‬بنظرية‭ ‬‮«‬الاستبدال‭ ‬الكبير‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬المسلمين‭ ‬سيحكمون‭ ‬أوروبا‭ ‬بعد‭ ‬جيلين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭.‬

في‭ ‬ألمانيا،‭ ‬حيث‭ ‬أكبر‭ ‬جالية‭ ‬فلسطينية‭ ‬أوروبية‭ (‬80‭ ‬ألفا‭)‬،‭ ‬منعت‭ ‬كل‭ ‬مظاهر‭ ‬التأييد‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬ونُبش‭ ‬التاريخ،‭ ‬فحضر‭ ‬الذنب‭ ‬الألماني‭ ‬تجاه‭ ‬اليهود،‭ ‬تبريراً‭ ‬للمنع،‭ ‬فأعلن‭ ‬المستشار‭ ‬الألماني،‭ ‬أولاف‭ ‬شولتز،‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬الغالبية‭: ‬‮«‬مسؤوليتنا‭ ‬في‭ ‬المحرقة‭ ‬تفرض‭ ‬علينا‭ ‬الدفاع‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دقيقة‭ ‬عن‭ ‬وجود‭ ‬إسرائيل‭ ‬وأمنها‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬بريطانيا،‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬أكبر‭ ‬التظاهرات‭ ‬المؤيدة،‭ ‬قالت‭ ‬الحكومة‭ ‬البريطانية‭ ‬إنها‭ ‬منعت‭ ‬رفع‭ ‬العلم‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬‮«‬لأن‭ ‬بعضهم‭ ‬يراه‭ ‬مثل‭ ‬الصدى‭ ‬لإعلان‭ ‬‮«‬بلفور‮»‬،‭ ‬وصاحبه‭ ‬آرتور‭ ‬جيمس‭ ‬بلفور،‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬بريطانيا‭ ‬المحافظ،‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬والمعروف‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الإعلان‭ ‬تضمّن‭ ‬‮«‬وعداً‮»‬‭ ‬لليهود‭ ‬بإقامة‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭.‬

في‭ ‬إيطاليا،‭ ‬بلجيكا،‭ ‬السويد،‭ ‬اليونان‭... ‬حتى‭ ‬سويسرا‭ ‬‮«‬المحايدة‮»‬،‭ ‬اشتدّت‭ ‬فيها‭ ‬الانقسامات‭ ‬حول‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتظاهرات،‭ ‬ومنابر،‭ ‬وشخصيات‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬هدوئها،‭ ‬مندِّدة،‭ ‬موضِّحة‭. ‬وذريعة‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الحكومات‭ ‬حوادث‭ ‬‮«‬اللاسامية‮»‬‭ ‬المتصاعدة؛‭ ‬تلك‭ ‬التسمية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تميّز‭ ‬بين‭ ‬العداء‭ ‬لإسرائيل‭ ‬والعداء‭ ‬لليهود‭. ‬ويكون‭ ‬الصدى‭ ‬الأمريكي‭ ‬صاخباً‭: ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬الأمريكيين‭ ‬يتظاهرون‭ ‬تضامناً‭ ‬مع‭ ‬فلسطين‭. ‬في‭ ‬التظاهرة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬اعتقل‭ ‬مئتان‭ ‬منهم‭. ‬وفي‭ ‬كندا‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تظاهرة‭ ‬بمدنها‭ ‬تجد‭ ‬حاخامات،‭ ‬يرتدون‭ ‬زيّهم‭ ‬التقليدي،‭ ‬جنباً‭ ‬الى‭ ‬جنب‭ ‬مع‭ ‬لابسي‭ ‬الكوفية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬يرفعون‭ ‬شعارات‭ ‬الرفض‭ ‬لإقامة‭ ‬إسرائيل‭.‬

في‭ ‬روسيا،‭ ‬يفرك‭ ‬بوتين‭ ‬يديه‭ ‬فرحاً‭ ‬واستبشاراً‭. ‬جاءته‭ ‬الهدية‭ ‬من‭ ‬السماء‭. ‬عودة‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬خبرٌ‭ ‬سارٌّ‭ ‬له،‭ ‬لأنه‭ ‬يحرف‭ ‬العالم‭ ‬عن‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬لصالح‭ ‬روسيا‭. ‬وتصدّر‭ ‬الموقف‭ ‬والآراء‭ ‬الموالية‭ ‬له‭: ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬الحق‭ ‬الدولي‭ ‬وعن‭ ‬الجرائم،‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يقيس‭ ‬بالمعايير‭ ‬‮«‬المزدوجة‮»‬‭... ‬ذاك‭ ‬‮«‬الخُبث‮»‬‭ ‬الغربي‭. ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬غزّة‭ ‬نعمة‭ ‬على‭ ‬موسكو،‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬بالخروج‭ ‬من‭ ‬عزلتها‭ ‬التي‭ ‬فرضها‭ ‬عليها‭ ‬‮«‬الغرب‭ ‬القاتل‮»‬‭. ‬ولروسيا‭ ‬ثماني‭ ‬رهائن‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬حماس‮»‬،‭ ‬يحملون‭ ‬جنسيتها‭. ‬تحاول‭ ‬أن‭ ‬ترتدي‭ ‬لباس‭ ‬الصلة‭ ‬القوية‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬فتستقبل‭ ‬شخصياتٍ‭ ‬من‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬للبحث‭ ‬في‭ ‬أولئك‭ ‬الرهائن‭. ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬ولكن‭ ‬يكفيها‭ ‬أنها‭ ‬أطلّت‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬بغير‭ ‬دبّاباتها‭ ‬الموجَّهة‭ ‬ضد‭ ‬أوكرانيا‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يسجَّل‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬‮«‬الماكرو‮»‬،‭ ‬المكبَّر‭. ‬حيث‭ ‬يحضُر‭ ‬التاريخ‭ ‬والانقسامات‭ ‬حوله‭: ‬المحرقة،‭ ‬اللاسامية،‭ ‬الحرب‭ ‬الحضارية،‭ ‬الإسلاموفوبيا،‭ ‬تاريخ‭ ‬تأسيس‭ ‬إسرائيل،‭ ‬تاريخ‭ ‬الشتات‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬وكمٌّ‭ ‬هائل‭ ‬من‭ ‬الاستعادات‭ ‬لوقائع‭ ‬واتفاقات‭ ‬ومشاريع‭ ‬سلام‭ ‬أجهضت،‭ ‬أو‭ ‬لتجارب‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬إسلامية‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬السلاح‭ ‬المقاوم‭. ‬والمؤكّد‭ ‬أننا‭ ‬لم‭ ‬نلتقط‭ ‬كل‭ ‬المؤشّرات‭. ‬فالتاريخ‭ ‬الآن‭ ‬يمشي‭ ‬بسرعة،‭ ‬كأنه‭ ‬يركض‭. ‬وعقولنا‭ ‬المحدودة‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬التقاط‭ ‬كل‭ ‬مآثر‭ ‬هذا‭ ‬الجري،‭ ‬أو‭ ‬إخفاقاته‭. ‬ولكن‭ ‬ثمّة‭ ‬مايكرو،‭ ‬ثمّة‭ ‬مصغَّر‭ ‬أيضا‭. ‬إنهم‭ ‬الأفراد‭ ‬الفلسطينيون،‭ ‬الذين‭ ‬نُثروا‭ ‬في‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭. ‬في‭ ‬أبعد‭ ‬نقاط‭ ‬العالم‭. ‬مثل‭ ‬ذاك‭ ‬الكندي‭ ‬‭ ‬الفلسطيني‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬محافظة‭ ‬كالغري،‭ ‬واسمُه‭ ‬تامر‭ ‬جرادة‭. ‬أُخبر‭ ‬أن‭ ‬11‭ ‬من‭ ‬أفراد‭ ‬عائلته‭ ‬قُتلوا،‭ ‬هم‭ ‬أمه‭ ‬وأبوه‭ ‬وأخواته‭ ‬البنات،‭ ‬فيما‭ ‬بقي‭ ‬خمسة‭ ‬آخرون‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض،‭ ‬بينهم‭ ‬أولاد‭ ‬إخوته‭ ‬وأبناء‭ ‬عمومته‭. ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬فاجعته‭ ‬في‭ ‬شريط‭ ‬عَرَضه‭ ‬موقع‭ ‬الأخبار‭ ‬الكندي،‭ ‬نال‭ ‬عدداً‭ ‬هائلاً‭ ‬من‭ ‬المشاهدات‭.‬

ردود‭ ‬الفعل‭ ‬على‭ ‬الجريمة‭ ‬كانت‭ ‬بقياسها‭. ‬ولكن‭ ‬اللافت‭ ‬أن‭ ‬خبراء‭ ‬نفسيين‭ ‬تدخّلوا‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬وبدأوا‭ ‬يُسدون‭ ‬النصائح‭ ‬للعائلات،‭ ‬تنشرها‭ ‬مواقع‭ ‬أمريكية‭ ‬مختلفة‭. ‬ومن‭ ‬سؤالهم‭ ‬الأول‭ ‬‮«‬كيف‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتحدّث‭ ‬الأهل‭ ‬والمدرّسون‭ ‬بخصوص‭ ‬الحرب‭ ‬بين‭ ‬إسرائيل‭ ‬وحماس؟‮»‬‭. ‬والإجابة‭ ‬عنه‭ ‬بلائحة‭ ‬من‭ ‬النصائح‭: ‬تناولوا‭ ‬الموضوع‭ ‬أولا،‭ ‬استمعوا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬هؤلاء‭ ‬الأطفال،‭ ‬استخدموا‭ ‬لغة‭ ‬عادية‭ ‬تناسب‭ ‬أعمارهم،‭ ‬تجنّبوا‭ ‬الثنائيات،‭ ‬صحِّحوا‭ ‬المعلومات‭ ‬الخاطئة،‭ ‬ركِّزوا‭ ‬على‭ ‬الأطفال‭. ‬وفي‭ ‬الأخير،‭ ‬راجِعوا‭ ‬أنتم‭ ‬معلوماتكم‭ ‬وتحليلاتِكم‭ ‬وخذوا‭ ‬مسافة‭ ‬منها‭.‬

نامت‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬دهراً،‭ ‬ونسيناها،‭ ‬نفَرْنا‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الذرائع‭ ‬بحملها‭. ‬واليوم‭ ‬عادت‭ ‬أشدّ‭ ‬مركزية‭. ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الحكايات‭ ‬الفردية،‭ ‬أو‭ ‬الجماعية،‭ ‬إنما‭ ‬بذاك‭ ‬التشابك‭ ‬الدقيق‭ ‬الذي‭ ‬أوجده‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬بتراكم‭ ‬السنوات،‭ ‬بين‭ ‬عوالم‭ ‬مختلفة‭ ‬متباعدة‭. ‬ونحن‭ ‬لم‭ ‬نصف‭ ‬غير‭ ‬القليل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬التشابك،‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬تناهى‭ ‬إلينا‭. ‬والأكثر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬القليل‭: ‬إما‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬إدراكنا،‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬متأخّر‭ ‬لأنه‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬جنينيا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬أسراراً‭ ‬تحميه‭ ‬من‭ ‬الضوء‭. ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬ولم‭ ‬نتكلم‭ ‬عما‭ ‬دخل‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬أو‭ ‬خرج‭ ‬منها،‭ ‬بعد‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭.‬

‭ ‬{ أكاديمية‭ ‬وكاتبة‭ ‬لبنانية

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا