في يوم الخميس الساعة السادسة مساء تجلس مريم في غرفة الانتظار بعيادة دكتورة بدرية النفسية لحضور جلساتها العلاجية.
منذ أكثر من ثلاث سنوات وهي في رحلة بحث دؤوب عن المتبقي من خيوط الحكاية، وأثناء انتظارها حَلَّقَت بفكرها من زجاج النافذة مطلةً على الشارع العام، لتجد نفسها وقد عادت طفلة في منزل صغير كانت والدتها تُعد الطعام والكعك المفضل لطفليها، أحمد كعادته لا يتوقف عن اللعب بسيارته الحمراء يسيّرها بجهاز الحَاكُومُ وهو جهاز إلكتروني يسمح بالتحكم في السيارة عن طريق موجات كهرومغناطيسية (الأشعة الحمراء)، يضيء بها مصابيح صغيرة ملوّنة بالأحمر والأزرق والأصفر وتصدر صوت صفير وجلجلة مزعجة بعض الشيء، لكن لا شيء يهم. كانت ماريا حينها تسرح شعر دميتها الشقراء وتكلّمها طالبةً منها عدم التحرك حتى تنتهي من تضفير شعرها، يعلو صوت أمها منادية والدها الذي عاد من عمله قبل قليل قائلة إنها انتهت أخيراً من الطهي. وها هو بخطوات متثاقلة قادمًا من غرفته متجهًا نحو طاولة مربعة الشكل من الخشب الثقيل لونها بني داكن غطتها زوجته السيدة كلثوم بمفرش جميل مطرز بورود من خيوط الصوف الملونة قامت بتطريزه. فالسيدة كلثوم ماهرة في الخياطة والتطريز وقامت بخياطة ستائر المنزل وكل ملابس ماريا. وجاراتها تقمن بخياطة أغلب ملابسهن. جلس الأب راشد على كرسيه وصاح بصوته الأجش ماريا... أحمد اغسلا أيديكما وتعالى لتتناولا طعامكما. في صحن كل منهما تصب شوربة الدجاج اللذيذة وتكثر الخضار فيها بعد تقطيعه لقطع صغيرة، رائحة الأعشاب تفوح منها وهذا ما يجعلها مختلفة وزكية.
فجأةً تسمع صوت الممرضة وهي تنادي: السيدة مريم.. تفضلي الدكتورة بدرية في انتظاركِ. تدخل غرفة الدكتورة بدرية وتجلس على الكرسي، نستطيع أن نقول إنه أقرب لسرير صغير لونه أحمر مخملي ناعم، بمجرد أن تستلقي عليه تشعر بجسدك يسترخي كليًا. الغرفة بها ضوء أصفر خافت يُشعرك بسكينة وراحة ويغطي حوائطها ورق جدران بألوان هادئة مريحة، ورائحة الخزامي الساحرة تغمر المكان كله. قبل أن تنبس بكلمة يرن هاتفها الخلوي فتنظر للشاشة ليشع منها اسم صديقها عادل -زميلها في العمل. عادل ومريم يعملان معًا منذ ما يقارب السبع سنوات فهو رئيسها في المجلة التي تعمل فيها محررة، علاقتهما ليست عادية فهي تشعر بأنه جزء منها لدرجة أنهما يمرضان في نفس الوقت، يعطسان معًا، يشعران بالألم والمرض والفرح والحزن معًا، وحتى الأحداث اليومية المفرحة والمحزنة وغيرها ليكتشفا من خلال كل ذلك، وبعد أن حكت له عن حياتها السابقة لتكون الصدفة أنه توأمها الذي ربما عاشت معه حياة سابقة في زمن سابق. تقوم بوضع الهاتف داخل حقيبتها تغمض عينها بهدوء تسمع صوت الدكتورة بدرية الناعم هل أنتِ مستعدة كي نبدأ الآن. تبدأ مريم بسرد أحداث سابقة عاشتها في حياتها السابقة وترويها بدقة متناهية وبعد أن انتهت تطلب منها الدكتورة بأن تغمض عينيها ثم تفتحهما ببطء، تقوم بعدها بالنظر إلى وجه الدكتورة بدرية قائلة: هل ما زلتِ تعتقدين أنني أعيش حالة من الوهم بعد كل الحقائق والأدلة التي سردتها وتاريخ العائلة وحتى عادل أي أحمد أخي التوأم في حياتي السابقة، وأنا أعلم وأعي جيدًا أن لي حياتي وأهلي الحاليين وحياتي السابقة انتهت. لكن من حق الجميع معرفة ذلك لابد وأن يعلم الكل أن تناسخ الأرواح هو حقيقة وليست وهمًا أو خيالًا، ولا أستطيع أن أغمض عيني عن كونه حقيقة قائمة. تبتسم بوجهها وتأخذها بين ذراعيها وتحتضها تغمض عينها لتشعر بشعور عميق يصعب وصفه تهمس الدكتورة بدرية في أذن مريم بصوت خافت هل مازال الألم بقدمكِ ابنتي الحبيبة ماريا.... تصرخ ماريا أمي كلثوم قدمي تؤلمني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك