العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

التناقضات الداخلية تهدد بقاء الكيان الصهيوني

بقلم: د. حسن نافعة

الاثنين ٠٩ أكتوبر ٢٠٢٣ - 02:00

ينتمي‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬المعاصرة‭ ‬إلى‭ ‬أصول‭ ‬عرقية‭ ‬أو‭ ‬دينية‭ ‬أو‭ ‬مذهبية‭ ‬متباينة،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬فمن‭ ‬النادر‭ ‬أن‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر‭ ‬مجتمعات‭ ‬إنسانية‭ ‬تتسم‭ ‬بالتجانس‭ ‬التام،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬التغييرات‭ ‬التي‭ ‬أحدثتها‭ ‬الكشوف‭ ‬الجغرافية‭ ‬والفتوحات‭ ‬الاستعمارية‭ ‬والثورات‭ ‬العلمية‭ ‬والتكنولوجية‭ ‬التي‭ ‬حوّلت‭ ‬العالم‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬القرية‭ ‬الكونية‭ ‬الواحدة‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬التنوّع‭ ‬والاختلاف‭ ‬داخل‭ ‬المجتمع‭ ‬البشري‭ ‬الواحد‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬إمكانية‭ ‬حدوث‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬شرائحه‭ ‬المتباينة‭ ‬الأصول‭ ‬والمصالح،‭ ‬وتلك‭ ‬هي‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬الوظائف‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬النظم‭ ‬السياسية‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬بها،‭ ‬خاصة‭ ‬النظم‭ ‬الديمقراطية‭.‬

ففاعلية‭ ‬أي‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬لا‭ ‬تقاس‭ ‬بسماته‭ ‬الشكلية‭ (‬جمهوري‭ ‬أو‭ ‬ملكي،‭ ‬رئاسي‭ ‬أو‭ ‬برلماني‭ ‬أو‭ ‬مختلط،‭ ‬إلخ‭...)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بمدى‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬التنوّع‭ ‬بطريقة‭ ‬تسمح‭ ‬لمختلف‭ ‬الشرائح‭ ‬الاجتماعية‭ ‬بالتعايش‭ ‬والعمل‭ ‬معا‭ ‬في‭ ‬وئام‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬‮«‬المجتمع‮»‬‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬المجتمعات‭ ‬البشرية‭ ‬المعاصرة،‭ ‬سواء‭ ‬بحكم‭ ‬طبيعته‭ ‬المصطنعة،‭ ‬أو‭ ‬بحكم‭ ‬أيديولوجيته‭ ‬السائدة‭ ‬والموجّهة‭ ‬لمجمل‭ ‬تفاعلاته‭. ‬فهو،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬مجتمع‭ ‬لم‭ ‬ينشأ‭ ‬نشأة‭ ‬طبيعية‭ ‬وتمّ‭ ‬تصنيعه‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬القوى‭ ‬الاستعمارية‭ ‬المتحكّمة‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬للقيام‭ ‬بوظيفة‭ ‬محددة،‭ ‬ألا‭ ‬وهي‭ ‬فصل‭ ‬مشرق‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬مغربه،‭ ‬والحيلولة‭ ‬دون‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬كبرى‭ ‬تحل‭ ‬محل‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬المحتضّرة،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تعد‭ ‬من‭ ‬أكثر‭ ‬مناطق‭ ‬العالم‭ ‬أهمية‭ ‬وحساسية‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬الجيوسياسي‭.‬

وهو،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬مجتمع‭ ‬استيطاني‭ ‬توسّعي‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬اغتصاب‭ ‬أراضي‭ ‬الغير،‭ ‬وتحكّمت‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬أيديولوجية‭ ‬عنصرية‭ ‬تستمد‭ ‬أفكارها‭ ‬من‭ ‬أساطير‭ ‬دينية‭ ‬تروّج‭ ‬لمقولة‭ ‬إن‭ ‬اليهود‭ ‬هم‭ ‬وحدهم‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬الله‭ ‬المختار‮»‬،‭ ‬وإن‭ ‬فلسطين‭ ‬هي‭ ‬‮«‬أرضهم‭ ‬الموعودة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يعودوا‭ ‬إليها‭ ‬بعد‭ ‬مرحلة‭ ‬شتات‭ ‬امتدت‭ ‬لما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬ألفي‭ ‬عام‭!. ‬

ولأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدور‭ ‬أحد‭ ‬تعيين‭ ‬حدود‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬التوراتية‮»‬‭ ‬المنشودة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬الدولة‭ ‬اليهودية‭ ‬التي‭ ‬أعلن‭ ‬قيامها‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬مجرد‭ ‬نقطة‭ ‬انطلاق‭ ‬نحو‭ ‬الغاية‭ ‬النهائية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬نزعة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬التوسعية‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬بنيتها‭ ‬وحرصها‭ ‬الدائم‭ ‬على‭ ‬مدّ‭ ‬حدودها‭ ‬الجغرافية‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬ما‭ ‬تستطيع‭ ‬قوتها‭ ‬العسكرية‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إليه‭.‬

فقد‭ ‬شهد‭ ‬‮«‬المجتمع‮»‬‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬منذ‭ ‬إعلان‭ ‬قيام‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬اليهودية‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬تطوّرات‭ ‬عميقة،‭ ‬صنعتها‭ ‬حالة‭ ‬الاستنفار‭ ‬العسكري‭ ‬والأمني‭ ‬والميل‭ ‬الدائم‭ ‬نحو‭ ‬التوسّع‭ ‬وضم‭ ‬أراضي‭ ‬الغير‭ ‬بالقوة،‭ ‬وذلك‭ ‬عبر‭ ‬سلسلة‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬من‭ ‬الحروب‭.‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬ادّعت‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬أنها‭ ‬قبلت‭ ‬بالحدود‭ ‬المرسومة‭ ‬في‭ ‬قرار‭ ‬تقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬عام‭ ‬1947‭ ‬كحدود‭ ‬دائمة‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬موقفها‭ ‬المعلن‭ ‬كان‭ ‬تكتيكاً‭ ‬خادعاً،‭ ‬وأن‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬تصرّ‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬تفويت‭ ‬أي‭ ‬فرصة‭ ‬تسنح‭ ‬لها‭ ‬لقضم‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والعربية‭.‬

وهو‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬فعلاً‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1948،‭ ‬والتي‭ ‬مكّنت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬توسيع‭ ‬رقعتها‭ ‬وزيادة‭ ‬مساحتها‭ ‬بنحو‭ ‬50%‭ ‬عن‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬قرار‭ ‬التقسيم،‭ ‬وأيضاً‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬1967،‭ ‬والتي‭ ‬مكّنت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬إكمال‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية،‭ ‬واحتلال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الجولان‭ ‬السورية‭ ‬وسيناء‭ ‬المصرية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

ورغم‭ ‬الادعاء‭ ‬بأنها‭ ‬لا‭ ‬تنوي‭ ‬ضم‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحرب،‭ ‬والاحتفاظ‭ ‬بها‭ ‬كرهينة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬نهائية‭ ‬للصراع‭ ‬العربي‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬التطورات‭ ‬اللاحقة‭ ‬أثبتت‭ ‬بما‭ ‬لا‭ ‬يدع‭ ‬مجالاً‭ ‬لأيّ‭ ‬شكّ‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬ترفض‭ ‬تسوية‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬معادلة‭ ‬‮«‬الأرض‭ ‬مقابل‭ ‬السلام‮»‬،‭ ‬وتفضّل‭ ‬التوسّع‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬سلام‭ ‬دائم‭ ‬وشامل‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

صحيح‭ ‬أنها‭ ‬انسحبت‭ ‬من‭ ‬سيناء،‭ ‬لكنها‭ ‬لم‭ ‬تقدم‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الخطوة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قبلت‭ ‬مصر‭ ‬نزع‭ ‬سلاح‭ ‬سيناء‭ ‬والتوقيع‭ ‬على‭ ‬معاهدة‭ ‬سلام‭ ‬منفردة،‭ ‬ولم‭ ‬تقبل‭ ‬أبداً‭ ‬بإعادة‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬كاملة،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬الأردن‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬رغم‭ ‬إقدام‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬‮«‬اتفاقية‭ ‬أوسلو‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1993،‭ ‬ورفضت‭ ‬رفضاً‭ ‬قاطعاً‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأراضي‭ ‬السورية‭ ‬المحتلة‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬بل‭ ‬وقرّرت‭ ‬ضم‭ ‬الجولان‭ ‬وفرض‭ ‬سيادتها‭ ‬الكاملة‭ ‬عليها‭ ‬بعد‭ ‬فشل‭ ‬المفاوضات‭ ‬التي‭ ‬درات‭ ‬عبر‭ ‬الوسيط‭ ‬الأمريكي‭ ‬عام‭ ‬1999‭.‬

ولأنّ‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تعتقد‭ ‬أن‭ ‬موازين‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬تميل‭ ‬لصالحها‭ ‬بشكل‭ ‬حاسم،‭ ‬فقد‭ ‬صوّر‭ ‬لها‭ ‬غرور‭ ‬القوة‭ ‬أنها‭ ‬تستطيع‭ ‬ضمّ‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وتصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬نهائياً،‭ ‬مع‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬تطبيع‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭.‬

لذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تردّد‭ ‬إن‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬باتت‭ ‬مقتنعة‭ ‬بأن‭ ‬الحدود‭ ‬الطبيعية‭ ‬للدولة‭ ‬اليهودية‭ ‬هي‭ ‬الحدود‭ ‬‮«‬التوراتية‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬نزعة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬التوسعية‭ ‬لن‭ ‬تتوقّف‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬تعتقد‭ ‬قطاعات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أنها‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬‮«‬من‭ ‬النيل‭ ‬إلى‭ ‬الفرات‮»‬‭.‬

فمع‭ ‬كلّ‭ ‬موجة‭ ‬من‭ ‬موجات‭ ‬التوسّع‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنقطع،‭ ‬كان‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬يزداد‭ ‬نمواً‭ ‬وتنوّعاً،‭ ‬بانضمام‭ ‬أعداد‭ ‬متزايدة‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬اليهود‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬مروحة‭ ‬تناقضاته‭ ‬الداخلية‭ ‬تتسع‭ ‬وتزداد‭ ‬عمقاً‭ ‬باضطراد‭.‬

كذلك‭ ‬كان‭ ‬حال‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬حيث‭ ‬راح‭ ‬نفوذ‭ ‬التيارات‭ ‬اليسارية‭ ‬والوسطية،‭ ‬وهي‭ ‬التيارات‭ ‬المؤسسة‭ ‬للدولة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬ينحسر‭ ‬ويتلاشى‭ ‬تدريجياً‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت،‭ ‬وتنتقل‭ ‬مواقع‭ ‬القيادة‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬تيارات‭ ‬أكثر‭ ‬يمينية‭ ‬وتطرّفا‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬ممهدة‭ ‬بذلك‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬نتنياهو‭ ‬لقيادة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬عشر‭ ‬سنوات،‭ ‬كما‭ ‬مهّدت‭ ‬الطريق‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬أمام‭ ‬التيارات‭ ‬الدينية‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرفاً‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬تتحكّم‭ ‬في‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬الراهنة‭.‬

وهذا‭ ‬هو‭ ‬السياق‭ ‬الذي‭ ‬اندلعت‭ ‬فيه‭ ‬أزمة‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬التي‭ ‬استهدفت‭ ‬تقليص‭ ‬دور‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وتمكين‭ ‬السلطتين‭ ‬التنفيذية‭ ‬والتشريعية‭ ‬من‭ ‬الهيمنة‭ ‬شبه‭ ‬الكاملة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭.‬

حدّة‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬الغاضبة‭ ‬التي‭ ‬أظهرها‭ ‬الشارع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تنقطع‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬العام‭ ‬الحالي،‭ ‬تدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تناقضات‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬التي‭ ‬تراكمت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة‭ ‬قد‭ ‬بدأت‭ ‬تنفجر‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬الجميع،‭ ‬وأصبح‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الحالي‭ ‬احتواؤها‭ ‬أو‭ ‬حلّها‭ ‬أو‭ ‬إيجاد‭ ‬مخرج‭ ‬حقيقي‭ ‬لها‭.‬

فقد‭ ‬عكست‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬المقترحة،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬حجم‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬أصاب‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬كما‭ ‬عكست،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬حجم‭ ‬المخاوف‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تترتّب‭ ‬على‭ ‬احتمال‭ ‬تحكّم‭ ‬الصهيونية‭ ‬الدينية‭ ‬في‭ ‬مصير‭ ‬حكومة‭ ‬نتنياهو‭ ‬الحالية‭. ‬فقد‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬العناصر‭ ‬فساداً‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الراهنة،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسهم‭ ‬نتنياهو‭ ‬نفسه،‭ ‬لها‭ ‬مصلحة‭ ‬شخصية‭ ‬في‭ ‬إقرار‭ ‬هذه‭ ‬التعديلات‭.‬

فإقرار‭ ‬التعديلات‭ ‬يتيح‭ ‬لنتنياهو‭ ‬إمكانية‭ ‬الإفلات‭ ‬من‭ ‬الملاحقة‭ ‬القضائية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬من‭ ‬احتمالات‭ ‬الإدانة‭ ‬والسجن،‭ ‬كما‭ ‬يتيح‭ ‬لشخصيات‭ ‬من‭ ‬أمثال‭ ‬درعي،‭ ‬رئيس‭ ‬حزب‭ ‬شاس،‭ ‬المستبعد‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬الحالية‭ ‬بسبب‭ ‬إدانته‭ ‬وسجنه‭ ‬في‭ ‬قضايا‭ ‬فساد،‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المنصب‭ ‬الإداري‭ ‬الذي‭ ‬فقده‭ ‬عقب‭ ‬تدخّل‭ ‬المحكمة‭ ‬العليا،‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬البعض‭ ‬وكأنها‭ ‬وسيلة‭ ‬لتقنين‭ ‬الفساد‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬يتيح‭ ‬أمام‭ ‬اليمين‭ ‬الديني‭ ‬المتطرف،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬فرصة‭ ‬لتغيير‭ ‬هوية‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وإضفاء‭ ‬مسحة‭ ‬دينية‭ ‬عليه،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدخال‭ ‬تعديلات‭ ‬جوهرية‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬التشريعات‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بالمرأة‭ ‬والأسرة،‭ ‬وحماية‭ ‬الحقوق‭ ‬والحريات‭ ‬الشخصية،‭ ‬إلخ‭.‬

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬التعديلات‭ ‬القضائية‭ ‬المقترحة‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تبدو‭ ‬وكأنها‭ ‬نتاج‭ ‬تحالف‭ ‬بين‭ ‬الفساد‭ ‬والاستبداد‭ ‬الديني،‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬حجم‭ ‬وحدة‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬التي‭ ‬يموج‭ ‬بها‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬والتي‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬قطاع‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬والأجهزة‭ ‬الأمنية،‭ ‬ويضع‭ ‬نتنياهو‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬لا‭ ‬يحسد‭ ‬عليه‭.‬

فنتنياهو،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬يؤيّد‭ ‬التعديلات‭ ‬ويسعى‭ ‬إلى‭ ‬تمريرها‭ ‬إنقاذاً‭ ‬لرقبته‭ ‬وسمعته‭ ‬الشخصية،‭ ‬وهو،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬المغامرة‭ ‬بتجميدها‭ ‬أو‭ ‬إلغائها،‭ ‬لأنّ‭ ‬ذلك‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬انسحاب‭ ‬حزب‭ ‬بن‭ ‬غفير‭ ‬من‭ ‬الائتلاف،‭ ‬ويعرّض‭ ‬حكومته‭ ‬بالتالي‭ ‬للتفكّك‭ ‬والانهيار‭. ‬لذا‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬يسعى‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬يملك‭ ‬من‭ ‬دهاء‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬المناورة‭ ‬لتجنّب‭ ‬حدوث‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬الثمن‭.‬

في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬يبدو‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬ومعه‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يحكمه،‭ ‬وكأنهما‭ ‬وصلا‭ ‬معاً‭ ‬إلى‭ ‬مفترق‭ ‬طرق‭. ‬فأغلبية‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬تدعم‭ ‬السياسات‭ ‬الحكومية‭ ‬الرافضة‭ ‬للانسحاب‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬العربية‭ ‬المحتلة‭ ‬ولقيام‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬الكفاية‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬التوجّه‭ ‬يصبّ‭ ‬لصالح‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف،‭ ‬خاصة‭ ‬اليمين‭ ‬الديني‭.‬

لكنها‭ ‬تتمتع‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬حيوية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬رفضها‭ ‬التام‭ ‬لتحويل‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬إلى‭ ‬مجتمع‭ ‬‮«‬توراتي‮»‬،‭ ‬تتحكّم‭ ‬فيه‭ ‬تيارات‭ ‬الصهيونية‭ ‬الدينية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظام‭ ‬سياسي‭ ‬شبه‭ ‬تسلطي‭ ‬أو‭ ‬شمولي،‭ ‬لا‭ ‬يحترم‭ ‬قاعدة‭ ‬الفصل‭ ‬والتوازن‭ ‬بين‭ ‬السلطات،‭ ‬وتُحرَم‭ ‬فيه‭ ‬السلطة‭ ‬القضائية‭ ‬من‭ ‬التمتّع‭ ‬بما‭ ‬يكفي‭ ‬من‭ ‬استقلالية،‭ ‬تتيح‭ ‬لها‭ ‬سلطة‭ ‬الرقابة‭ ‬القانونية‭ ‬على‭ ‬قرارات‭ ‬الحكومة‭ ‬وعلى‭ ‬تشريعات‭ ‬الكنيست‭.‬

ولأنها‭ ‬تناقضات‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للحل،‭ ‬يخشى‭ ‬أن‭ ‬تستمر‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬في‭ ‬التفاعل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينفجر‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتمكّن‭ ‬نتنياهو‭ ‬من‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬بإشعال‭ ‬الحرب‭ ‬على‭ ‬إحدى‭ ‬جبهات‭ ‬المقاومة‭ ‬التي‭ ‬تحيط‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جانب‭. ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬الهرب‭ ‬فسيكون‭ ‬ذلك‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬فقط،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فسرعان‭ ‬ما‭ ‬سترتد‭ ‬عليه‭ ‬تفاعلات‭ ‬الأزمة‭ ‬التي‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تحكم‭ ‬الحصار‭ ‬المضروب‭ ‬حوله‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

لذا‭ ‬لا‭ ‬أستبعد‭ ‬شخصيا‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬هي‭ ‬البداية‭ ‬الفعلية‭ ‬لتفكّك‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬وهو‭ ‬تطوّر‭ ‬يلقي‭ ‬على‭ ‬قادة‭ ‬المقاومة‭ ‬مسؤولية‭ ‬التعامل‭ ‬معه‭ ‬بالذكاء‭ ‬والحنكة‭ ‬المطلوبين‭. ‬سوف‭ ‬تتفاعل‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬داخل‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬مداها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬وسيظل‭ ‬نتنياهو‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬فرصة‭ ‬للتهرّب‭ ‬من‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬فيه‭!‬

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا