العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن «الدخلاء» على مهنة التسول

أحرص‭ ‬كثيرا،‭ ‬وقدر‭ ‬المستطاع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أمينا‭ ‬مع‭ ‬نفسي‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أمينا‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬ومن‭ ‬عاداتي‭ ‬الحميدة‭ ‬القليلة‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أحب‭ ‬اللولوة‭ ‬واللفلفة‭ ‬والاستكراد‭ ‬والاستعباط،‭ ‬وأنفر‭ ‬من‭ ‬الغبي‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬التذاكي‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬بالكذب‭ ‬وفبركة‭ ‬وقائع‭ ‬بلا‭ ‬رأس‭ ‬أو‭ ‬أساس،‭ ‬وهو‭ ‬يحسب‭ ‬أنه‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬عقول‭ ‬الآخرين،‭ ‬ويقنعهم‭ ‬بوجاهة‭ ‬وصدق‭ ‬ما‭ ‬يقول،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬صرت‭ ‬في‭ ‬حيرة‭ ‬من‭ ‬أمري‭ ‬إزاء‭ ‬المتسولين‭: ‬هل‭ ‬الشخص‭ ‬الجالس‭ ‬أو‭ ‬الواقف‭ ‬أمامي‭ ‬فقير‭ ‬ومحتاج‭ ‬ومعاق‭ ‬حقا‭ ‬أم‭ ‬أنه‭ ‬مستهبل‭ ‬وأفاق‭ ‬وطفيلي؟‭  ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬رأيت‭ ‬وسمعت‭ ‬عن‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬امتهنوا‭ ‬التسول‭ ‬لأنها‭ ‬مهنة‭ ‬بلا‭ ‬رأس‭ ‬مال‭ ‬سوى‭ ‬قلة‭ ‬الحياء‭ ‬والوازع‭ ‬الديني‭ ‬والأخلاقي،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يستعيرون‭ ‬أطفالا‭ ‬رُضّعا‭ ‬من‭ ‬آخرين‭ ‬لاستخدامهم‭ ‬في‭ ‬الحر‭ ‬والقر‭ ‬لاستدرار‭ ‬عطف‭ ‬الناس،‭ ‬أي‭ ‬باستخدام‭ ‬الصغار‭ ‬أداة‭ ‬للتسول‭: ‬أنا‭ ‬أرملة‭ ‬وصغيري‭ ‬هذا‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬علاج‭ ‬وعندي‭ ‬غيره‭ ‬أربعة‭ ‬يقيمون‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الكرتون،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬عصابات‭ ‬تلحق‭ ‬عاهات‭ ‬حقيقية‭ ‬بأطفال‭ ‬الشوارع‭ ‬كي‭ ‬يعملوا‭ ‬لحسابهم‭ ‬في‭ ‬التسول‭.‬

وكانت‭ ‬أول‭ ‬تجربة‭ ‬لي‭ ‬مع‭ ‬التسول‭ ‬بالاستهبال،‭ ‬خلال‭ ‬توقف‭ ‬قطارنا‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬بإحدى‭ ‬المدن‭ ‬السودانية،‭ ‬إذ‭ ‬دخل‭ ‬علينا‭ ‬صبي‭ ‬ويده‭ ‬اليسرى‭ ‬ترتجف‭ ‬بشدة‭ ‬طالباً‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬فمد‭ ‬رجل‭ ‬يجلس‭ ‬إلى‭ ‬جواري‭ ‬يده‭ ‬بخمسة‭ ‬قروش‭ (‬وكانت‭ ‬وقتها‭ ‬تكفي‭ ‬لشراء‭ ‬نصف‭ ‬‮«‬كيلومتر‮»‬‭ ‬من‭ ‬اللحم‭) ‬إلى‭ ‬الصبي‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬هذا‭ ‬المبلغ‭ ‬لك‭ ‬إذا‭ ‬جعلت‭ ‬يدك‭ ‬اليسرى‭ ‬ثابتة‭ ‬ونقلت‭ ‬الرجفة‭ ‬إلى‭ ‬اليمنى،‭ ‬فابتسم‭ ‬الصبي،‭ ‬وصارت‭ ‬يده‭ ‬اليسرى‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مصابة‭ ‬بالرجفة‭ ‬سليمة،‭ ‬وبدأت‭ ‬يده‭ ‬اليمنى‭ ‬تهتز‭ ‬وكأنها‭ ‬ستنخلع‭ ‬من‭ ‬كتفه،‭ ‬فناوله‭ ‬صاحبنا‭ ‬القروش‭ ‬الخمسة‭ ‬ثم‭ ‬صفعه‭ ‬حتى‭ ‬انتقلت‭ ‬الرجفة‭ ‬إلى‭ ‬وجهه‭ ‬فولى‭ ‬هاربا‭.‬

وسمعنا‭ ‬عن‭ ‬الخادمة‭ ‬الآسيوية‭ ‬التي‭ ‬وضعت‭ ‬رضيعا‭ ‬في‭ ‬رعايتها‭ ‬في‭ ‬الغسالة‭ ‬الكهربائية‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬كتلة‭ ‬من‭ ‬اللحم‭ ‬المفروم،‭ ‬وعن‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬حاولت‭ ‬قتل‭ ‬ربة‭ ‬البيت،‭ ‬والثالثة‭ ‬التي‭ ‬سرقت‭ ‬ما‭ ‬سرقت،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬كوم‭ ‬وما‭ ‬نقلته‭ ‬الصحف‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬الخادمة‭ ‬التي‭ ‬اعتقلتها‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬مكة‭ ‬المكرمة‭ ‬وهي‭ ‬تحمل‭ ‬طفلاً‭ ‬زعمت‭ ‬أنه‭ ‬ابنها‭ ‬الذي‭ ‬مات‭ ‬أبوه‭ ‬أثناء‭ ‬هجوم‭ ‬الشرطة‭ ‬في‭ ‬ماينمار‭ ‬على‭ ‬المسلمين‭ ‬الروهينجيا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتضح‭ ‬أنه‭ ‬ابن‭ ‬كفلائها‭ ‬الذين‭ ‬أوكلوا‭ ‬إليها‭ ‬رعايته‭ ‬فاستخدمته‭ ‬لاستدرار‭ ‬عطف‭ ‬الناس‭. ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬مال‭ ‬يعينها‭ ‬على‭ ‬الهرب‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬وطنها‭.‬

قبل‭ ‬سنوات‭ ‬ليست‭ ‬بالبعيدة‭ ‬جاءني‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬شاب‭ ‬مبهدل‭ ‬الثياب‭ ‬والمظهر،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬فتح‭ ‬فمه‭ ‬حتى‭ ‬أسأت‭ ‬به‭ ‬الظن،‭ ‬فقد‭ ‬بدأ‭ ‬يقول‭ ‬كلاماً‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬الكل‭ ‬يعرف‭ ‬أنك‭ ‬فاعل‭ ‬خير‭ ‬وشهم‭ ‬ومحسن‭ ‬ولا‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬مساعدة‭ ‬المحتاجين‭!  ‬من‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أسيء‭ ‬الظن‭ ‬بشخص‭ ‬يمدحني‭ ‬بكلام‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬كذب‭ ‬في‭ ‬معظمه،‭ ‬ف‭ ‬‮«‬الكل‮»‬‭ ‬لا‭ ‬يعرفني،‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬عني‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الخصال‭ ‬الطيبة،‭ ‬نعم‭ ‬مثل‭ ‬كثيرين‭ ‬غيري‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬فعل‭ ‬الخير‭ ‬ومساعدة‭ ‬من‭ ‬يلجأ‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‬إمكاناتي‭ ‬المحدودة‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يجعل‭ ‬مني‭ ‬‮«‬محسناً‮»‬‭ ‬ذائع‭ ‬الصيت،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الحالات‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬قدمت‭ ‬فيها‭ ‬إلى‭ ‬آخرين‭ ‬مساعدات‭ ‬تعتبر‭ ‬‮«‬كبيرة‮»‬‭ ‬فإنني‭ ‬لم‭ ‬أقم‭ ‬بإعلان‭ ‬ذلك‭.. ‬المهم‭ ‬قلت‭ ‬لصاحبنا‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬هات‭ ‬من‭ ‬الآخر،‭ ‬فحكى‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬كفيله‭ ‬الظالم‭ ‬الذي‭ ‬حرمه‭ ‬من‭ ‬راتب‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬ثم‭ ‬أنهى‭ ‬خدماته،‭ ‬وقال‭ ‬إنه‭ ‬مريض‭ ‬ولديه‭ ‬شهادات‭ ‬طبية‭ ‬تثبت‭ ‬ذلك‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يريده‭ ‬هو‭ ‬قيمة‭ ‬تذاكر‭ ‬السفر‭ ‬التي‭ ‬ستعيده‭ ‬إلى‭ ‬وطنه،‭ ‬وتأكيداً‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭ ‬مد‭ ‬لي‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأوراق‭ ‬والشهادات‭ ‬الطبية‭ ‬المختومة،‭ ‬ولسوء‭ ‬حظه‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬فواتير‭ ‬شحن‭ ‬أمتعة‭ ‬جواً‭ ‬بقيمة‭ ‬تناهز‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭.  ‬وتحول‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬إلى‭ ‬ثور‭ ‬هائج‭: ‬اخرج‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬يا‭ ‬تافه‭ ‬يا‭ ‬حقير‭ ‬ومزقت‭ ‬الأوراق‭ ‬وألقيت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬الهواء،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬هرب‭ ‬الرجل‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬على‭ ‬حماقة‭ ‬ضربه‭.‬

‭(‬الدخيل‭ ‬على‭ ‬مهنة‭ ‬التسول‭ ‬هو‭ ‬القادر‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬ولكنه‭ ‬يستسهل‭ ‬التسول‭)‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا