زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن «الدخلاء» على مهنة التسول
أحرص كثيرا، وقدر المستطاع على أن أكون أمينا مع نفسي قبل أن أكون أمينا مع الآخرين، ومن عاداتي الحميدة القليلة أنني لا أحب اللولوة واللفلفة والاستكراد والاستعباط، وأنفر من الغبي الذي يحاول التذاكي على الآخرين، بالكذب وفبركة وقائع بلا رأس أو أساس، وهو يحسب أنه يضحك على عقول الآخرين، ويقنعهم بوجاهة وصدق ما يقول، ومن ثم فقد صرت في حيرة من أمري إزاء المتسولين: هل الشخص الجالس أو الواقف أمامي فقير ومحتاج ومعاق حقا أم أنه مستهبل وأفاق وطفيلي؟ ذلك أنني رأيت وسمعت عن عدد كبير من الناس امتهنوا التسول لأنها مهنة بلا رأس مال سوى قلة الحياء والوازع الديني والأخلاقي، بل من المعروف أن هناك من يستعيرون أطفالا رُضّعا من آخرين لاستخدامهم في الحر والقر لاستدرار عطف الناس، أي باستخدام الصغار أداة للتسول: أنا أرملة وصغيري هذا بحاجة إلى علاج وعندي غيره أربعة يقيمون في بيت من الكرتون، وفي بعض الدول عصابات تلحق عاهات حقيقية بأطفال الشوارع كي يعملوا لحسابهم في التسول.
وكانت أول تجربة لي مع التسول بالاستهبال، خلال توقف قطارنا في محطة بإحدى المدن السودانية، إذ دخل علينا صبي ويده اليسرى ترتجف بشدة طالباً بعض المال، فمد رجل يجلس إلى جواري يده بخمسة قروش (وكانت وقتها تكفي لشراء نصف «كيلومتر» من اللحم) إلى الصبي وقال له: هذا المبلغ لك إذا جعلت يدك اليسرى ثابتة ونقلت الرجفة إلى اليمنى، فابتسم الصبي، وصارت يده اليسرى التي كانت مصابة بالرجفة سليمة، وبدأت يده اليمنى تهتز وكأنها ستنخلع من كتفه، فناوله صاحبنا القروش الخمسة ثم صفعه حتى انتقلت الرجفة إلى وجهه فولى هاربا.
وسمعنا عن الخادمة الآسيوية التي وضعت رضيعا في رعايتها في الغسالة الكهربائية حتى صار كتلة من اللحم المفروم، وعن تلك التي حاولت قتل ربة البيت، والثالثة التي سرقت ما سرقت، ولكن كل ذلك كوم وما نقلته الصحف عن تلك الخادمة التي اعتقلتها الشرطة في مكة المكرمة وهي تحمل طفلاً زعمت أنه ابنها الذي مات أبوه أثناء هجوم الشرطة في ماينمار على المسلمين الروهينجيا، بعد أن اتضح أنه ابن كفلائها الذين أوكلوا إليها رعايته فاستخدمته لاستدرار عطف الناس. للحصول على مال يعينها على الهرب والعودة إلى وطنها.
قبل سنوات ليست بالبعيدة جاءني في مكتبي شاب مبهدل الثياب والمظهر، وما أن فتح فمه حتى أسأت به الظن، فقد بدأ يقول كلاماً من شاكلة: الكل يعرف أنك فاعل خير وشهم ومحسن ولا تتردد في مساعدة المحتاجين! من حقي أن أسيء الظن بشخص يمدحني بكلام أعرف أنه كذب في معظمه، ف «الكل» لا يعرفني، دعك من أنهم يعرفون عني كل تلك الخصال الطيبة، نعم مثل كثيرين غيري أحرص على فعل الخير ومساعدة من يلجأ إليّ في حدود إمكاناتي المحدودة ولكن ذلك لا يجعل مني «محسناً» ذائع الصيت، وحتى في الحالات القليلة التي قدمت فيها إلى آخرين مساعدات تعتبر «كبيرة» فإنني لم أقم بإعلان ذلك.. المهم قلت لصاحبنا ما معناه: هات من الآخر، فحكى لي عن كفيله الظالم الذي حرمه من راتب ستة أشهر ثم أنهى خدماته، وقال إنه مريض ولديه شهادات طبية تثبت ذلك وأن كل ما يريده هو قيمة تذاكر السفر التي ستعيده إلى وطنه، وتأكيداً لكل ذلك مد لي مجموعة من الأوراق والشهادات الطبية المختومة، ولسوء حظه كانت من بينها فواتير شحن أمتعة جواً بقيمة تناهز ثلاثة آلاف دولار. وتحول أبو الجعافر إلى ثور هائج: اخرج من هنا يا تافه يا حقير ومزقت الأوراق وألقيت بها في الهواء، ولحسن حظي هرب الرجل قبل أن أقدم على حماقة ضربه.
(الدخيل على مهنة التسول هو القادر على العمل ولكنه يستسهل التسول)
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك