العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما تكون المكاتب تكية بدون بواب

عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬أتانا‭ ‬مدير‭ ‬‮«‬جديد‮»‬،‭ ‬وبعد‭ ‬دراسة‭ ‬الأحوال‭ ‬والملفات‭ ‬أشهرا‭ ‬قليلة‭ ‬اتخذ‭ ‬قراراً‭ ‬بإنهاء‭ ‬خدمات‭ ‬130‭ ‬موظفاً‭ ‬وموظفة‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬واحد،‭ ‬وكانت‭ ‬نتيجة‭ ‬ذلك‭ ‬الإجراء‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬قاسياً‭ ‬ان‭ ‬أداء‭ ‬التلفزيون‭ ‬شهد‭ ‬تحسناً‭ ‬ملموسا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬الجيش‭ ‬الجرار‭ ‬من‭ ‬الموظفين‭ ‬يرهق‭ ‬ميزانية‭ ‬التلفزيون،‭ ‬وكان‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬أنهيت‭ ‬خدماتهم‭ ‬يحتل‭ ‬مكاتب‭ ‬ضخمة‭ ‬وفخمة،‭ ‬بينما‭ ‬كنا‭ ‬نضطر‭ ‬إلى‭ ‬حفظ‭ ‬أشرطة‭ ‬الفيديو‭ ‬في‭ ‬الحمامات‭ ‬بعد‭ ‬تعطيل‭ ‬المواسير‭ ‬فيها‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬ضيق‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لمكتبة‭ ‬الفيديو،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الغالبية‭ ‬العظمى‭ ‬ممن‭ ‬تم‭ ‬طردهم‭ ‬غير‭ ‬معروفين‭ ‬لدى‭ ‬بقية‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬التلفزيون؛‭ ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬دون‭ ‬يؤدوا‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬بل‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬أقدام‭ ‬بعضهم‭ ‬مبنى‭ ‬التلفزيون‭. (‬أحد‭ ‬ولاة‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬المضطرب‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬السودان‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬شهد‭ ‬تخصيص‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬كرواتب‭ ‬لموظفين‭ ‬وعمال‭ ‬وهميين،‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حكومة‭ ‬الرئيس‭ ‬المخلوع‭ ‬بأمر‭ ‬الشعب‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬نظيرا‭ ‬لرئيس‭ ‬الحكومة‭ ‬العراقي‭ ‬الأسبق‭ ‬نوري‭ ‬المالكي‭ ‬الذي‭ ‬أنفقت‭ ‬حكومته‭ ‬مليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬على‭ ‬أسلحة‭ ‬وهمية،‭ ‬وكانت‭ ‬تدفع‭ ‬رواتب‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬مائة‭ ‬ألف‭ ‬من‭ ‬الجنود‭ ‬والضباط‭ ‬الأشباح‭).‬

وفي‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬شقية‭ (‬إذا‭ ‬أردت‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬‮«‬شقيقة‮»‬‭ ‬فأنت‭ ‬حر،‭ ‬ولكنني‭ ‬شخصيا‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬واحدة‭ ‬ترتبط‭ ‬مع‭ ‬أخرى‭ ‬بعلاقات‭ ‬أخوة‭ ‬صادقة‭ ‬تجعلهما‭ ‬شقيقتين‭)‬،‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬وزير‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الدولة‭ ‬أعلن‭ ‬اكتشاف‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬60‭ ‬ألف‭ ‬مواطن‭ ‬يتقاضون‭ ‬أجوراً‭ ‬من‭ ‬الدولة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يمارسوا‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬بل‭ ‬اكتشف‭ ‬أن‭ ‬بضعة‭ ‬آلاف‭ ‬منهم‭ ‬أشخاص‭ ‬حقيقيون‭ ‬ولكنهم‭ ‬لم‭ ‬يبلغوا‭ ‬السن‭ ‬القانونية‭ ‬للعمل،‭ ‬يعني‭ ‬دون‭ ‬سن‭ ‬الـ18،‭ ‬وآلاف‭ ‬أخرى‭ ‬بلغوا‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭ ‬ولكنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتبهم‭ ‬على‭ ‬‮«‬داير‭ ‬المليم‮»‬‭ -‬وفوقها‭ ‬بالطبع‭ ‬معاش‭ ‬التقاعد‭!- ‬وغيرهم‭ ‬يشغل‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وظيفة‭ ‬حكومية‭ (‬على‭ ‬الورق‭ ‬طبعا‭) ‬ويتقاضى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬راتب‭ ‬واحد‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬المتواضعون‮»‬‭ ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬عن‭ ‬وظيفة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ (‬يا‭ ‬عيني‭) ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تطأ‭ ‬أقدامهم‭ ‬المكاتب‭ ‬التي‭ ‬يفترض‭ ‬أنهم‭ ‬يعملون‭ ‬فيها‭.‬

الوزير‭ ‬العربي‭ ‬هذا‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬عدد‭ ‬العمالة‭ ‬الفائضة‭/‬الوهمية‭ ‬تلك‭ ‬60‭ ‬ألفا،‭ ‬وأنا‭ ‬أقول‭ ‬له‭: ‬فيك‭ ‬الخير،‭ ‬خليها‭ ‬160‭ ‬ألفا،‭ ‬لأنه‭ ‬العدد‭ ‬الأقرب‭ ‬إلى‭ ‬التصديق‭ ‬والواقعية،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬قليل‭ ‬السكان،‭ ‬ولو‭ ‬تم‭ ‬إجراء‭ ‬مسح‭ ‬دقيق‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬ذات‭ ‬الكثافة‭ ‬السكانية‭ ‬العالية‭ ‬لاتضح‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬المستهبلين‭ ‬الذين‭ ‬يتقاضون‭ ‬رواتب‭ ‬بالأونطة‭ ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬يصل‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬مليون‭.‬

تذكرت‭ ‬منسي‭ ‬صديق‭ ‬الروائي‭ ‬السوداني‭ ‬الراحل‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬ترك‭ ‬الطيب‭ ‬عمله‭ ‬في‭ ‬إذاعة‭ ‬هنا‭ ‬لندن‭ (‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬منسي‭ ‬يعمل‭ ‬مدرساً‭ ‬في‭ ‬لندن،‭ ‬ويشغل‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬وظيفة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬الطيب‭ ‬صالح‭ ‬بذلك،‭ ‬فكان‭ ‬يسند‭ ‬إليه‭ ‬بعض‭ ‬الأدوار‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬الإذاعية،‭ ‬فيتقاضى‭ ‬نظير‭ ‬ذلك‭ ‬مكافأة‭ ‬كبيرة،‭ ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬مكافأة‭ ‬المتعاون‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬الهيئة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬مكافأة‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬الهيئة،‭ ‬وحسبت‭ ‬إدارة‭ ‬الإذاعة‭ ‬أن‭ ‬الطيب‭ ‬‮«‬تعمد‮»‬‭ ‬مجاملة‭ ‬صديقه‭ ‬ومنحه‭ ‬مكافأة‭ ‬لا‭ ‬يستحقها،‭ ‬ولأن‭ ‬الطيب‭ ‬سوداني‭ -‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬رأسه‭ ‬ناشف‭- ‬فقد‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬تهمة‭ ‬المحاباة‭ ‬من‭ ‬منطلق‭ ‬اعتقاده‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يجوز‭ ‬لإدارة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬مجرد‭ ‬إساءة‭ ‬الظن‭ ‬به،‭ ‬وانتهى‭ ‬به‭ ‬الأمر‭ ‬مستقيلا‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬بالإذاعة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬مرشحاً‭ ‬لتبوء‭ ‬أعلى‭ ‬المناصب‭ ‬فيها‭ ‬ثم‭ ‬أكرمه‭ ‬الله‭ ‬وصار‭ ‬مديرا‭ ‬لوزارة‭ ‬الإعلام‭ ‬في‭ ‬قطر‭ ‬ثم‭ ‬خبيرا‭ ‬في‭ ‬منظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬للتربية‭ ‬والعلوم‭ ‬والثقافة‭ (‬اليونسكو‭) ‬في‭ ‬باريس‭.‬

لن‭ ‬تقوم‭ ‬لنا‭ ‬قائمة‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬الأجهزة‭ ‬الحكومية‭ ‬عندنا‭ ‬تدار‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬خيري‭: ‬خلق‭ ‬وظائف‭ ‬وهمية‭ ‬وتكديس‭ ‬الموظفين‭ ‬في‭ ‬الدواوين‭ ‬لـ«محاربة‭ ‬البطالة‮»‬‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا