زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ضربة بحجر توقظ الضمير
هذه حكاية ذائعة الانتشار عبر الوسائط، وأود ان أتوقف عندها لأنني أحسب أنها حتى لو لم تكن واقعية فيها الكثير من العظات والعبر: كان الشاب يقود سيارته بي إم دبليو الجديدة، في شارع داخل حي سكني بسرعة فائقة، منتشيا لكونه ناجحا في عمله، بعد ان صار مدير إدارة قبل ان يبلغ الـ 27، وخطب فتاة جميلة، ولديه رصيد مصرفي معتبر (استفهام صادق: متى يكون مبلغ من المال «معتبرا»؟ كذا ألف أم كذا مليون؟ ثم ما معنى ان الشيء بـ«رخص التراب»؟ أليس في هذا استخفاف بتراب الوطن، ونحن نردد آناء الليل وأطراف النهار عن استعدادنا للموت دفاعا عن تراب الوطن؟ لماذا نبذل أرواحا غالية دفاعا عن شيء نعتبره رخيصا؟).
المهم أن صاحب السيارة الفارهة والمنصب الرفيع والخطيبة العجرمية لاحظ خلو الشارع من الأطفال، مما جعله يسعد بالتمايل بالسيارة يمنة ويسرة، وهو ينطلق بسرعة فائقة، وفجأة رأى حجرا كبيرا يشق طريقه في الهواء صوب سيارته فقام بمناورة لتفاديه ولكن الحجر ضرب الباب الخلفي للسيارة، فأوقفها ونزل منها فإذا هي «منبعجة» حيث أصابها الحجر، وتلفت فلم يجد في الشارع سوى صبي يستتر وراء جدار، فأمسك به وهو يصيح: من الذي ألقى الحجر على سيارتي يا ابن الكذا وكذا؟ أنظر حجم التلف الذي لحق بها! ونزلت الدموع من وجه الصبي وقال: سامحني لأنني من رمى ذلك الحجر لأنه لم يكن أمامي من طريقة أخرى! طريقة أخرى لماذا يا ولد يا أهبل يا حاقد يا ناقص التربية؟ أجاب الصبي بكل عفوية: حاولت إيقاف السيارات المارة ولكنها جميعا لم تستجب لمحاولاتي، فقررت إيقافك بضرب سيارتك بحجر! ولماذا تريد إيقافي؟ هل تعرفني؟ هل بيني وبينك ثأر؟ هل «كنت خلفتك ونسيتك»؟
هنا تحول بكاء الصبي الى نشيح ونحيب وقال بصوت مرتعد: إنه أخي هناك قرب تلك السيارة. لقد سقط من كرسيه المتحرك وعجزت عن رفعه على الكرسي واضطررت لإيقافك بتلك الطريقة كي تساعدني! لأن توسلاتي للمارة ضاعت سدى. أرجوك ساعدني. فنظر الشاب الى حيث أشار الصبي فرأى كرسيا بعجلات مقلوبا وفي حفرة قريبة منه شاب كان واضحا أنه يعاني من إعاقة تمنعه من الحركة. هز الموقف الشاب صاحب البي إم دبليو وتحول غضبه الى حزن مشوب بالخجل، وفي غضون دقائق كان قد أجلس الشاب المعاق على الكرسي ثم أخرج منديله المعطر النظيف ومسح عن وجهه التراب، واطمأن الى أنه لم يصب بسوء فوق الذي يعاني منه سلفا جراء السقوط في الحفرة، وهكذا تصافحا بينما لسان الصبي يلهج بشكر الشاب صاحب السيارة الفارهة على شهامته ونبله.
وعاد صاحبنا الى سيارته ولاحظ ان الحجر الحق بها تلفا بليغا ولكنه قرر الإبقاء على «الطعجة والانبعاج» كي يتذكر أن عليه عدم الاندفاع في الحياة حتى لا يكون بحاجة الى من يلقي عليه حجرا، لينبهه إلى أنه لن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا، أو ليقول له ما قاله أبو العلاء المعري: خفف الوطأ ما أظن أديم الأرض إلا من هذا الأجساد.
كثيرون منا يمتلئون تيها وخيلاء لأنهم صاروا «فوق» وينسون أنهم مثلي ومثلك من لحم ودم ومشاعر وعرضة للمرض والألم والفقد والخسارة، فترمي الأقدار بحجارة في وجوههم او جنوبهم ليفيقوا. المدير الذي يذرع الممرات بين المكاتب وحذاؤه يصدر إيقاعات منغمة: كك كرك كك كرك.. وتمنعه تلك الإيقاعات عن سماع التحيات التي يلقيها عليه الموظفون وشكاواهم ومظالمهم، قد يأتيه حجر على هيئة تقرير من ديوان المحاسبة يكشف تجاوزاته المالية أو قرار بإنهاء خدماته. عندها يتذكر انه خصم راتب أسبوع من موظف راتبه بضع دريهمات وأنه «فنَّش» عاملا في مكتبه لأنه رفض غسل سيارته بلا مقابل.
فلنشق طريقنا في الحياة بلا اندفاع أو خيلاء.. فالمطبات كثيرة ولكل شيء ضده!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك