العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ضربة بحجر توقظ الضمير

هذه‭ ‬حكاية‭ ‬ذائعة‭ ‬الانتشار‭ ‬عبر‭ ‬الوسائط،‭ ‬وأود‭ ‬ان‭ ‬أتوقف‭ ‬عندها‭ ‬لأنني‭ ‬أحسب‭ ‬أنها‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬واقعية‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬العظات‭ ‬والعبر‭: ‬كان‭ ‬الشاب‭ ‬يقود‭ ‬سيارته‭ ‬بي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬الجديدة،‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬داخل‭ ‬حي‭ ‬سكني‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة،‭ ‬منتشيا‭ ‬لكونه‭ ‬ناجحا‭ ‬في‭ ‬عمله،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬صار‭ ‬مدير‭ ‬إدارة‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬يبلغ‭ ‬الـ‭ ‬27،‭ ‬وخطب‭ ‬فتاة‭ ‬جميلة،‭ ‬ولديه‭ ‬رصيد‭ ‬مصرفي‭ ‬معتبر‭ (‬استفهام‭ ‬صادق‭: ‬متى‭ ‬يكون‭ ‬مبلغ‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬‮«‬معتبرا»؟‭ ‬كذا‭ ‬ألف‭ ‬أم‭ ‬كذا‭ ‬مليون؟‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬معنى‭ ‬ان‭ ‬الشيء‭ ‬بـ«رخص‭ ‬التراب»؟‭ ‬أليس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬استخفاف‭ ‬بتراب‭ ‬الوطن،‭ ‬ونحن‭ ‬نردد‭ ‬آناء‭ ‬الليل‭ ‬وأطراف‭ ‬النهار‭ ‬عن‭ ‬استعدادنا‭ ‬للموت‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬تراب‭ ‬الوطن؟‭ ‬لماذا‭ ‬نبذل‭ ‬أرواحا‭ ‬غالية‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬شيء‭ ‬نعتبره‭ ‬رخيصا؟‭).‬

المهم‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬الفارهة‭ ‬والمنصب‭ ‬الرفيع‭ ‬والخطيبة‭ ‬العجرمية‭ ‬لاحظ‭ ‬خلو‭ ‬الشارع‭ ‬من‭ ‬الأطفال،‭ ‬مما‭ ‬جعله‭ ‬يسعد‭ ‬بالتمايل‭ ‬بالسيارة‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬وهو‭ ‬ينطلق‭ ‬بسرعة‭ ‬فائقة،‭ ‬وفجأة‭ ‬رأى‭ ‬حجرا‭ ‬كبيرا‭ ‬يشق‭ ‬طريقه‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬صوب‭ ‬سيارته‭ ‬فقام‭ ‬بمناورة‭ ‬لتفاديه‭ ‬ولكن‭ ‬الحجر‭ ‬ضرب‭ ‬الباب‭ ‬الخلفي‭ ‬للسيارة،‭ ‬فأوقفها‭ ‬ونزل‭ ‬منها‭ ‬فإذا‭ ‬هي‭ ‬‮«‬منبعجة‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬أصابها‭ ‬الحجر،‭ ‬وتلفت‭ ‬فلم‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬سوى‭ ‬صبي‭ ‬يستتر‭ ‬وراء‭ ‬جدار،‭ ‬فأمسك‭ ‬به‭ ‬وهو‭ ‬يصيح‭: ‬من‭ ‬الذي‭ ‬ألقى‭ ‬الحجر‭ ‬على‭ ‬سيارتي‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬الكذا‭ ‬وكذا؟‭ ‬أنظر‭ ‬حجم‭ ‬التلف‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بها‭! ‬ونزلت‭ ‬الدموع‭ ‬من‭ ‬وجه‭ ‬الصبي‭ ‬وقال‭: ‬سامحني‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬رمى‭ ‬ذلك‭ ‬الحجر‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أمامي‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬أخرى‭! ‬طريقة‭ ‬أخرى‭ ‬لماذا‭ ‬يا‭ ‬ولد‭ ‬يا‭ ‬أهبل‭ ‬يا‭ ‬حاقد‭ ‬يا‭ ‬ناقص‭ ‬التربية؟‭ ‬أجاب‭ ‬الصبي‭ ‬بكل‭ ‬عفوية‭: ‬حاولت‭ ‬إيقاف‭ ‬السيارات‭ ‬المارة‭ ‬ولكنها‭ ‬جميعا‭ ‬لم‭ ‬تستجب‭ ‬لمحاولاتي،‭ ‬فقررت‭ ‬إيقافك‭ ‬بضرب‭ ‬سيارتك‭ ‬بحجر‭! ‬ولماذا‭ ‬تريد‭ ‬إيقافي؟‭ ‬هل‭ ‬تعرفني؟‭ ‬هل‭ ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬ثأر؟‭ ‬هل‭ ‬‮«‬كنت‭ ‬خلفتك‭ ‬ونسيتك»؟‭ ‬

هنا‭ ‬تحول‭ ‬بكاء‭ ‬الصبي‭ ‬الى‭ ‬نشيح‭ ‬ونحيب‭ ‬وقال‭ ‬بصوت‭ ‬مرتعد‭: ‬إنه‭ ‬أخي‭ ‬هناك‭ ‬قرب‭ ‬تلك‭ ‬السيارة‭. ‬لقد‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬كرسيه‭ ‬المتحرك‭ ‬وعجزت‭ ‬عن‭ ‬رفعه‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬واضطررت‭ ‬لإيقافك‭ ‬بتلك‭ ‬الطريقة‭ ‬كي‭ ‬تساعدني‭! ‬لأن‭ ‬توسلاتي‭ ‬للمارة‭ ‬ضاعت‭ ‬سدى‭. ‬أرجوك‭ ‬ساعدني‭. ‬فنظر‭ ‬الشاب‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬أشار‭ ‬الصبي‭ ‬فرأى‭ ‬كرسيا‭ ‬بعجلات‭ ‬مقلوبا‭ ‬وفي‭ ‬حفرة‭ ‬قريبة‭ ‬منه‭ ‬شاب‭ ‬كان‭ ‬واضحا‭ ‬أنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬إعاقة‭ ‬تمنعه‭ ‬من‭ ‬الحركة‭. ‬هز‭ ‬الموقف‭ ‬الشاب‭ ‬صاحب‭ ‬البي‭ ‬إم‭ ‬دبليو‭ ‬وتحول‭ ‬غضبه‭ ‬الى‭ ‬حزن‭ ‬مشوب‭ ‬بالخجل،‭ ‬وفي‭ ‬غضون‭ ‬دقائق‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أجلس‭ ‬الشاب‭ ‬المعاق‭ ‬على‭ ‬الكرسي‭ ‬ثم‭ ‬أخرج‭ ‬منديله‭ ‬المعطر‭ ‬النظيف‭ ‬ومسح‭ ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬التراب،‭ ‬واطمأن‭ ‬الى‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يصب‭ ‬بسوء‭ ‬فوق‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬منه‭ ‬سلفا‭ ‬جراء‭ ‬السقوط‭ ‬في‭ ‬الحفرة،‭ ‬وهكذا‭ ‬تصافحا‭ ‬بينما‭ ‬لسان‭ ‬الصبي‭ ‬يلهج‭ ‬بشكر‭ ‬الشاب‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬الفارهة‭ ‬على‭ ‬شهامته‭ ‬ونبله‭.‬

وعاد‭ ‬صاحبنا‭ ‬الى‭ ‬سيارته‭ ‬ولاحظ‭ ‬ان‭ ‬الحجر‭ ‬الحق‭ ‬بها‭ ‬تلفا‭ ‬بليغا‭ ‬ولكنه‭ ‬قرر‭ ‬الإبقاء‭ ‬على‭ ‬‮«‬الطعجة‭ ‬والانبعاج‮»‬‭ ‬كي‭ ‬يتذكر‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬عدم‭ ‬الاندفاع‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬بحاجة‭ ‬الى‭ ‬من‭ ‬يلقي‭ ‬عليه‭ ‬حجرا،‭ ‬لينبهه‭ ‬إلى‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يخرق‭ ‬الأرض‭ ‬ولن‭ ‬يبلغ‭ ‬الجبال‭ ‬طولا،‭ ‬أو‭ ‬ليقول‭ ‬له‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬أبو‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭: ‬خفف‭ ‬الوطأ‭ ‬ما‭ ‬أظن‭ ‬أديم‭ ‬الأرض‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأجساد‭.‬

كثيرون‭ ‬منا‭ ‬يمتلئون‭ ‬تيها‭ ‬وخيلاء‭ ‬لأنهم‭ ‬صاروا‭ ‬‮«‬فوق‮»‬‭ ‬وينسون‭ ‬أنهم‭ ‬مثلي‭ ‬ومثلك‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬ودم‭ ‬ومشاعر‭ ‬وعرضة‭ ‬للمرض‭ ‬والألم‭ ‬والفقد‭ ‬والخسارة،‭ ‬فترمي‭ ‬الأقدار‭ ‬بحجارة‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬او‭ ‬جنوبهم‭ ‬ليفيقوا‭. ‬المدير‭ ‬الذي‭ ‬يذرع‭ ‬الممرات‭ ‬بين‭ ‬المكاتب‭ ‬وحذاؤه‭ ‬يصدر‭ ‬إيقاعات‭ ‬منغمة‭: ‬كك‭ ‬كرك‭ ‬كك‭ ‬كرك‭.. ‬وتمنعه‭ ‬تلك‭ ‬الإيقاعات‭ ‬عن‭ ‬سماع‭ ‬التحيات‭ ‬التي‭ ‬يلقيها‭ ‬عليه‭ ‬الموظفون‭ ‬وشكاواهم‭ ‬ومظالمهم،‭ ‬قد‭ ‬يأتيه‭ ‬حجر‭ ‬على‭ ‬هيئة‭ ‬تقرير‭ ‬من‭ ‬ديوان‭ ‬المحاسبة‭ ‬يكشف‭ ‬تجاوزاته‭ ‬المالية‭ ‬أو‭ ‬قرار‭ ‬بإنهاء‭ ‬خدماته‭. ‬عندها‭ ‬يتذكر‭ ‬انه‭ ‬خصم‭ ‬راتب‭ ‬أسبوع‭ ‬من‭ ‬موظف‭ ‬راتبه‭ ‬بضع‭ ‬دريهمات‭ ‬وأنه‭ ‬‮«‬فنَّش‮»‬‭ ‬عاملا‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬لأنه‭ ‬رفض‭ ‬غسل‭ ‬سيارته‭ ‬بلا‭ ‬مقابل‭.‬

فلنشق‭ ‬طريقنا‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬بلا‭ ‬اندفاع‭ ‬أو‭ ‬خيلاء‭.. ‬فالمطبات‭ ‬كثيرة‭ ‬ولكل‭ ‬شيء‭ ‬ضده‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا