العدد : ١٦٨٤٧ - الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٧ - الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الاستعلاء الأجوف

تروي‭ ‬أدبيات‭ ‬الحالة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬سجل‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متواضعة‭ ‬سبقاً‭ ‬إذ‭ ‬صار‭ ‬أول‭ ‬سوداني‭ ‬يتخصص‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬معين‭ ‬في‭ ‬الطب،‭ ‬وصار‭ ‬من‭ ‬نجوم‭ ‬المجتمع،‭ ‬وخاصة‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬حسن‭ ‬السمعة‭ ‬والخلق،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬حقق‭ ‬طموحاته‭ ‬المهنية‭ ‬فكر‭ ‬في‭ ‬الزواج،‭ ‬وأعجبته‭ ‬إحدى‭ ‬فتيات‭ ‬الحي‭ ‬فذهب‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬ذويها‭ ‬حيث‭ ‬استقبله‭ ‬والدها‭ ‬أحسن‭ ‬استقبال‭: ‬شرفتنا‭ ‬يا‭ ‬دكتور‭ ‬وشرفت‭ ‬البلد‭ ‬كلها‭. ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬عليك‭ ‬الجميع‭ ‬يذكروك‭ ‬بالخير،‭ ‬وفتح‭ ‬ذلك‭ ‬شهية‭ ‬الطبيب‭ ‬وفاتح‭ ‬أبو‭ ‬البنت‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬الزواج‭ ‬بابنته‭.‬

غاب‭ ‬الرجل‭ ‬قليلاً‭ ‬داخل‭ ‬البيت،‭ ‬وحسب‭ ‬الطبيب‭ ‬أنه‭ ‬بصدد‭ ‬استشارة‭ ‬زوجته‭ ‬وابنته‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬الزواج،‭ ‬ولكن‭ ‬الرجل‭ ‬عاد‭ ‬بعد‭ ‬قليل‭ ‬حاملاً‭ ‬بندقية‭ ‬صوبها‭ ‬نحو‭ ‬الطبيب‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬والله‭ ‬العظيم‭ ‬أضربك‭ ‬رصاصة‭ ‬في‭ ‬قلبك‭ ‬لو‭ ‬سمعت‭ ‬أحداً‭ ‬يقول‭ ‬إنك‭ ‬تقدمت‭ ‬تطلب‭ ‬يد‭ ‬بنتنا‭.. ‬نحن‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬فمن‭ ‬تكون‭ ‬أنت‭ ‬يا‭ ‬ابن‭ ‬ال‭.... ‬يعني‭ ‬اعتبر‭ ‬الرجل‭ ‬أن‭ ‬مجرد‭ ‬تقدم‭ ‬شاب‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متواضعة‭ ‬لا‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬قبيلة‭ ‬‮«‬خمسة‭ ‬نجوم‮»‬‭ ‬إهانة‭ ‬وتطاولا‭. ‬وخرج‭ ‬الطبيب‭ ‬الشاب‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬صاحبنا‭ ‬وساقاه‭ ‬يصطكّان‭ ‬من‭ ‬الرعب‭: ‬أنا‭ ‬جيت‭ ‬أفتح‭ ‬بيت‭ ‬وأسهم‭ ‬في‭ ‬زيادة‭ ‬النسل،‭ ‬مش‭ ‬عشان‭ ‬أروح‭ ‬فيها‭ ‬وينقص‭ ‬النسل‭ ‬السوداني‭ ‬واحدا‭.‬

وبالطبع‭ ‬لم‭ ‬يكلم‭ ‬الطبيب‭ ‬شخصاً‭ ‬بما‭ ‬حدث،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬خوفا‭ ‬على‭ ‬حياته‭ ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬التجربة‭ ‬كانت‭ ‬مهينة،‭ ‬وسمعت‭ ‬بالحكاية‭ ‬من‭ ‬شقيق‭ ‬تلك‭ ‬الفتاة،‭ ‬أي‭ ‬ابن‭ ‬الرجل‭ (‬أبو‭ ‬بندقية‭) ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬صبياً‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬وشهد‭ ‬الحادث،‭ ‬وكبر‭ ‬وصار‭ ‬يسرد‭ ‬تلك‭ ‬الحكاية‭ ‬كدليل‭ ‬على‭ ‬العنجهية‭ ‬القبلية‭ ‬الفارغة‭.‬

وقرأت‭ ‬مؤخرا‭ ‬حكاية‭ ‬الشاب‭ ‬الغلبان‭ ‬التي‭ ‬نشرتها‭ ‬الصحف‭ ‬وفحواها‭ ‬أنه‭ ‬أعجب‭ ‬بابنة‭ ‬الجيران‭ ‬فتقدم‭ ‬لخطبتها‭ ‬فصرفوه‭ ‬بأدب،‭ ‬وبعد‭ ‬فترة‭ ‬كرر‭ ‬المحاولة،‭ ‬ليعطي‭ ‬أهلها‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التفاصيل‭ ‬عن‭ ‬أوضاعه‭ ‬المادية‭ ‬التي‭ ‬تثبت‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬‮«‬فتح‭ ‬بيت‮»‬،‭ ‬وتزويدهم‭ ‬بقائمة‭ ‬من‭ ‬أسماء‭ ‬معارفه‭ ‬وأقاربه‭ ‬وزملاء‭ ‬العمل‭ ‬كي‭ ‬يتحرى‭ ‬أهل‭ ‬البنت‭ ‬عن‭ ‬سلوكه‭ ‬ويتيقنوا‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬أخلاقه،‭ ‬فقدم‭ ‬له‭ ‬أبو‭ ‬الفتاة‭ ‬الشاي‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬أم‭ ‬الفتاة‭ (‬خلي‭ ‬بالك‭: ‬أم‭ ‬الفتاة‭) ‬واثنان‭ ‬من‭ ‬أقاربها‭ ‬وانهالوا‭ ‬عليه‭ ‬ضرباً‭ ‬بعد‭ ‬توثيقه‭ ‬بالحبال‭ ‬ثم‭ ‬أتوا‭ ‬بقطعة‭ ‬من‭ ‬الحديد‭ ‬شديدة‭ ‬الاحمرار‭ ‬من‭ ‬فرط‭ ‬التعرض‭ ‬للنيران‭ ‬وكووه‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬ظهره‭ ‬وفي‭ ‬أعضائه‭ ‬التناسلية،‭ (‬ربما‭ ‬لأنهم‭ ‬اعتقدوا‭ ‬أن‭ ‬واجبهم‭ ‬نحو‭ ‬المجتمع‭ ‬يقضي‭ ‬بضمان‭ ‬منع‭ ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬‮«‬التعبان‮»‬‭ ‬من‭ ‬تلويث‭ ‬النسل‭ ‬باقتران‭ ‬ببنات‭ ‬‮«‬الأصول‮»‬‭) ‬وعندما‭ ‬ارتفع‭ ‬عويل‭ ‬الشاب‭ ‬اقتحم‭ ‬الجيران‭ ‬البيت‭ ‬وأنقذوه،‭ ‬ولزم‭ ‬سرير‭ ‬المستشفى‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬رضوضاً‭ ‬وحروقاً‭ ‬شديدة‭. ‬ذلك‭ ‬الشاب‭ ‬الراغب‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬كان‭ ‬عاملا‭ ‬حرفيا،‭ ‬يكسب‭ ‬من‭ ‬حرفته‭ ‬مالا‭ ‬كثيرا،‭ ‬بينما‭ ‬الفتاة‭ ‬تحمل‭ ‬بكالوريوس‭ ‬آداب،‭ ‬ولكن‭ ‬الأهم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬والدها‭ ‬يملك‭ ‬أرضاً‭ ‬زراعية‭ ‬جعلته‭ ‬يحس‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬فوق‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬تقدم‭ ‬عامل‭ ‬لطلب‭ ‬يد‭ ‬ابنته‭ ‬إساءة‭ ‬لمركزه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬واستخفاف‭ ‬به‭.‬

دعوني‭ ‬أعيّد‭ ‬عليكم‭ ‬تجربة‭ ‬شخصية‭ ‬كتبت‭ ‬عنها‭ ‬مرارا‭: ‬كان‭ ‬والد‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬تقدمت‭ ‬للزواج‭ ‬بها‭ ‬والتي‭ ‬صارت‭ ‬زوجتي‭ (‬أم‭ ‬الجعافر‭) ‬يشغل‭ ‬منصباً‭ ‬مرموقاً،‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬حتة‭ ‬مدرس‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية،‭ ‬وذهبت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬بمفردي‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬أنا‭ ‬فلان‭ ‬الفلاني،‭ ‬ووظيفتي‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬وراتبي‭ ‬الشهري‭ ‬82‭ ‬جنيها‭ ‬فقط‭ ‬وأريد‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬ابنتك‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أنت‭ ‬أو‭ ‬هي‭ ‬تمانع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭. ‬وارتبك‭ ‬الرجل‭ ‬لأن‭ ‬العادة‭ ‬درجت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬وفد‭ ‬عائلي‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أهل‭ ‬الفتاة‭ ‬لطرح‭ ‬مسألة‭ ‬الزواج،‭ ‬فقال‭ ‬لي‭: ‬خير‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬بس‭ ‬اديني‭ ‬فرصة‭ ‬أسأل‭ ‬عنك،‭ ‬وفي‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬تلقيت‭ ‬على‭ ‬هاتف‭ ‬المدرسة‭ ‬مكالمة‭ ‬من‭ ‬مدير‭ ‬إدارة‭ ‬التعليم‭ ‬الثانوي‭ ‬بوزارة‭ ‬التربية‭ ‬يقول‭ ‬فيها‭: ‬معي‭ ‬فلان‭ ‬الذي‭ ‬تريد‭ ‬الزواج‭ ‬بابنته،‭ ‬كم‭ ‬تدفع‭ ‬لي‭ ‬مقابل‭ ‬الشهادة‭ ‬لصالحك،‭ ‬وخطف‭ ‬والد‭ ‬العروس‭ ‬المبتغاة‭ ‬سماعة‭ ‬الهاتف‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬ضاحكاً‭: ‬يا‭ ‬زول‭ ‬مبروك‭.. ‬وكل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬أقول‭ ‬لوالد‭ ‬زوجتي‭: ‬مبروك‭ ‬اختيارك‭ ‬زوج‭ ‬ابنتك‭ ‬كان‭ ‬موفقاً‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا