العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

الثقافي

نبض: على شرفة عالية يترك لصوته الغناء!

بقلم: علي الستراوي

السبت ٢٩ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

مع‭ ‬أمين‭ ‬صالح‭ ‬ينحدر‭ ‬البوح‭ ‬وينشغلُ‭ ‬القلب‭ ‬بحكاية‭ ‬لا‭ ‬تموت‭!‬

‭(‬عذرا‭ ‬فأنت‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬البوح،‭ ‬وعذراً‭ ‬يا‭ ‬أمين‭ ‬أن‭ ‬الذي‭ ‬تطفل‭ ‬وكتب‭ ‬نبض‭ ‬ما‭ ‬ينبض‭ ‬به‭ ‬القلب‭ ‬مدرك‭ ‬أنك‭ ‬في‭ ‬الحكاية‭ ‬أكسجين‭ ‬الحياة‭)‬

في‭ ‬منتهى‭ ‬سرُّ‭ ‬الحكايات‭ ..‬

يبدأ‭ ‬ظل‭ ‬الطيف‭ ‬العالق‭ ‬بمشجب‭ ‬الأيام،‭ ‬يدنو‭ ‬من‭ ‬حيثُ‭ ‬لا‭ ‬يبدأ‭ ‬الحزن،‭ ‬ولا‭ ‬تنشغلُ‭ ‬الطفيليات‭ ‬بشهواتها‭..‬

هو‭ ‬هكذا‭.. ‬يفتلُ‭ ‬حبل‭ ‬الليل‭ ‬من‭ ‬سرته‭ ‬الأولى‭ ‬ومن‭ ‬مفاصل‭ ‬تكتظُ‭ ‬بوجعها،‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تسمع‭ ‬الآخرين‭ ‬بكاءها‭.‬

كنتُ‭ ‬قريبا‭ ‬منه،‭ ‬اراقبه‭ ‬بفضول،‭ ‬غير‭ ‬آبه‭ ‬بأصوات‭ ‬الآخرين،‭ ‬قبل‭ ‬زمن‭ ‬الجزر‭ ‬التي‭ ‬غادرت‭ ‬مواقعها‭ ‬وانشغلت‭ ‬بطوفان‭ ‬قواقع‭ ‬المحيطات،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬لنا‭ ‬بالكتابة‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭.‬

ظل‭ ‬وحيداً‭ ‬فوق‭ ‬جمر‭ ‬الكتابة،‭ ‬ولم‭ ‬يغادر‭ ‬أحبته،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬الوحدة‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬انشغالا‭ ‬لا‭ ‬ينفك‭ ‬عن‭ ‬غفلانه‭.‬

يطلُ‭ ‬احياناً‭ ‬من‭ ‬شق‭ ‬النافذة‭ ‬لينظر‭ ‬المارة‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬طاحونة‭ ‬الحياة‭ ‬يذوبون‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬اليومي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬زوادة‭ ‬العيش،‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬يركض‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬رحمة‭ ‬لنظرة‭ ‬طفل‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق‭ ‬يبكي‭.! ‬

تقدم‭ ‬بثقة‭ ‬لينظر‭ ‬بعينين‭ ‬غائرتين‭ ‬متعبتين‭ ‬للمدينة‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يظنها‭ ‬حلمه‭ ‬الأول،‭ ‬وكان‭ ‬يظن‭ ‬ساكنيها‭ ‬اخوته‭.‬

مر‭ ‬الزمان‭ ‬وإذا‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬تقف‭ ‬كالجاثوم‭ ‬الضاغط‭ ‬على‭ ‬صدره،‭ ‬تترك‭ ‬لوحدته‭ ‬فيروساتها‭ ‬البغيضة‭ ‬فتنهش‭ ‬من‭ ‬لحمه‭ ‬ببطء‭! ‬

الجدار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬علامة‭ ‬بارزة‭ ‬للزائرين،‭ ‬أصبح‭ ‬اليوم‭ ‬ضائع‭ ‬الملامح،‭ ‬غريب‭ ‬الطباع،‭ ‬له‭ ‬هواية‭ ‬هجينة،‭ ‬يأكل‭ ‬في‭ ‬لحم‭ ‬ضحيته،‭ ‬يفتك‭ ‬بمن‭ ‬يقترب‭ ‬منه‭.‬

وعن‭ ‬عادته‭ ‬التي‭ ‬ألف‭ ‬الآخرون‭ ‬عليها،‭ ‬فاختلف‭ ‬معهم،‭ ‬وسار‭ ‬على‭ ‬غير‭ ‬الجادة‭ ‬التي‭ ‬يريدون،‭ ‬تاركاً‭ ‬صوته‭ ‬القوي‭ ‬يشق‭ ‬البرية‭ ‬الواسعة‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يخلع‭ ‬قميصه‭ ‬المهترئ‭ ‬ويرتدي‭ ‬قميصا‭ ‬ناعم‭ ‬الملمس‭ ‬جميل‭ ‬المنظر،‭ ‬يخطف‭ ‬بعينيه‭ ‬الحادتين‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬خياطة‭ ‬امواج‭ ‬البحر‭ ‬مهنته‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬علاقته‭ ‬بازرق‭ ‬الماء‭ ‬الا‭ ‬لعبة‭ ‬كان‭ ‬يخبئ‭ ‬في‭ ‬احشائها‭ ‬صور‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬قضى‭ ‬فيها‭ ‬يخيط‭ ‬بقايا‭ ‬فتق‭ ‬من‭ ‬بنطاله‭ ‬العتيق‭. ‬

سنوات‭ ‬عمره‭ ‬الخامسة‭ ‬الداخلة‭ ‬في‭ ‬طوايا‭ ‬الأزمنة‭ ‬الحديدية،‭ ‬تنصتُ‭ ‬لأحاديثه‭ ‬وهو‭ ‬مدرك‭ ‬انه‭ ‬في‭ ‬الحريق‭ ‬يعرف‭ ‬قسوة‭ ‬الجمر‭ ‬وبين‭ ‬الرماد‭ ‬يظل‭ ‬يعزف‭ ‬فوق‭ ‬اوتار‭ ‬قلبه‭ ‬لحنا‭ ‬لم‭ ‬يكتمل‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬خطواته‭ ‬ثابتة‭ ‬في‭ ‬طوايا‭ ‬الأيام،‭ ‬أو‭ ‬متخلفة‭ ‬عن‭ ‬لعبتها‭ ‬الأولى‭ ‬قبل‭ ‬قطع‭ ‬سرته‭ ‬والرضاعة‭ ‬بحبر‭ ‬لا‭ ‬تجف‭ ‬أحرفه‭ ‬ولا‭ ‬تشوهه‭ ‬ذاكرة‭ ‬ساخطة‭.‬

الزمن‭ ‬أثقل‭ ‬رجليه‭ ‬لكنه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬ان‭ ‬يمنع‭ ‬هذه‭ ‬الارجل‭ ‬من‭ ‬المسير‭ ‬الطويل،‭ ‬وتعويدها‭ ‬على‭ ‬وخزات‭ ‬الشوك‭. ‬

‭ ‬توكز‭ ‬ازميله،‭ ‬تاركاً‭ ‬لرجليه‭ ‬خوض‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تعلمه‭ ‬الحياة،‭ ‬وما‭ ‬لم‭ ‬يدركه‭ ‬عقله‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬الرجولة‭.‬

وكلما‭ ‬تقدمت‭ ‬خطواته‭ ‬نحو‭ ‬البحر‭ ‬أوجس‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬وبشيء‭ ‬كان‭ ‬يعرفه‭ ‬منذ‭ ‬كان‭ ‬طفلا،‭ ‬انها‭ ‬اللعبة‭ ‬الصعبة‭ ‬والألم‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬بانتهاء‭ ‬الوجع‭.‬

سنوات‭ ‬طفولته،‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬سحر‭ ‬هواه،‭ ‬وذاكرته‭ ‬التي‭ ‬كبرت‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬رجولته‭ ‬أول‭ ‬صرخة‭ ‬أطلقها‭ ‬عندما‭ ‬ولدته‭ ‬امه‭. ‬

رفاقه‭ ‬كانوا‭ ‬يتحلقون‭ ‬حوله،‭ ‬يتركون‭ ‬له‭ ‬اختيار‭ ‬شباكه‭ ‬التي‭ ‬يحب‭ ‬ان‭ ‬يصطاد‭ ‬بها،‭ ‬لأنهم‭ ‬واثقون‭ ‬منه،‭ ‬إنه‭ ‬لن‭ ‬يخذلهم،‭ ‬ولن‭ ‬يغادر‭ ‬البحر‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يصطاد‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يحبون،‭ ‬فالطرائد‭ ‬تعرف‭ ‬لعبته‭ ‬ولا‭ ‬تستوحش‭ ‬من‭ ‬لعبته‭ ‬الساحرة‭.‬

محبرة‭ ‬الكتابة‭ ‬كانت‭ ‬هوايته،‭ ‬وكان‭ ‬حينما‭ ‬يمارسها‭ ‬تبرق‭ ‬عيناه‭ ‬ويزداد‭ ‬قوة،‭ ‬فالبحر‭ ‬بالنسبة‭ ‬له‭ ‬الحكاية‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬معه‭ ‬يسردها‭ ‬بحب‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يرغب‭ ‬سماعها‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬منشغلا‭ ‬بشيء‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هو‭ ‬منشغل‭ ‬بحكاية‭ ‬الكتابة‭ ‬والرسم‭ ‬على‭ ‬رمال‭ ‬البحر،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬امواج‭ ‬تمحو‭ ‬ما‭ ‬دونه‭ ‬فوق‭ ‬هذه‭ ‬الرمال‭.‬

بعيداً‭ ‬عن‭ ‬البكاء،‭ ‬قريباً‭ ‬من‭ ‬الابتسامة،‭ ‬تقرفص‭ ‬فوق‭ ‬فراشه‭ ‬وعزف‭ ‬آخر‭ ‬وأجمل‭ ‬ألحانه‭ ‬مدون‭ ‬نوتة‭ ‬فوق‭ ‬دفتر‭ ‬سلم‭ ‬الموسيقى،‭ ‬لأن‭ ‬ترجمان‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬الطفل‭ ‬المدلل‭ ‬لديه،‭ ‬لغة‭ ‬لها‭ ‬مرافئ‭ ‬تقف‭ ‬على‭ ‬شواطئها‭ ‬نوارس‭ ‬الحياة،‭ ‬فيترك‭ ‬الليل‭ ‬لظلمته‭ ‬ويلحق‭ ‬القمر‭ ‬عندما‭ ‬يشتعل‭ ‬الضوء‭ ‬في‭ ‬الفيافي‭ ‬البعيدة‭ ‬مردداً‭: ‬‮«‬أمامي‭ ‬نافذة‭ ‬مستطيلة،‭ ‬هائلة‭ ‬الحجم،‭ ‬تطل‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬رحب‭ ‬وأفق‭ ‬شاسع،‭ ‬حيث‭ ‬العوالم‭ ‬المختلفة‭ ‬والمتنوعة،‭ ‬الغنية‭ ‬بالشخوص‭ ‬والأحداث،‭ ‬المحكومة‭ ‬بالصور‭ ‬الآسرة،‭ ‬بالحركة‭ ‬والتتابع‭.. ‬عوالم‭ ‬سحرية‭ ‬كنا‭ ‬ندخلها‭ ‬‭ ‬نحن‭ ‬الصغار‭ ‬‭ ‬بغبطة‭ ‬من‭ ‬يدخل‭ ‬حلماً‭ ‬جميلاً‭ ‬لا‭ ‬يتمنى‭ ‬أن‭ ‬يغادره‮»‬‭.‬

ففي‭ ‬قلبه‭ ‬كان‭ ‬هواه‭ ‬وطنا‭ ‬لا‭ ‬يراه‭ ‬صغيراً‭ ‬فوق‭ ‬خرائط‭ ‬الجغرافيا،‭ ‬بل‭ ‬يراه‭ ‬كبيراً‭ ‬فوق‭ ‬مآذن‭ ‬لا‭ ‬تصمت‭ ‬لحظة‭ ‬انشغاله‭ ‬بالحرف‭. ‬

ترك‭ ‬لذاكرته‭ ‬ان‭ ‬تعيد‭ ‬طفولتها‭ ‬ليستطيع‭ ‬ان‭ ‬يتذكر‭ ‬انه‭ ‬الماء‭ ‬الزلال‭ ‬والهواء‭ ‬الذي‭ ‬يتنفسه‭ ‬وعلى‭ ‬شرفة‭ ‬عالية‭ ‬يترك‭ ‬لصوته‭ ‬الغناء‭.‬

a‭.‬astrawi@gmail‭.‬com

 

 

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا