العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٨ - الاثنين ١٦ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٣ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

محاولة أولية لفهم أبعاد الأزمة السودانية

بقلم: د. حسن نافعة {

الجمعة ٢٨ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

يسهل‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬مراقب‭ ‬للأوضاع‭ ‬السودانية‭ ‬رصد‭ ‬وتتبّع‭ ‬مسار‭ ‬الخلافات‭ ‬المحتدمة‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬بين‭ ‬قيادة‭ ‬الجيش‭ ‬السوداني‭ ‬ممثّلة‭ ‬في‭ ‬الفريق‭ ‬أول‭ ‬عبد‭ ‬الفتاح‭ ‬البرهان،‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وقيادة‭ ‬قوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‭ ‬ممثّلة‭ ‬في‭ ‬الفريق‭ ‬أول‭ ‬محمد‭ ‬حمدان‭ ‬دقلو‭ (‬حميدتي‭)‬،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬بوسع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يتوقّع‭ ‬تصاعد‭ ‬هذه‭ ‬الخلافات‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬اندلاع‭ ‬صدام‭ ‬مسلّح‭ ‬وخطير‭ ‬بين‭ ‬الطرفين‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬نشهده‭ ‬منذ‭ ‬الـ‭ ‬15‭ ‬من‭ ‬أبريل‭ ‬الحالي،‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬إشعال‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬شاملة‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬وإلى‭ ‬تفتيت‭ ‬السودان‭ ‬نفسه‭ ‬وإشاعة‭ ‬الفوضى‭ ‬وعدم‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬برمتها‭.‬

ولفهم‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حالياً،‭ ‬ينبغي‭ ‬ربطه‭ ‬بالأزمة‭ ‬الشاملة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬السوداني‭ ‬منذ‭ ‬استقلال‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬النصف‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وهي‭ ‬أزمة‭ ‬ثلاثية‭ ‬الأبعاد‭:‬

أ‭- ‬فهناك‭ ‬بُعد‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالصراع‭ ‬التاريخي‭ ‬المحتدم‭ ‬بين‭ ‬الجيش‭ ‬السوداني،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وكل‭ ‬مكوّنات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬وأحزابه‭ ‬السياسية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭. ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬تتسم،‭ ‬ومنذ‭ ‬استقلال‭ ‬السودان‭ ‬عن‭ ‬مصر‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬كانون‭ ‬الثاني‭/‬يناير‭ ‬عام‭ ‬1956‭ ‬حتى‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن،‭ ‬بصراع‭ ‬مرير‭ ‬بين‭ ‬الطرفين،‭ ‬جسّدته‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬الانقلابات‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬تفضي‭ ‬بدورها‭ ‬إلى‭ ‬ثورات‭ ‬شعبية‭ ‬تطيح‭ ‬بها‭ ‬وتسعى‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬حكم‭ ‬مدني‭ ‬قابل‭ ‬للدوام‭.‬

ففي‭ ‬عام‭ ‬1958‭ ‬وقع‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري‭ ‬قاده‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبود‭ ‬الذي‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬مدة‭ ‬7‭ ‬سنوات‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تطيح‭ ‬به‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬اندلعت‭ ‬عام‭ ‬1964‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1968‭ ‬وقع‭ ‬انقلاب‭ ‬آخر‭ ‬قاده‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬الذي‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬مدة‭ ‬16‭ ‬عاماً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تطيح‭ ‬به‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬نيسان‭/‬أبريل‭ ‬عام‭ ‬1985‭. ‬وفي‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬وقع‭ ‬انقلاب‭ ‬ثالث‭ ‬قاده‭ ‬عمر‭ ‬حسن‭ ‬البشير‭ ‬الذي‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬حكم‭ ‬البلاد‭ ‬مدة‭ ‬30‭ ‬عاماً‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تطيح‭ ‬به‭ ‬ثورة‭ ‬شعبية‭ ‬اندلعت‭ ‬في‭ ‬2019‭.‬

لكنّ‭ ‬الجيش‭ ‬بقيادة‭ ‬الفريق‭ ‬عبدالفتاح‭ ‬البرهان‭ ‬وقوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‭ ‬تعاونا‭ ‬للانقلاب‭ ‬عليها‭ ‬عام‭ ‬2021‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتمكّن‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬الطرفين‭ ‬من‭ ‬حسم‭ ‬الصراع‭ ‬لصالحه‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الجيش‭ ‬السوداني‭ ‬كانت‭ ‬له‭ ‬الغلبة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصراع‭ ‬وتمكّن‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأوقات‭ ‬باستثناء‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭.‬

ب‭- ‬هناك‭ ‬بُعد‭ ‬ثانٍ‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالصراع‭ ‬المحتدم‭ ‬داخل‭ ‬مؤسسات‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬السوداني‭ ‬نفسه‭. ‬فرغم‭ ‬ما‭ ‬يتمتع‭ ‬به‭ ‬الشعب‭ ‬السوداني‭ ‬من‭ ‬حيوية‭ ‬ومن‭ ‬وعي‭ ‬سياسي‭ ‬كبير،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية‭ ‬عجزت‭ ‬دائماً‭ ‬عن‭ ‬التوافق‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬صيغة‭ ‬لإدارة‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬بطريقة‭ ‬تسمح‭ ‬بتحييد‭ ‬دور‭ ‬الجيش‭ ‬وبناء‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬حديثة‭.‬

ويعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬أسباب‭ ‬كثيرة،‭ ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬أهمها‭ ‬التنوّع‭ ‬العرقي‭ ‬والديني‭ ‬والطائفي‭ ‬والقبلي‭ ‬الذي‭ ‬يتسم‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والتداخل‭ ‬الكبير‭ ‬بين‭ ‬الديني‭ ‬والسياسي‭ ‬والطائفي‭ ‬والجهوي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬السوداني‭ ‬تمكّن‭ ‬في‭ ‬أحوال‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬توحيد‭ ‬صفوفه‭ ‬وقواه‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬‮«‬حكم‭ ‬العسكر‮»‬،‭ ‬ما‭ ‬مكّنه‭ ‬من‭ ‬إشعال‭ ‬ثورات‭ ‬شعبية‭ ‬كبرى‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬الإطاحة‭ ‬بقادة‭ ‬الانقلابات،‭ ‬لكن‭ ‬جميع‭ ‬ثوراته‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬إرساء‭ ‬دعائم‭ ‬حكم‭ ‬مدني‭ ‬مستقرّ‭ ‬وقابل‭ ‬للدوام‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬أحزاباً‭ ‬سياسية‭ ‬سودانية‭ ‬مختلفة‭ ‬الرؤى‭ ‬والتوجّهات‭ ‬تعاونت‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬تاريخية‭ ‬مختلفة‭ ‬مع‭ ‬قادة‭ ‬الانقلابات‭ ‬لتشكيل‭ ‬حاضنة‭ ‬مدنية‭ ‬لحمايتها‭ ‬ودعمها‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬ما‭ ‬أدّته‭ ‬الحركات‭ ‬الانفصالية‭ ‬المسلّحة‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬سلبي‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية،‭ ‬كالحركات‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬جنوب‭ ‬السودان‭ ‬أو‭ ‬الحركات‭ ‬الموجودة‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬وفي‭ ‬جنوب‭ ‬كردفان‭ ‬والنيل‭ ‬الأزرق،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬حجم‭ ‬الصعوبات‭ ‬والعقبات‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬تعترض‭ ‬قدرة‭ ‬السودان‭ ‬على‭ ‬تأسيس‭ ‬دولة‭ ‬مدنية‭ ‬حديثة‭.‬

ج‭- ‬وهناك‭ ‬بُعد‭ ‬ثالث‭ ‬يتعلّق‭ ‬بطبيعة‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬السودانية‭ ‬نفسها‭ ‬وميلها‭ ‬الغريزي‭ ‬إلى‭ ‬التدخّل‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬السياسي‭. ‬ويعود‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬عوامل‭ ‬كثيرة‭ ‬منها‭:‬

1‭- ‬انتشار‭ ‬الأفكار‭ ‬والأيديولوجيات‭ ‬السياسية‭ ‬بين‭ ‬كوادرها‭ ‬وقياداتها،‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬عقبة‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬تحوّل‭ ‬الجيش‭ ‬السوداني‭ ‬إلى‭ ‬جيش‭ ‬مهني‭ ‬محترف‭.‬

2-‭ ‬عجزها‭ ‬عن‭ ‬التحوّل‭ ‬إلى‭ ‬بوتقة‭ ‬صهر‭ ‬اجتماعي‭ ‬لترسيخ‭ ‬فكرة‭ ‬المواطنة‭ ‬بين‭ ‬المنخرطين‭ ‬فيها‭ ‬وتذويب‭ ‬الفوارق‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬التنوّع‭ ‬العرقيّ‭ ‬والديني‭ ‬والطائفي‭ ‬الذي‭ ‬يميّز‭ ‬المجتمع‭ ‬السوداني‭.‬

3-‭ ‬دخولها‭ ‬طرفا‭ ‬في‭ ‬لعبة‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬الثروة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشاركتها‭ ‬المتنامية‭ ‬في‭ ‬الأنشطة‭ ‬الاقتصادية‭ ‬المتنوّعة،‭ ‬ما‭ ‬ساعد‭ ‬على‭ ‬ظهور‭ ‬مصالح‭ ‬ذاتية‭ ‬تدفع‭ ‬نحو‭ ‬انخراطها‭ ‬بشكل‭ ‬دائم‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭.‬

فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬عمر‭ ‬البشير‭ ‬ارتكب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2013‭ ‬خطأ‭ ‬قاتلاً‭ ‬حين‭ ‬قرّر‭ ‬تحويل‭ ‬قوات‭ ‬‮«‬الجنجاويد‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬قوات‭ ‬نظامية‭ ‬موازية‭ ‬تعرف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬قوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬وصل‭ ‬عددها‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬100‭ ‬ألف‭ ‬فرد،‭ ‬وقام‭ ‬بوضعها‭ ‬تحت‭ ‬إمرة‭ ‬قيادة‭ ‬مستقلة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬عن‭ ‬قيادة‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة،‭ ‬وأتاح‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الإمكانات‭ ‬العسكرية‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تبدو‭ ‬كجيش‭ ‬داخل‭ ‬الجيش،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬حجم‭ ‬التعقيدات‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬وتراكمت‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭. ‬ومن‭ ‬المعروف‭ ‬أن‭ ‬قوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‭ ‬تسيطر‭ ‬حالياً‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬مناجم‭ ‬الذهب‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وأن‭ ‬قائدها‭ ‬أصبح‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أغنى‭ ‬أغنياء‭ ‬السودان‭.‬

نخلص‭ ‬مما‭ ‬تقدّم‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة،‭ ‬والتي‭ ‬تحوّلت‭ ‬إلى‭ ‬صدام‭ ‬مسلح‭ ‬بين‭ ‬جناحين‭ ‬ينتميان‭ ‬إلى‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬السودانية،‭ ‬تعكس‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭ ‬مجمل‭ ‬التعقيدات‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية،‭ ‬ولها‭ ‬أبعاد‭ ‬وتداعيات‭ ‬بعيدة‭ ‬المدى‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصعد‭ ‬المحلية‭ ‬والإقليمية‭ ‬والدولية‭.‬

فهي‭ ‬على‭ ‬الصعيد‭ ‬المحلي،‭ ‬تعد‭ ‬امتداداً‭ ‬طبيعياً‭ ‬للأزمة‭ ‬التاريخية‭ ‬المتجذرة‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬والطبقة‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬والقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬السودانية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

فرغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يتمتّع‭ ‬به‭ ‬المجتمع‭ ‬المدني‭ ‬السوداني‭ ‬من‭ ‬حيوية‭ ‬ومن‭ ‬طاقات‭ ‬نضالية‭ ‬هائلة،‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬النخب‭ ‬السياسية‭ ‬السودانية‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توحيد‭ ‬صفوفها‭ ‬وفرض‭ ‬إرادتها‭ ‬على‭ ‬القوات‭ ‬المسلحة‭ ‬التي‭ ‬احتكرت‭ ‬السلطة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأوقات‭ ‬وتريد‭ ‬الآن‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بها‭ ‬بأي‭ ‬ثمن،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إجهاض‭ ‬ثورة‭ ‬2019‭ ‬مثلما‭ ‬أجهضت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬الثورات‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الشعب‭ ‬السوداني‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬تاريخية‭ ‬مختلفة‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الأزمة‭ ‬السياسية‭ ‬الحالية‭ ‬تبدو‭ ‬مختلفة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبقها‭ ‬من‭ ‬الأزمات‭ ‬التي‭ ‬أفرزها‭ ‬الصراع‭ ‬على‭ ‬السلطة،‭ ‬وذلك‭ ‬لأنّ‭ ‬المؤسسة‭ ‬العسكرية‭ ‬السودانية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬الآن‭ ‬متماسكة‭ ‬تحت‭ ‬قيادة‭ ‬موحّدة‭ ‬مثلما‭ ‬كان‭ ‬عليه‭ ‬الحال‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬وإنما‭ ‬تتنازعها‭ ‬قيادتان‭ ‬تحاول‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬استمالة‭ ‬فصيل‭ ‬مدني‭ ‬إلى‭ ‬جانبها‭.‬

فقائد‭ ‬قوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬يتهم‭ ‬القائد‭ ‬العام‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة‭ ‬السودانية‭ ‬بأنه‭ ‬ينتمي‭ ‬إلى‭ ‬تيار‭ ‬الإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬يحاول‭ ‬إعادة‭ ‬إنتاج‭ ‬نظام‭ ‬البشير،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬هو‭ ‬نفسه‭ ‬نتاج‭ ‬نظام‭ ‬البشير‭ ‬الذي‭ ‬عيّنه‭ ‬قائداً‭ ‬لقوات‭ ‬الدعم‭ ‬السريع‭.‬

لذا‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الطموحات‭ ‬الشخصية‭ ‬تؤدي‭ ‬دورا‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة،‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بين‭ ‬جناحين‭ ‬عسكريين‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬صراع‭ ‬سياسي‭ ‬بين‭ ‬برنامجين‭ ‬أو‭ ‬رؤيتين‭ ‬مختلفتين،‭ ‬فكل‭ ‬منهما‭ ‬يريد‭ ‬الانفراد‭ ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬الجيش‭ ‬حتى‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬الانفراد‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬واستعادة‭ ‬‮«‬حكم‭ ‬العسكر‮»‬‭ ‬من‭ ‬جديد‭.‬

وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬الإقليمي،‭ ‬تتشابك‭ ‬خيوط‭ ‬هذه‭ ‬الأزمة‭ ‬مع‭ ‬أزمات‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭. ‬ففي‭ ‬تشرين‭ ‬الأول‭/‬أكتوبر‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2020‭ ‬تمكّنت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬إحداث‭ ‬اختراق‭ ‬على‭ ‬الجبهة‭ ‬السودانية‭ ‬حين‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬إبرام‭ ‬اتفاق‭ ‬لتطبيع‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬السودان‭ ‬وقّع‭ ‬عليه‭ ‬رئيس‭ ‬مجلس‭ ‬السيادة‭ ‬السوداني‭ ‬الفريق‭ ‬عبد‭ ‬الفتاح‭ ‬البرهان‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬تفعيل‭ ‬هذا‭ ‬الاتفاق‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬تصديق‭ ‬البرلمان‭ ‬السوداني‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يتشكّل‭ ‬بعد،‭ ‬لكن‭ ‬الاتصالات‭ ‬بين‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬ونظام‭ ‬الحكم‭ ‬القائم‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬بمختلف‭ ‬أجنحته‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مستمرة،‭ ‬بدليل‭ ‬تصريح‭ ‬نتنياهو‭ ‬مؤخّراً‭ ‬باستعداده‭ ‬للتوسّط‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭ ‬المتنازعة‭.‬

ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬لرئيس‭ ‬الوزراء‭ ‬الإثيوبي‭ ‬علاقات‭ ‬عميقة‭ ‬بالعديد‭ ‬من‭ ‬أطراف‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬وسبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬مارس‭ ‬دور‭ ‬الوساطة‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬يحاول‭ ‬التدخّل‭ ‬فيها‭ ‬لتحقيق‭ ‬مصالح‭ ‬وأهداف‭ ‬إثيوبية‭ ‬محدّدة‭. ‬ولحميدتي‭ ‬والبرهان‭ ‬علاقات‭ ‬متشابكة‭ ‬بالمحيط‭ ‬الإقليمي‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭. ‬فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أن‭ ‬تحقيق‭ ‬الاستقرار‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يمسّ‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر‭ ‬بأمن‭ ‬مصر‭ ‬الوطني‭ ‬لأدركنا‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يشكّل‭ ‬أزمة‭ ‬إقليمية‭ ‬بكل‭ ‬معنى‭ ‬الكلمة‭.‬

وعلى‭ ‬الصعيد‭ ‬العالمي،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬اندلاع‭ ‬صراع‭ ‬مسلّح‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وبحكم‭ ‬الوضع‭ ‬الجيو‭ ‬‭ ‬سياسي‭ ‬لهذا‭ ‬البلد،‭ ‬وما‭ ‬يثيره‭ ‬من‭ ‬تنافس‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الكبرى،‭ ‬يشكّل‭ ‬تهديداً‭ ‬لمصالح‭ ‬دولية‭ ‬كبرى‭ ‬ومن‭ ‬شأنه‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬التوازنات‭ ‬الدولية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬الاهتمام‭ ‬الشديد‭ ‬الذي‭ ‬تبديه‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وروسيا‭ ‬والصين‭ ‬والاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬وكلها‭ ‬موجودة‭ ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬السودانية‭ ‬ويحاول‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬دفع‭ ‬الأزمة‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬يحقّق‭ ‬مصالحها‭.‬

لذا‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬أن‭ ‬يبذل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعه‭ ‬لإيجاد‭ ‬حل‭ ‬عربي‭ ‬لهذه‭ ‬الأزمة‭ ‬والعمل‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬الممكنة‭ ‬للحيلولة‭ ‬دون‭ ‬تدويلها،‭ ‬وإلا‭ ‬فسيخسر‭ ‬الكثير‭. ‬فهل‭ ‬يستطيع؟

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا