العدد : ١٦٨٤٧ - الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٧ - الأربعاء ٠٨ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٩ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

في حب أدنبره

المسافة‭ ‬بين‭ ‬مدينة‭ ‬غلاسغو‭ ‬ومدينة‭ ‬أدنبره‭ ‬عاصمة‭ ‬اسكتلندا‭ ‬لا‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬أربعين‭ ‬دقيقة‭ ‬بسيارة‭ ‬كحيانة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬أدنبره‭ ‬حتى‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬بينهما‭ ‬كالمسافة‭ ‬بين‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬والعلوم‭ ‬الحديثة،‭ ‬فأدنبره‭ ‬مدينة‭ ‬بارعة‭ ‬الجمال‭. ‬وهي‭ ‬بأكملها‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬متحف‭ ‬ضخم‭ ‬تشم‭ ‬فيه‭ ‬رائحة‭ ‬نضال‭ ‬الشعب‭ ‬الاسكتلندي‭ ‬للانعتاق‭ ‬من‭ ‬نير‭ ‬الاستعمار‭ ‬الانجليزي‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬قرون‭ ‬طوال،‭ ‬وفيها‭ ‬تلتحم‭ ‬العراقة‭ ‬بالخضرة‭ ‬والماء‭ (‬لا‭ ‬أجزم‭ ‬بأمر‭ ‬حسن‭ ‬الوجوه‭ ‬فيها‭)‬،‭ ‬فتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬ملحمة‭ ‬جمالية‭ ‬مبهرة‭.‬

وربما‭ ‬سمع‭ ‬القارئ‭ ‬بأدنبره‭ ‬بوصفها‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬النعجة‭ ‬دوللي‭ ‬أول‭ ‬حيوان‭ ‬تم‭ ‬استنساخه‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭. ‬وسألت‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬النعجة‭ ‬خلال‭ ‬زيارتي‭ ‬الأخيرة‭ ‬للمدينة،‭ ‬فعرَّضت‭ ‬نفسي‭ ‬للسخرية‭ ‬لأنني‭ ‬لم‭ ‬أسمع‭ ‬بوفاتها‭ ‬ولم‭ ‬أقم‭ ‬بواجب‭ ‬العزاء‭. ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬عربي‭ ‬يزعم‭ ‬أنه‭ ‬يزور‭ ‬بريطانيا‭ ‬للسياحة‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬ثم‭ ‬يتسكع‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬دون‭ ‬غيرها،‭ ‬إما‭ ‬‮«‬مستهبل‮»‬‭ ‬وإما‭ ‬يخدع‭ ‬نفسه‭ ‬وإما‭ ‬نواياه‭ ‬غير‭ ‬شريفة‭!! ‬فمن‭ ‬يريد‭ ‬السياحة‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬بالغزل‭ ‬فعليه‭ ‬بمقاطعة‭ ‬البحيرات‭ (‬ليك‭ ‬ديستريكت‭) ‬ثم‭ ‬أدنبره‭. ‬تتغزل‭ ‬في‭ ‬أيه‭ ‬والا‭ ‬أيه؟‭ ‬تصبح‭ ‬عينك‭ ‬زائغة،‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تنقلها‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬خلال‭ ‬ثوان‭ ‬وتظل‭ ‬تتلفت‭ ‬حتى‭ ‬تصاب‭ ‬بشد‭ ‬عضلي‭.‬

لا‭ ‬تجعل‭ ‬خيالك‭ ‬يودي‭ ‬ويجيب‭ ‬ويروح‭ ‬لبعيد،‭ ‬فأنا‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬التغزل‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭. ‬والمعمار‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الابهار،‭ ‬وفي‭ ‬صيف‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬تستضيف‭ ‬أدنبره‭ ‬مهرجاناً‭ ‬ثقافياً‭ ‬رائعاً‭ ‬يجعل‭ ‬كل‭ ‬زاوية‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬تنبض‭ ‬بالجمال‭ ‬والموسيقى‭ ‬المحلية‭ ‬الرائعة،‭ ‬موسيقى‭ ‬القِرَب‭ ‬التي‭ ‬يعزفها‭ ‬رجال‭ ‬قليلو‭ ‬الحياء‭ ‬يرتدون‭ ‬تنانير‭ (‬سكيرتات‭) ‬لا‭ ‬تغطي‭ ‬الركبة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تتحرك‭ ‬الأصابع‭ ‬على‭ ‬مزامير‭ ‬القربة‭ ‬هبوطاً‭ ‬وصعوداً‭ ‬حتى‭ ‬يتغلغل‭ ‬سحر‭ ‬اسكتلندا‭ ‬وخصوصيتها‭ ‬إلى‭ ‬خلاياك‭.‬

لدينا‭ ‬منذ‭ ‬نحو‭ ‬قرن‭ ‬فرقة‭ ‬لموسيقى‭ ‬القرب‭ ‬تابعة‭ ‬للجيش‭ ‬السوداني‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬تابعة‭ ‬للفرقة‭ ‬الاسكتلندية‭ ‬المرابطة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬خلال‭ ‬الحكم‭ ‬البريطاني،‭ ‬وأفضل‭ ‬فرقة‭ ‬لتلك‭ ‬الموسيقى‭ ‬خارج‭ ‬اسكتلندا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬اليوم‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتبع‭ ‬جيش‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان‭. ‬كنت‭ ‬مأخوذا‭ ‬بجمال‭ ‬قلعة‭ ‬أدنبره‭ ‬الشهيرة‭ ‬والحديقة‭ ‬البديعة‭ ‬المحيطة‭ ‬بها‭ ‬عندما‭ ‬تدفق‭ ‬الآلاف‭ ‬صوبها‭ ‬في‭ ‬طوابير‭ ‬منتظمة،‭ ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬يعكنن‭ ‬مزاجي‭ ‬مثل‭ ‬الطوابير‭ ‬والانتظار،‭ ‬ما‭ ‬يؤكد‭ ‬أنني‭ ‬أحمل‭ ‬جينات‭ ‬عربية‭ ‬كثيرة‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬نوبي‭ ‬الأصل‭ ‬واللسان،‭ ‬وكانوا‭ ‬يصطفون‭ ‬لحضور‭ ‬ما‭ ‬قالوا‭ ‬إنه‭ ‬الـ«تاتو‮»‬،‭ ‬وضحكت‭ ‬لبلاهتهم‭ ‬لأن‭ ‬التاتو‭ ‬هو‭ ‬الوشم،‭ ‬وما‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬يعكنني‭ ‬مثل‭ ‬الوشم‭ ‬على‭ ‬جسم‭ ‬انسان،‭ ‬أو‭ ‬قرط‭ (‬حَلَق‭) ‬في‭ ‬أُذن‭ ‬رجل‭! ‬أنا‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬لماذا‭ ‬تثقب‭ ‬امرأة‭ ‬أذنها‭ ‬وتعرض‭ ‬نفسها‭ ‬للآلام‭ ‬والالتهابات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وضع‭ ‬حلقة‭ ‬في‭ ‬أذنها،‭ ‬فكيف‭ ‬أقبل‭ ‬ذاك‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬لكل‭ ‬جنس‭ ‬زينته‭ ‬الخاصة؟‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬مفهوماً‭ ‬أن‭ ‬أسأل‭ ‬رفاقي‭ ‬السودانيين‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬أدنبره‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬بلاهة‭ ‬الاسكتلنديين‭ ‬الذين‭ ‬يصطف‭ ‬الآلاف‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التاتو،‭ ‬فقالوا‭ ‬لي‭: ‬أنت‭ ‬الأبله‭ ‬لأنه‭ ‬من‭ ‬المعروف‭ ‬عالمياً‭ ‬أن‭ ‬التاتو‭ ‬هو‭ ‬عرض‭ ‬عسكري‭ ‬موسيقي‭ ‬سنوي‭ ‬تشتهر‭ ‬به‭ ‬أدنبره،‭ ‬وأن‭ ‬تلك‭ ‬الآلاف‭ ‬أتت‭ ‬لتتفرج‭ ‬على‭ ‬جيش‭ ‬عريق‭ ‬ذي‭ ‬تقاليد‭ ‬راسخة‭.‬

ولن‭ ‬أنسى‭ ‬ما‭ ‬حييت‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬التاتو‭ ‬تغلغل‭ ‬إلى‭ ‬وجداني‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬اسكتلندي‭ ‬الهوى،‭ ‬وزرت‭ ‬الإقليم‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬اكتشفت‭ ‬ان‭ ‬الاسكتلنديين‭ ‬ودودون‭ ‬وبسطاء‭ ‬بعكس‭ ‬الإنجليز‭ ‬الذين‭ ‬كلما‭ ‬عاشرتهم‭ ‬ازددت‭ ‬نفورا‭ ‬منهم،‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬تصويت‭ ‬البريطانيين‭ ‬لصالح‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوربي‭ ‬مؤخرا،‭ ‬فصار‭ ‬من‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬يصوت‭ ‬الاسكتلنديون‭ ‬لصالح‭ ‬الانفصال‭ ‬عن‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وكسوداني‭ ‬لديه‭ ‬خبرة‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬حركات‭ ‬‮«‬التحرير‮»‬،‭ ‬فإنني‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬لمساعدة‭ ‬اسكتلندا‭ ‬على‭ ‬الانفصال‭ ‬مقابل‭ ‬مكافأة‭ ‬رمزية‭ ‬هي‭ ‬الفوز‭ ‬بجواز‭ ‬سفر‭ ‬اسكتلندي‭ ‬لأنني‭ ‬بصراحة‭ ‬‮«‬ملّيت‭ ‬التحرير‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا