زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
في حب أدنبره
المسافة بين مدينة غلاسغو ومدينة أدنبره عاصمة اسكتلندا لا تزيد على أربعين دقيقة بسيارة كحيانة، ولكن ما إن تصل إلى أدنبره حتى تدرك أن المسافة بينهما كالمسافة بين العالم العربي والعلوم الحديثة، فأدنبره مدينة بارعة الجمال. وهي بأكملها عبارة عن متحف ضخم تشم فيه رائحة نضال الشعب الاسكتلندي للانعتاق من نير الاستعمار الانجليزي على مدى قرون طوال، وفيها تلتحم العراقة بالخضرة والماء (لا أجزم بأمر حسن الوجوه فيها)، فتكون النتيجة ملحمة جمالية مبهرة.
وربما سمع القارئ بأدنبره بوصفها مسقط رأس النعجة دوللي أول حيوان تم استنساخه في التاريخ. وسألت عن تلك النعجة خلال زيارتي الأخيرة للمدينة، فعرَّضت نفسي للسخرية لأنني لم أسمع بوفاتها ولم أقم بواجب العزاء. المهم أن أي عربي يزعم أنه يزور بريطانيا للسياحة والترويح عن النفس ثم يتسكع في لندن دون غيرها، إما «مستهبل» وإما يخدع نفسه وإما نواياه غير شريفة!! فمن يريد السياحة والترويح عن النفس بالغزل فعليه بمقاطعة البحيرات (ليك ديستريكت) ثم أدنبره. تتغزل في أيه والا أيه؟ تصبح عينك زائغة، تريد أن تنقلها من هنا إلى هناك خلال ثوان وتظل تتلفت حتى تصاب بشد عضلي.
لا تجعل خيالك يودي ويجيب ويروح لبعيد، فأنا أتكلم عن التغزل في الطبيعة. والمعمار الذي في غاية الابهار، وفي صيف كل عام تستضيف أدنبره مهرجاناً ثقافياً رائعاً يجعل كل زاوية في قلبها تنبض بالجمال والموسيقى المحلية الرائعة، موسيقى القِرَب التي يعزفها رجال قليلو الحياء يرتدون تنانير (سكيرتات) لا تغطي الركبة، ولكن ما إن تتحرك الأصابع على مزامير القربة هبوطاً وصعوداً حتى يتغلغل سحر اسكتلندا وخصوصيتها إلى خلاياك.
لدينا منذ نحو قرن فرقة لموسيقى القرب تابعة للجيش السوداني وكانت في الأصل تابعة للفرقة الاسكتلندية المرابطة في السودان خلال الحكم البريطاني، وأفضل فرقة لتلك الموسيقى خارج اسكتلندا في عالم اليوم هي تلك التي تتبع جيش سلطنة عمان. كنت مأخوذا بجمال قلعة أدنبره الشهيرة والحديقة البديعة المحيطة بها عندما تدفق الآلاف صوبها في طوابير منتظمة، ولا شيء يعكنن مزاجي مثل الطوابير والانتظار، ما يؤكد أنني أحمل جينات عربية كثيرة رغم أنني نوبي الأصل واللسان، وكانوا يصطفون لحضور ما قالوا إنه الـ«تاتو»، وضحكت لبلاهتهم لأن التاتو هو الوشم، وما من شيء يعكنني مثل الوشم على جسم انسان، أو قرط (حَلَق) في أُذن رجل! أنا لا أفهم لماذا تثقب امرأة أذنها وتعرض نفسها للآلام والالتهابات من أجل وضع حلقة في أذنها، فكيف أقبل ذاك من رجل يفترض أن يعرف أن لكل جنس زينته الخاصة؟ وهكذا كان مفهوماً أن أسأل رفاقي السودانيين المقيمين في أدنبره عن سر بلاهة الاسكتلنديين الذين يصطف الآلاف منهم من أجل التاتو، فقالوا لي: أنت الأبله لأنه من المعروف عالمياً أن التاتو هو عرض عسكري موسيقي سنوي تشتهر به أدنبره، وأن تلك الآلاف أتت لتتفرج على جيش عريق ذي تقاليد راسخة.
ولن أنسى ما حييت كيف أن التاتو تغلغل إلى وجداني إلى درجة أنني صرت اسكتلندي الهوى، وزرت الإقليم عدة مرات بعد ان اكتشفت ان الاسكتلنديين ودودون وبسطاء بعكس الإنجليز الذين كلما عاشرتهم ازددت نفورا منهم، ثم كان ما كان من أمر تصويت البريطانيين لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوربي مؤخرا، فصار من المرجح أن يصوت الاسكتلنديون لصالح الانفصال عن بريطانيا، وكسوداني لديه خبرة واسعة في تشكيل حركات «التحرير»، فإنني على استعداد لمساعدة اسكتلندا على الانفصال مقابل مكافأة رمزية هي الفوز بجواز سفر اسكتلندي لأنني بصراحة «ملّيت التحرير».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك