العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

الثقافي

تيمة الذاكرة في رواية «البحث عن الوقت الضائع» لمارسيل بروست بين الاستقصاء والتجربة

السبت ٢٢ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

لعل‭ ‬استعادة‭ ‬الذاكرة‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيلها‭ ‬أمر‭ ‬ملهم‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الكتابات‭ ‬الأدبية‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬العالمية،‭ ‬باعتبارها‭ ‬أهم‭ ‬روافد‭ ‬الكتابة‭ ‬الروائية،‭ ‬حيثُ‭ ‬إنّها‭ ‬تُسهم‭ ‬في‭ ‬فتح‭ ‬منافذ‭ ‬إلى‭ ‬التّخييل‭ ‬والعبور‭ ‬نحو‭ ‬استقصاء‭ ‬وسبر‭ ‬التّجربة‭ ‬وعوالم‭ ‬الكتابة‭ ‬واستكناه‭ ‬أسرارها‭ ‬التّعبيريّة‭ ‬والجماليّة،‭ ‬وتعد‭ ‬رواية‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع،‮ ‬للكاتب‮ ‬مارسيل‭ ‬بروست العمل‭ ‬الرئيسي‭ ‬للرواية‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‮ ‬والتي‭ ‬تُرجمت‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬الرواية‭ ‬تحكي‭ ‬تناقضات‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬قصة‭ ‬حياة‭ ‬بروست‭ ‬الخاصة،‭ ‬وتُروى‭ ‬باعتبارها‭ ‬البحث‭ ‬المجازي‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬محاولاً‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬الاسترجاع‭ ‬غير‭ ‬الطوعي‭ ‬لذاكرة‭ ‬الطفولة‭ ‬خلال‭ ‬سنوات‭ ‬الحرب،‮ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬بروست‭ ‬روايته‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬إنجازات‭ ‬الخيال‭ ‬البشري‭.‬‮ ‬

يتسع‭ ‬عالم‭ ‬مارسيل‭ ‬في‭ ‬روايته‭ ‬ليشمل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬المثقفين‭ ‬والفاسدين،‭ ‬وهو‭ ‬يرى‭ ‬النطاق‭ ‬الكامل‭ ‬للحماقة‭ ‬والبؤس‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬أدنى‭ ‬درجاته،‭ ‬حيث‭ ‬يشعر‭ ‬أن‭ ‬الوقت‭ ‬ضاع‭ ‬وتلاشى‭ ‬الجمال‭ ‬والمعنى‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سعى‭ ‬إليه‭ ‬وفاز‭ ‬به‭.‬‮ ‬

ومن‭ ‬خلال‭ ‬سلسلة‭ ‬من‭ ‬حوادث‭ ‬الذاكرة‭ ‬اللاواعية،‭ ‬أدرك‭ ‬بروست‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬الجمال‭ ‬الذي‭ ‬اختبره‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حيًا‭ ‬إلى‭ ‬الأبد،‭ ‬لذلك‭ ‬حاول‭ ‬استعادة‭ ‬الوقت،‭ ‬متسابقًا‭ ‬مع‭ ‬الموت،‮ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بحثه‭ ‬عن‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع،‭ ‬اذ‭ ‬لم‭ ‬يخترع‭ ‬شيئًا‭ ‬سوى‭ ‬تغيير‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬واختيار‭ ‬الحقائق‭ ‬ودمجها‭ ‬ونقلها‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬وحدتها‭ ‬الأساسية‭ ‬وأهميتها‭ ‬العالمية‭.‬‮ ‬

البحث‭ ‬عن‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬تجميع‭ ‬لسبعة‭ ‬مجلدات‭ ‬من‭ ‬مذكرات‭ ‬مارسيل‭ ‬بروست‭ ‬الشخصية وأربعة‭ ‬آلاف‭ ‬صفحة‭ ‬ومليون‭ ‬ونصف‭ ‬مليون‭ ‬كلمة‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬ألفي‭ ‬شخصية‭... ‬وفي‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬سرّ‭ ‬شعبية‭ ‬رواية‭ ‬ضخمة‭ ‬ومعقدة‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬نجد‭ ‬أنّ‭ ‬الأجوبة‭ ‬تتعدّد‭ ‬وتتشعّب‭ ‬لتلتقي‭ ‬أخيراً‭ ‬عند‭ ‬أسلوب‭ ‬بروست‭ ‬الروائي‭.‬‮ ‬

إذ‭ ‬استهلك‭ ‬بروست‭ ‬نفسه،‭ ‬وكافح‭ ‬طوال‭ ‬كتاباته‭ ‬لإرضاء‭ ‬توقعاته‭ ‬الخاصة‭ ‬بالكمال،‭ ‬إذ‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولته‭ ‬،‭ ‬لكنه‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أبدًا‭ ‬توصيل‭ ‬الجوهر‭ ‬الخالص‭ ‬للذاكرة‭ ‬تمامًا،‭ ‬لأنّ‭ ‬القيمة‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينقلها‭ ‬كاتب‭ ‬ما‭ ‬إلى‭ ‬قارئه‭ ‬تكمن‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬بروست‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬كشف‭ ‬عالم‭ ‬إضافي‭ ‬أمام‭ ‬الآخرين،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬بروست‭ ‬في‭ ‬رائعته‭ ‬‮«‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الزمن‭ ‬الضائع‮»‬‭ ‬عندما‭ ‬بيّن‭ ‬للقرّاء‭ ‬أنّ‭ ‬الذكريات‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تغدو‭ ‬هي‭ ‬الحياة،‮ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬دلالة‭ ‬نستقيها‭ ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني،‭ ‬أن‭ ‬معالجة‭ ‬موضوع‭ ‬الذّاكرة‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬منظورات‭ ‬مختلفة‭ ‬ومغايرة،‭ ‬ترتكز‭ ‬على‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الهويّة‭ ‬المفقودة‭ ‬عبر‭ ‬مساءلة‭ ‬الذاكرة‭ ‬وسواء‭ ‬تعلّق‭ ‬الأمر‭ ‬بالذاكرة‭ ‬الفردية‭ ‬أو‭ ‬الجماعيّة،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬الذّاكرة‭ ‬وسبر‭ ‬أغوارها‭ ‬وأسرارها‭.‬‮ ‬

وكمذكرات‭ ‬مركبة،‭ ‬ثمة وحدة‭ ‬ضمنية‭ ‬في‭ ‬السرد‭ ‬تلتزم‭ ‬بنظام‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬يهتم‭ ‬به‭ ‬بروست،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إسهابه في‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬حتمية‭ ‬الزمن‭ ‬باعتباره‭ ‬العامل‭ ‬الفاصل‭ ‬بينه‭ ‬وبين الأشخاص من‭ ‬حوله،‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يشبعه‭ ‬بالقوى‭ ‬السحرية،‭ ‬فإن‭ ‬اعتراف‭ ‬بروست‭ ‬بالزمانية‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بتجاوز‭ ‬العلاقات‭ ‬المهذبة‭ ‬العادية‭ ‬مع‭ ‬المحيطين‭ ‬به،‮ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬خضوعه‭ ‬للأهواء‭ ‬والأوهام‭ ‬التي‭ ‬تحتوي‭ ‬قصته‭ ‬على‭ ‬الكثير،‭ ‬منتبهاً‭ ‬بذكاء‮ ‬إلى‭ ‬انفلات‭ ‬الزمن‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديه،‭ ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬للزمن‭ ‬فرصة‭ ‬أن‭ ‬يتتبعه،‭ ‬ارتأى‭ ‬أن‭ ‬ينقضّ‭ ‬هو‭ ‬على‭ ‬الزمن‭ ‬لعلّه‭ ‬يُغيّر‭ ‬مساره‭ ‬المنضبط‭ ‬والصارم‭.‬‮ ‬

وأمام‭ ‬كلّ‭ ‬هذه‭ ‬التحولات،‭ ‬طرح‭ ‬بروست،‭ ‬الرجل‭ ‬ذو‭ ‬الحساسية‭ ‬المفرطة،‮ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأمثلة‭ ‬المماثلة‭ ‬للذاكرة‭ ‬اللاإرادية‭ ‬في‭ ‬الرواية،‭ ‬التي‭ ‬أثارتها‭ ‬التجارب‭ ‬الحسية‭ ‬مثل‭ ‬المشاهد‭ ‬والأصوات‭ ‬والروائح‭ ‬باستحضار ذكريات‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬حياته‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه كتب‭ ‬بالتزامن‭ ‬مع‭ ‬سيغموند‭ ‬فرويد،‭ ‬مع‭ ‬وجود‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬نقاط‭ ‬التشابه‭ ‬بين‭ ‬فكرهم‭ ‬حول‭ ‬هياكل‭ ‬وآليات‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭.‬‮ ‬

وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬رهان‭ ‬الذاكرة‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬هو‭ ‬رهان‭ ‬على‭ ‬التّخييل‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المعنى‭ ‬وتشكيل‭ ‬المتخيّل‭ ‬والهوية‭ ‬الفردية‭ ‬والجماعية،‭ ‬هذا‭ ‬الرّهان‭ ‬الأفقي‭ ‬في‭ ‬استقراء‭ ‬الذاكرة‭ ‬وكشف‭ ‬أسرارها‭ ‬وخزائنها‭ ‬يلعب‭ ‬دورا‭ ‬في‭ ‬بلورة‭ ‬الوعي‮ ‬بالكتابة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬أن‭ ‬الرواية‭ ‬راهنًا،‭ ‬أضحت‭ ‬لسان‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الذاكرة‭ ‬الإبداعية‭ ‬وانعكاسًا‭ ‬للحياة‭ ‬والعالم‭ ‬والفرد‭ ‬والأشياء‭. ‬وعليه،‭ ‬فإن‭ ‬هذا‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع،‭ ‬يُشكّلُ‭ ‬قيمة‭ ‬نوعية‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العالمي،‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬تناوله‭ ‬لموضوع‭ ‬الذاكرة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬النهوض‭ ‬بالمفاهيم‭ ‬الإجرائية‭ ‬ومحاولة‭ ‬تنسيبها‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬تطبيقي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا