العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: تقويض السَّرديات الكبرى!

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ٢٢ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

تُعد‭ ‬الروائيّة‭ ‬البولندية‭ ‬أولغا‭ ‬توكارتشوكOlga‭ ‬Tokarczuk‭  ‬الحائزة‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬للآداب‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أبرز‭  ‬كاتبات‭ ‬السردية‭ ‬الجديدة‭ ‬في‭ ‬بولندا‭ ‬وأوروبا‭ ‬الشرقية‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬كتب‭ ‬يعقوب‮»‬Books‭ ‬of‭  ‬Jacob‮»‬‭ ‬‮»‬،‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬جذبت‭ ‬انتباه‭ ‬لجنة‭ ‬تحكيم‭ ‬جائزة‭ ‬نوبل‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬توكارتشوك‭ ‬المغايرة‭ ‬في‭ ‬مضامينها‭ ‬وفي‭ ‬أساليبها‭ ‬السرديّة‭. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تعيد‭ ‬تفكيك‭ ‬تاريخ‭ ‬بولندا‭ ‬منذ‭ ‬أوروبا‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬إلى‭ ‬الحقبة‭ ‬الشيوعية‭. ‬وهي‭ ‬في‭ ‬رواياتها‭ ‬كما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬بيان‭ ‬إعلان‭ ‬الجائزة‭ ‬‮«‬لا‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬بوصفه‭ ‬شيئًا‭ ‬مستقرًا‭ ‬أو‭ ‬دائمًا،‭ ‬بل‭ ‬تضع‭ ‬رواياتها‭ ‬في‭ ‬توتر‭ ‬بين‭ ‬الأضداد‭ ‬الثقافيّة‭: ‬الطبيعة‭ ‬مقابل‭ ‬الثقافة،‭ ‬العقل‭ ‬مقابل‭ ‬الجنون،‭ ‬والذكور‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الإناث،‭ ‬والمنزل‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬الاغتراب‮»‬‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تشتغل‭ ‬على‭ ‬الخيال‭ ‬السردي‭ ‬المتمثّل‭ ‬في‭ ‬أنَّ‭ ‬العاطفة‭ ‬الموسوعيّة‭ ‬تمثل‭ ‬عبور‭ ‬الحدود‭ ‬بوصفه‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحياة‭.‬

‭ ‬تصف‭ ‬أولغا‭ ‬توكارتشوك‭ ‬نفسها‭ ‬بأنها‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬سيرة‭ ‬شخصية؛‭ ‬إذ‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬مقابلة‭ ‬مع‭ ‬مؤسسة‭ ‬الكتاب‭ ‬البولندية‭: ‬‮«‬لا‭ ‬أملك‭ ‬سيرة‭ ‬واضحة‭ ‬جدًا‭ ‬يمكنني‭ ‬أن‭ ‬أسردها‭ ‬بطريقة‭ ‬مثيرة‭ ‬للاهتمام‭. ‬أنا‭ ‬مجموع‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬تخيّلتها‭ ‬واخترعتها‭. ‬أنا‭ ‬مؤلَّفة‭ ‬من‭ ‬كلِّ‭ ‬هذه‭ ‬الشخصيات؛‭ ‬لذا‭ ‬سيرتي‭ ‬ضخمة‭ ‬ومؤلَّفة‭ ‬من‭ ‬حبكات‭ ‬عدة‮»‬‭. ‬وتمتاز‭ ‬توكارتشوك‭ ‬بالنزعة‭ ‬الإنسانيّة‭ ‬في‭ ‬كتابتها،‭ ‬وفي‭ ‬سردها‭ ‬يمتزج‭ ‬تخصصها‭ ‬الأكاديميّ‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬بالسرود‭ ‬الجماعيّة‭ ‬المخترعة‭ ‬لحيوات‭ ‬آلاف‭ ‬البشر‭ ‬في‭ ‬سردٍ‭ ‬توثيقيّ‭ ‬تخييليّ‭ ‬يختلط‭ ‬فيه‭ ‬المنطقيّ‭ ‬باللامنطقيّ‭ ‬في‭ ‬عوالمَ‭ ‬دائمة‭ ‬الحركة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬توقّف،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬نقطة‭ ‬ارتكاز،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ثبات‭. ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬سنجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬أمام‭ ‬لعبة‭ ‬أحجية‭ ‬كبرى‭ ‬مُكوّنة‭ ‬من‭ ‬مئات‭ ‬السرود‭ ‬الجماعيّة‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الحقيقة،‭ ‬ولا‭ ‬تصل‭ ‬إليها‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاوز‭ ‬الحدود‭ ‬وتجاوز‭ ‬الأشكال،‭ ‬واللغات‭ ‬الجامدة‭! ‬وكتابة‭ ‬توكارتشوك‭ ‬السردية‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬تمثلات‭ ‬الجوهر‭ ‬البشري،‭ ‬وهي‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬والانشغالات‭ ‬النفسية،‭ ‬وسردياتها‭ ‬هي‭ ‬حالات‭ ‬من‭ ‬التشظي‭ ‬التنوعي‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لقصصها‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬كما‭ ‬يحب‭ ‬القارئ‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تكون‭.‬

‭  ‬روايتها‭ ‬‮«‬رحلات‭ ‬Flights‮»‬‭ ‬هي‭ ‬الرواية‭ ‬التي‭ ‬حازت‭ ‬بها‭ ‬جائزة‭ ‬المان‭ ‬بوكر‭ ‬الدوليّة‭ ‬مناصفة‭ ‬مع‭ ‬المترجمة،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2018‭ ‬أيضًا‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬تُساءل‭ ‬توكارتشوك‭ ‬سؤالاً‭ ‬فلسفيا‭ ‬عميقًا‭ ‬جدًا‭ ‬وجوهريًا‭ ‬هو‭: ‬ما‭ ‬الأسباب‭ ‬الخفية،‭ ‬الشجاعة،‭ ‬والمتهورة‭_ ‬التي‭ ‬تجعلنا‭ ‬نغامر‭ ‬بالارتحال‭ ‬إلى‭ ‬العالم؟‭!  ‬من‭ ‬أين‭ ‬أنتَ؟‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتيتَ؟‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬تذهب؟‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬الأسئلة‭ ‬الأزلية‭ ‬التاريخيّة‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬على‭ ‬المسافر‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬زمان،‭ ‬وفي‭ ‬أيّ‭ ‬مكان‭ ‬أن‭ ‬يجيب‭ ‬عنها‭. ‬وتستكشف‭ ‬توكارتشوك‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬سجلاً‭ ‬شاملاٍ‭ ‬للطرق‭ ‬التي‭ ‬يكون‭ ‬فيها‭ ‬السرد‭ ‬عابرًا‭ ‬للحدود‭ ‬وشكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬الحياة‭. ‬وحده‭ ‬الإنسان‭ ‬الحقيقي‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يسافر‭ ‬وهو‭ ‬وحده‭ ‬الذي‭ ‬يدرك‭ ‬حقيقة‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬جوهره‭: ‬فالبرابرة‭_‬كما‭ ‬تقول‭ ‬توكارتشوك‭_‬لا‭ ‬يسافرون،‭ ‬هم‭ ‬ببساطة‭ ‬يذهبون‭ ‬إلى‭ ‬وجهاتٍ‭ ‬معينةٍ‭ ‬أو‭ ‬يشنون‭ ‬غارات‮»‬‭. ‬إنَّ‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬عن‭ ‬السفر‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭ ‬والتشريح‭ ‬البشري‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الوقوف‭ ‬عند‭ ‬التخوم‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭ ‬والحركة‭ ‬والهجرة‭.‬

‭ ‬وللأسف‭ ‬فإنَّ‭ ‬الأثر‭ ‬السرديّ‭ ‬الوحيد‭ ‬لتوكارتشوك‭ ‬المترجم‭ ‬إلى‭ ‬العربيّة‭ ‬هو‭ ‬روايتها‭ ‬‮«‬رحلات‮»‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬رواياتها‭ ‬السبع‭ ‬الأخرى،‭ ‬وأبرزها‭ ‬‮«‬كتب‭ ‬يعقوب‮»‬‭ ‬مغيّبة‭ ‬عن‭ ‬الترجمة‭ ‬العربيّة‭ ‬رغم‭ ‬قيمتها‭ ‬الإبداعيّة‭ ‬الكبرى،‭ ‬ورغم‭ ‬إبداع‭ ‬توكارتشوك‭ ‬السرديّ،‭ ‬وهو‭ ‬الإبداع‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬نتاجها‭ ‬يُقارن‭ ‬بأعمال‭ ‬روائيين‭ ‬مبدعين‭ ‬آخرين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقيّة‭ ‬مثل‭ ‬ميلان‭ ‬كونديرا‭ ‬وسفيتلاتا‭ ‬ألكسييفتش‭ ‬وغيرهما‭.‬

{  أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيَّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك، كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا