لا سواحل يقف عندها الإبداعُ في البحرين، تمتد جذوره امتداد عراقة التاريخ في أرضِها، ويتجدد بتجدد مياه بحرها الشاهد على جمال طبيعة الإنسان فيها، ويتسع باتساع سماواتها الموحِية لهذا الإنسان بأسمى نفحات الإلهام التي يُعبر عنها شِعرًا ونثرًا ونغمًا ولونًا مُترجِمًا ما تلقَّاه من حكمة الزمن، ولعل من أبرز التجارب الإبداعية التي ساقها حظي إلى يدي تجربةً تتمثل بإصدارٍ أدبي بحريني عنوانه «السرَّايات» لمؤلِّفه المُبدِع/ عيسى هجرس.
ما أن بدأتُ أتصفح هذا الكِتاب حتى غرقت مشاعري في عالمٍ من الذهول أمام تلك الفتنة اللغوية التي قل مثيلها في عصرنا الحاضر! فقلم المؤلف هنا فارسٌ لا يُشق لمهاراته غُبار على أرض المُحسنات البديعية العربية، صولاتٌ وجولاتٌ بين الجِناسُ والطباقُ والتوريةُ والمُقابلة، كرٌ وفرٌ لا ينتهي بين السجع والمُبالغة الفخمة وحُسن التعليل، بسالةٌ في استخراج مواضيع شائكة وتعريتها مضمونًا مع سترها بأناقة اللغة، اتفاقٌ نادر بين الموهبة والمهارة والقدرة على تطويع الكلمات كي تكون ثوبًا ملائمًا لتفاصيل عُصارة خِبرةِ حياة المؤلف المُقدمة للقارئ!
يُعرِّفُ المؤلفُ «السّرَّايات» بأنها: «عواصِفُ الموسمُ المُعلَّقةُ بذيلِ الشتاء»، ولأنهُ يرى أنَّ «لموجات الفكر سرَّاياتها التي تهبُّ في مُناخاتِ الأحاسيس والعواطِف فتجُرُّ قوافل التأمُّل في مِساحات البلاغة وأفق الخيال بحثًا عن طرائد الإبداع»، فقد وَهَبنا على صفحات كتابه 1060 من سرَّايات فِكره، لعل أرواحنا تستعين بها لأخذ الموعظة والعِبرة من خَطَراتِ الحِكمة، لنُصافح بمشاعرنا صورًا من الحياة، الحُب، الصداقة، الثقافة، الحظ، الأقدار، السياسة، التاريخ، المُجتمع، العلاقة بين المرأة والرجُل، الحُرية، أحكام الزمن، الوطن، المعرِفة، الجهل، التقاليد، والمسافاتُ الحضارية بين الشرق والغرب.
هل من بلاغةٍ توازي بلاغة سرَّاية 73 التي تقول: «ما أكثر الذينَ وقفوا على منصَّات الشِّعر، ولم يجلسوا قط على كُرسي الشاعِريَّة»؟ وهل يُمكننا إغفال عُمق التشبيه في سرَّاية 128 التي تقول: «في بحرِ الثقافة؛ الجريدةُ قراءة حالِ الموج، أما الكتاب فهو سبرُ الأعماق»؟ هل يُمكن عدم الالتفات لدقة الاختزال في قول سرَّاية 245: «يصرفُ الزمانُ الكثيرَ من الوقتِ ليشتريَ بهِ لحظة يُهديها للتاريخ»؟ وهل يُمكن لانتباه القارئ أن يمر مرور اللئام على سرَّاية 115 التي تقول: «الحُرية للنحل جنيُ عسل، والحُريةُ للذباب نشرُ عِلل، لذلك الحُريةُ ليست حقًا مُطلقًا، وإنما هي نسبيَّة الاستحقاق»؟، وكيفَ لا يهمس كُل أديبٍ بكلمة «أحسنت» وهو يقرأ: «ما أكثرَ قامات الشموخِ في الأدبْ، التي تمشي بظل إبداعٍ أحدب» في سرَّاية 5؟ وكيف لا نعتبرُ – نحنُ النساء- سرَّاية 102 تستحق تصفيقًا حارًا وهي تُعلنُ بشجاعةٍ مُنقطعة النظير: «وافقَ الرجُلُ أن تكون المرأة نصف المُجتمع، على شرطِ أن تكونَ دومًا مُنصاعةً لأنصافِ حلولِه، وقابلةً لأرباعِ وأخماسِ احتمالاتِه، وأن تقفَ أمامهُ بكل احترامٍ لأصفارِ وفائه»!
لا عَجَبَ أن يكون الكتابُ تُحفةً أدبيَّةً من الطراز الرفيع، تُذكرنا بعصور انتعاشِ فن البيانِ والبديع، فقد استغرَقَ صبرُ المؤلف أكثر من ثلاثينَ عامًا ليطمئن لولادتهِ سالِمًا من الزلل، لا مُجهضًا مُبتلىً بالأسقامِ والعِلل، فاستحق أن ينال مكانةً مرموقةً يحتفي بها حاضر الأدب ومُستقبله باعتبارهِ مُنجزًاٌ إبداعيًا بحرينيًا قل نظيرهُ، وكان لا بد من الكتابة عنه للقارئ الذي لا ينتقي لبصيرتهِ إلا كُل دُرةٍ نضيرَة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك