العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٦ - الجمعة ١٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٩ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

الثقافي

«السرَّايات».. جاذبيَّة اللغة وحكمة المضمون

بقلم: زينب علي البحراني

السبت ٠٨ أبريل ٢٠٢٣ - 02:00

لا‭ ‬سواحل‭ ‬يقف‭ ‬عندها‭ ‬الإبداعُ‭ ‬في‭ ‬البحرين،‭ ‬تمتد‭ ‬جذوره‭ ‬امتداد‭ ‬عراقة‭ ‬التاريخ‭ ‬في‭ ‬أرضِها،‭ ‬ويتجدد‭ ‬بتجدد‭ ‬مياه‭ ‬بحرها‭ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬طبيعة‭ ‬الإنسان‭ ‬فيها،‭ ‬ويتسع‭ ‬باتساع‭ ‬سماواتها‭ ‬الموحِية‭ ‬لهذا‭ ‬الإنسان‭ ‬بأسمى‭ ‬نفحات‭ ‬الإلهام‭ ‬التي‭ ‬يُعبر‭ ‬عنها‭ ‬شِعرًا‭ ‬ونثرًا‭ ‬ونغمًا‭ ‬ولونًا‭ ‬مُترجِمًا‭ ‬ما‭ ‬تلقَّاه‭ ‬من‭ ‬حكمة‭ ‬الزمن،‭ ‬ولعل‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬التجارب‭ ‬الإبداعية‭ ‬التي‭ ‬ساقها‭ ‬حظي‭ ‬إلى‭ ‬يدي‭ ‬تجربةً‭ ‬تتمثل‭ ‬بإصدارٍ‭ ‬أدبي‭ ‬بحريني‭ ‬عنوانه‭ ‬‮«‬السرَّايات‮»‬‭ ‬لمؤلِّفه‭ ‬المُبدِع‭/ ‬عيسى‭ ‬هجرس‭.‬

ما‭ ‬أن‭ ‬بدأتُ‭ ‬أتصفح‭ ‬هذا‭ ‬الكِتاب‭ ‬حتى‭ ‬غرقت‭ ‬مشاعري‭ ‬في‭ ‬عالمٍ‭ ‬من‭ ‬الذهول‭ ‬أمام‭ ‬تلك‭ ‬الفتنة‭ ‬اللغوية‭ ‬التي‭ ‬قل‭ ‬مثيلها‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحاضر‭! ‬فقلم‭ ‬المؤلف‭ ‬هنا‭ ‬فارسٌ‭ ‬لا‭ ‬يُشق‭ ‬لمهاراته‭ ‬غُبار‭ ‬على‭ ‬أرض‭ ‬المُحسنات‭ ‬البديعية‭ ‬العربية،‭ ‬صولاتٌ‭ ‬وجولاتٌ‭ ‬بين‭ ‬الجِناسُ‭ ‬والطباقُ‭ ‬والتوريةُ‭ ‬والمُقابلة،‭ ‬كرٌ‭ ‬وفرٌ‭ ‬لا‭ ‬ينتهي‭ ‬بين‭ ‬السجع‭ ‬والمُبالغة‭ ‬الفخمة‭ ‬وحُسن‭ ‬التعليل،‭ ‬بسالةٌ‭ ‬في‭ ‬استخراج‭ ‬مواضيع‭ ‬شائكة‭ ‬وتعريتها‭ ‬مضمونًا‭ ‬مع‭ ‬سترها‭ ‬بأناقة‭ ‬اللغة،‭ ‬اتفاقٌ‭ ‬نادر‭ ‬بين‭ ‬الموهبة‭ ‬والمهارة‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تطويع‭ ‬الكلمات‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬ثوبًا‭ ‬ملائمًا‭ ‬لتفاصيل‭ ‬عُصارة‭ ‬خِبرةِ‭ ‬حياة‭ ‬المؤلف‭ ‬المُقدمة‭ ‬للقارئ‭!‬

يُعرِّفُ‭ ‬المؤلفُ‭ ‬‮«‬السّرَّايات‮»‬‭ ‬بأنها‭: ‬‮«‬عواصِفُ‭ ‬الموسمُ‭ ‬المُعلَّقةُ‭ ‬بذيلِ‭ ‬الشتاء‮»‬،‭ ‬ولأنهُ‭ ‬يرى‭ ‬أنَّ‭ ‬‮«‬لموجات‭ ‬الفكر‭ ‬سرَّاياتها‭ ‬التي‭ ‬تهبُّ‭ ‬في‭ ‬مُناخاتِ‭ ‬الأحاسيس‭ ‬والعواطِف‭ ‬فتجُرُّ‭ ‬قوافل‭ ‬التأمُّل‭ ‬في‭ ‬مِساحات‭ ‬البلاغة‭ ‬وأفق‭ ‬الخيال‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬طرائد‭ ‬الإبداع‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬وَهَبنا‭ ‬على‭ ‬صفحات‭ ‬كتابه‭ ‬1060‭ ‬من‭ ‬سرَّايات‭ ‬فِكره،‭ ‬لعل‭ ‬أرواحنا‭ ‬تستعين‭ ‬بها‭ ‬لأخذ‭ ‬الموعظة‭ ‬والعِبرة‭ ‬من‭ ‬خَطَراتِ‭ ‬الحِكمة،‭ ‬لنُصافح‭ ‬بمشاعرنا‭ ‬صورًا‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬الحُب،‭ ‬الصداقة،‭ ‬الثقافة،‭ ‬الحظ،‭ ‬الأقدار،‭ ‬السياسة،‭ ‬التاريخ،‭ ‬المُجتمع،‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المرأة‭ ‬والرجُل،‭ ‬الحُرية،‭ ‬أحكام‭ ‬الزمن،‭ ‬الوطن،‭ ‬المعرِفة،‭ ‬الجهل،‭ ‬التقاليد،‭ ‬والمسافاتُ‭ ‬الحضارية‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب‭.‬

هل‭ ‬من‭ ‬بلاغةٍ‭ ‬توازي‭ ‬بلاغة‭ ‬سرَّاية‭ ‬73‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أكثر‭ ‬الذينَ‭ ‬وقفوا‭ ‬على‭ ‬منصَّات‭ ‬الشِّعر،‭ ‬ولم‭ ‬يجلسوا‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬كُرسي‭ ‬الشاعِريَّة»؟‭ ‬وهل‭ ‬يُمكننا‭ ‬إغفال‭ ‬عُمق‭ ‬التشبيه‭ ‬في‭ ‬سرَّاية‭ ‬128‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬في‭ ‬بحرِ‭ ‬الثقافة؛‭ ‬الجريدةُ‭ ‬قراءة‭ ‬حالِ‭ ‬الموج،‭ ‬أما‭ ‬الكتاب‭ ‬فهو‭ ‬سبرُ‭ ‬الأعماق»؟‭ ‬هل‭ ‬يُمكن‭ ‬عدم‭ ‬الالتفات‭ ‬لدقة‭ ‬الاختزال‭ ‬في‭ ‬قول‭ ‬سرَّاية‭ ‬245‭: ‬‮«‬يصرفُ‭ ‬الزمانُ‭ ‬الكثيرَ‭ ‬من‭ ‬الوقتِ‭ ‬ليشتريَ‭ ‬بهِ‭ ‬لحظة‭ ‬يُهديها‭ ‬للتاريخ»؟‭ ‬وهل‭ ‬يُمكن‭ ‬لانتباه‭ ‬القارئ‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬مرور‭ ‬اللئام‭ ‬على‭ ‬سرَّاية‭ ‬115‭ ‬التي‭ ‬تقول‭: ‬‮«‬الحُرية‭ ‬للنحل‭ ‬جنيُ‭ ‬عسل،‭ ‬والحُريةُ‭ ‬للذباب‭ ‬نشرُ‭ ‬عِلل،‭ ‬لذلك‭ ‬الحُريةُ‭ ‬ليست‭ ‬حقًا‭ ‬مُطلقًا،‭ ‬وإنما‭ ‬هي‭ ‬نسبيَّة‭ ‬الاستحقاق‮»‬؟،‭ ‬وكيفَ‭ ‬لا‭ ‬يهمس‭ ‬كُل‭ ‬أديبٍ‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬أحسنت‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭: ‬‮«‬ما‭ ‬أكثرَ‭ ‬قامات‭ ‬الشموخِ‭ ‬في‭ ‬الأدبْ،‭ ‬التي‭ ‬تمشي‭ ‬بظل‭ ‬إبداعٍ‭ ‬أحدب‮»‬‭ ‬في‭ ‬سرَّاية‭ ‬5؟‭ ‬وكيف‭ ‬لا‭ ‬نعتبرُ‭ ‬‭ ‬نحنُ‭ ‬النساء‭- ‬سرَّاية‭ ‬102‭ ‬تستحق‭ ‬تصفيقًا‭ ‬حارًا‭ ‬وهي‭ ‬تُعلنُ‭ ‬بشجاعةٍ‭ ‬مُنقطعة‭ ‬النظير‭: ‬‮«‬وافقَ‭ ‬الرجُلُ‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬المرأة‭ ‬نصف‭ ‬المُجتمع،‭ ‬على‭ ‬شرطِ‭ ‬أن‭ ‬تكونَ‭ ‬دومًا‭ ‬مُنصاعةً‭ ‬لأنصافِ‭ ‬حلولِه،‭ ‬وقابلةً‭ ‬لأرباعِ‭ ‬وأخماسِ‭ ‬احتمالاتِه،‭ ‬وأن‭ ‬تقفَ‭ ‬أمامهُ‭ ‬بكل‭ ‬احترامٍ‭ ‬لأصفارِ‭ ‬وفائه‮»‬‭!‬

لا‭ ‬عَجَبَ‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الكتابُ‭ ‬تُحفةً‭ ‬أدبيَّةً‭ ‬من‭ ‬الطراز‭ ‬الرفيع،‭ ‬تُذكرنا‭ ‬بعصور‭ ‬انتعاشِ‭ ‬فن‭ ‬البيانِ‭ ‬والبديع،‭ ‬فقد‭ ‬استغرَقَ‭ ‬صبرُ‭ ‬المؤلف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثينَ‭ ‬عامًا‭ ‬ليطمئن‭ ‬لولادتهِ‭ ‬سالِمًا‭ ‬من‭ ‬الزلل،‭ ‬لا‭ ‬مُجهضًا‭ ‬مُبتلىً‭ ‬بالأسقامِ‭ ‬والعِلل،‭ ‬فاستحق‭ ‬أن‭ ‬ينال‭ ‬مكانةً‭ ‬مرموقةً‭ ‬يحتفي‭ ‬بها‭ ‬حاضر‭ ‬الأدب‭ ‬ومُستقبله‭ ‬باعتبارهِ‭ ‬مُنجزًاٌ‭ ‬إبداعيًا‭ ‬بحرينيًا‭ ‬قل‭ ‬نظيرهُ،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬عنه‭ ‬للقارئ‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬ينتقي‭ ‬لبصيرتهِ‭ ‬إلا‭ ‬كُل‭ ‬دُرةٍ‭ ‬نضيرَة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا