«كُنتُ أتعمدُ ألاَ أسيرَ عَلى دربٍ طرقتهُ مِن قبلِ مرتين». تُنسبُ هذهُ المقولةُ إلى ابنِ بطوطةَ اللواتيّ الطنجيّ (ت:779ه/1377م) الملقبِ بأميرِ الرحّالين المسلمين، وهي مقولةٌ نجدها في كتابِ أسفاره الموسومِ (تُحفة النُّظارِ في غرائبِ الأمصارِ وعجائبِ الأسفارِ). والعجيبُ أنَّ ابنَ بطوطةَ قضى جلَّ حياته مرتحلاً إلى أقاصي الشرقِ، واحتفظَ بمشاهداته كلِّها عَن المكانِ منقوشةً في ذاكرتهِ، ولًمْ يدوّنها هُو؛ فقد دوَّنها الفقيهُ الأندلسيُّ ابن جُزي الكلبيّ الذي استمع إلى ابن بطوطةَ، وهو يسردُ رحلاته شفاهًا. ولاشكَّ أنَّ ثمّة سَردًا انتقائيًا قامتْ به ذاكرةُ ابنِ بطوطةَ، وهو يسردُ رحلاته المتسعةِ لأكثرَ من ربعِ قرنٍ من الزمانِ! فدوَّن ابنِ جُزي الكَلبيّ تلكَ السُّرودَ الحكائيةَ، ولو كانَ ابنُ بطوطةَ قد دوَّن رحلاته بنفسه كَما فعلَ على سبيلِ المثالِ ابنُ جُبيرٍ الأندلسيِّ لربَّما كُنا سنستمتعُ بسردٍ من نمطٍ آخرَ مغايرٍ لايخلو من الدهشةِ العجائبيّةِ!
إنَّ الرحَّالةَ العربيَّ القديمَ دوَّنَ رحلاتِه أو دوَّنها آخرون عنه في مئاتٍ من الصفحاتِ التي تشتملُ عَلى سردياتٍ توثيقيَّةٍ شارحةٍ صَادرةٍ عن مرجعياته الفكرية والثقافيّة، وهُو يسردُ تواريخَ الأمكنةِ والجماعاتِ، وقَد تخالطُ سردَه التوثيقيَّ بعضُ السُّرودِ العجائبيَّةِ التي قَد لا تخضعُ لتنظيرِ الناقدِ الفرنسيِّ تزفيتين تودوروف (Tzvetan Todorov ) عن العجيبِ والعجائبيَّةِ! تُرى هل ستسمحُ طبيعةُ الكتابةِ الشعريةِ لشاعرٍ عربيٍّ قديمٍ بسردٍ توثيقيٍّ يختزلُ فيه رحلاتِه، وهو الذي يرتهنُ إلى خطابٍ أدبيِّ مجازيٍّ يحتفي فيه بالتمثيلاتِ الإبداعيّةِ الأدبيَّةِ والبلاغيَّةِ؟! وهل تسمحُ طبيعةُ الكتابةِ الشعريةِ المكثفةِ والمختزلةِ أن تحتفيَ بكتابةٍ إبداعيَّةٍ معقدةٍ لتعدديةِ أصواتٍ، وتعدديةِ خطاباتٍ، وهي تسردُ تواريخَ البشرِ، والأمكنةِ، والفضاءات التي يصورها الشُّعراءُ في ارتحالاتهم الحقيقيَّةِ والمجازية؟!
لقدْ اشتملتْ المكتبةُ العربيَّةُ القديمةُ على مئاتٍ من مصنفاتِ كتبِ المسالكِ والممالكِ، والجغرافيا، والرحلاتِ التي أنتجها جغرافيون ورحّألة عربٌ قدامى تجاوزوا مركزيةَ الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ ومركزية ِ(دارِ الإسلامِ) إلى التُّخومِ الرمزيةِ مع الآخرِ، وربَّما اقتحامه أحيانًا! وإذا كانتْ القصيدةُ العربيَّةُ القديمةُ في عصرِ مَا قبلِ الإسلامِ قَدْ احتفتْ بتلكَ الرحلةِ الرمزيةِ الطَّويلةِ التي يقطعها الشَّاعرُ العربيُّ القديمُ في مجاهلِ الصَّحراءِ، وهو يجوبُ الفيافي بوصفها طقسًا من طقوسِ العبورِ في تلك القصيدةِ فإنَّ القصيدةَ العربيَّةَ القديمةَ في مراحلَ تاليةٍ ابتداءً من العصرِ الأمويِّ فالعبَّاسيِّ وما تلاهما من العصور قدْ احتفتْ في بعض سياقاتها بالرحلةِ والسَّفرِ بطريقةٍ مغايرةٍ. إنَّ الامتداداتِ الكبرى للدولةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ التي نافستْ الدولَ الإمبراطوريةَ آنذاكَ في مساحاتها الهائلة قد أنتجتْ شغفًا متجددًا بالسَّفرِ مثَّله رحَّالون من أمثال أبي دُلف المسعريّ، وابنِ فضلان، وابنِ جُبير، وابنِ بطوطة، وابن خَلدون وغيرُهم.
إنَّ السَّفرَ هُو غيابٌ في مكانٍ وحضورٌ في مكانٍ آخرَ، وتكتسبُ ثنائيتا الحضورِ/ الغيابِ، والغيابُ/ الحضور نصوصًا لاَ متناهيةً من التأويلِ، وفي تلكَ الامتدادتِ الكبرى للحركةِ والسكونِ عَلى نطاقِ التَّرحلاتِ الحقيقيَّةِ والمجازيةِ بالنسبةِ للأفرادِ وحتَّى الجماعاتِ. ويكتسبُ السَّفرُ في مدوًّنة السَّفرِ العربيَّةِ القديمةِ بعضَ الدلالاتِ المجازيةِ الفلسفيَّةِ التي تربطه بفلسفةِ الموتِ، وخاصةً عند أبي العَلاء المعريّ وابن جُبير الأندلسيّ، على سبيلِ المثالِ.
سيلفت انتباهنا ذلكَ الشغفُ المحفِّزُ على مغامرةِ الرحلةِ والعودةِ ثمَّ المغامرةُ من جديدٍ! وتلكَ الرغبةُ في التعرُّفِ إلى الذاتِ من خلالِ التعرُّفِ إلى الآخرِ والارتحالِ إليه، وعبورِ تخومهِ الحقيقيَّةِ والرمزية! ولولا هذا الشغفُ المتجدّدُ وتلكَ الرغبةُ في المعرفةِ لما كانتْ صناعةُ الكتابةِ المدهشةِ المتولِّدةِ عن تلكَ الأسفارِ في الثقافةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، وتشملُ هذه الكتابةُ على (الشَّعرَ والنثرَ) على اختلافِ خطاباتهما؛ ولذلكَ أدعو إلى تتبعِ مدوّنة السَّفرِ العربيِّ القديمِ بمختلفِ تمثيلاته شعرًا ونثراً لكي نفككَ السَّفرَ بوصفه خطابًا (Discourse) له تعالقاتُه النصيةُ الجماليةُ والثقافيَّةُ مع عديدِ النصوصِ التي أُنتجتْ في سياقاتِ الحضارةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ. وسنجدُ في تلكَ التفصيلاتِ الصغيرِة التي يسردها شعراءُ وناثرون عربٌ قدامى رؤيةَ العَالمِ لديهم، وهُم يرتحلونَ ويعبرونَ ويسافرونَ! وكُلما قرأنا نصوصًا أكثرَ كلما اقتربنا وبعمقٍ من تلكَ التمثيلاتِ الحضاريةِ الثقافيَّةِ التي حملها الأديبُ العربيُّ القديم على اتساعِ مفهومِ (الأدب): (الشَّاعرُ، والناثر،ُ والكاتبُ، والمؤرِّخُ، والجغرافيُّ) وهو يقاربُ هذه التُّخومَ الرمزيةَ!
لقَدْ كانَ الناقدُ الفرنسيُّ غاستون باشلار (Gaston Bachelard) مهمومًا بجمالياتِ الأمكنةِ، ولذلكَ ميَّز بين الأمكنةِ الجغرافيَّةِ البحتةِ وبين المكانِ حينما يحتفظُ ببعده النفسيِّ والثقافيِّ، وكذلكَ فعلَ الناقدُ الروسيُّ (يوري لوتمان) (Yuri (Lotman في تفكيكه سيمياءَ الكونِ بما في ذلكَ السفرُ والأمكنةُ. ولذلكَ ثمَّة أمكنةٌ جاذبةٌ تغريكَ بزيارتها وأخرى طاردةٌ لاتستطيعُ العودةَ إليها مطلقًا. ولكني أعتقدُ أنَّ لدى عشاقِ السَّفرِ ذلكَ النمطَ من المغامرةِ الذي يغريهم بزيارةِ هذه الأمكنةِ جميعها بغضِّ النظرِ عن جاذبيتها أو عدمها، والسببُ في ذلكَ أنهم يخلقون في داخلهم متخيَّلاً للأمكنةِ التي يزورونها، وتبقى تلكَ المخيلةُ خاصةً بهم وحدهم، وتبقى ذاكرةُ السَّفرِ منقوشةً في ذاكرتهم تكسبهم وعيًا استثنائيًا في التعاملِ مع مفرداتِ الكونِ من حولهم.
{ أستاذة السَّرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك