العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٥١ - الخميس ٢٨ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٦ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

قصة قصيرة : غربتان

بقلم: حسن الموسوي {

السبت ١٨ مارس ٢٠٢٣ - 02:00

مرة‭ ‬أخرى‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬شقتها‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ديترويت‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬ميشيغان‭ ‬الأمريكية،‭ ‬لكن‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬وحيدة‭ ‬منكسرة‭.‬

كانت‭ ‬رغبتها‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬تزداد‭ ‬كلما‭ ‬داهمتها‭ ‬ذكريات‭ ‬الماضي‭ ‬الجميل‭.‬

لأول‭ ‬وهلة‭ ‬شعرت‭ ‬بأنها‭ ‬غريبة‭ ‬عن‭ ‬المكان‭ ‬ولا‭ ‬يربطها‭ ‬به‭ ‬سوى‭ ‬أمنيات‭ ‬ربما‭ ‬لن‭ ‬تتحقق‭ ‬مطلقا‭ ‬فرحلة‭ ‬الأموات‭ ‬رحلة‭ ‬مجانية‭ ‬تأخذنا‭ ‬بعيدا‭ ‬إلى‭ ‬عوالم‭ ‬أخرى‭.‬

رحلة‭ ‬لا‭ ‬عودة‭ ‬منها‭.‬

وكم‭ ‬حاولت‭ ‬التشبث‭ ‬بفكرة‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬كان‭ ‬حلما‭ ‬أو‭ ‬كابوسا‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬آخر‭ ‬إلا‭ ‬فكرة‭ ‬الموت‭ ‬نفسها‭.‬

تأوهت‭ ‬كثيرا،‭ ‬تساقطت‭ ‬دموعها‭ ‬كأمطار‭ ‬الشتاء‭ ‬لكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لن‭ ‬يعيد‭ ‬إليها‭ ‬ابنها‭ ‬الذي‭ ‬فقدته‭ ‬في‭ ‬غفلة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭.‬

كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬القبيح‭ ‬يمكن‭ ‬إصلاحه‭ ‬قالت‭ ‬في‭ ‬سرها‭ ‬الجروح‭ ‬تلتئم،‭ ‬الغائب‭ ‬يعود‭ ‬وحتى‭ ‬الخسارات‭ ‬يمكن‭ ‬تعويضها،‭ ‬لكن‭ ‬فقد‭ ‬الابن‭ ‬الذي‭ ‬هزمه‭ ‬الموت‭ ‬رغما‭ ‬عنه‭ ‬وجعله‭ ‬ذكرى‭ ‬تداعب‭ ‬مخيلتها‭ ‬بحرقة‭ ‬وألم‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الموحشة‭ ‬لم‭ ‬تسعفها‭ ‬روحها‭ ‬المرتعشة‭ ‬في‭ ‬مقاومة‭ ‬الفاجعة‭ ‬التي‭ ‬حلت‭ ‬بها‭.‬

فالمصائب‭ ‬تداهمها‭ ‬تترى،‭ ‬فمِن‭ ‬فقد‭ ‬عائلتها‭ ‬بحادث‭ ‬انفجار‭ ‬سيارة‭ ‬مفخخة‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬بغداد‭ ‬المليئة‭ ‬بمشاهد‭ ‬الدمار‭ ‬مرورا‭ ‬بغربة‭ ‬المنفى‭ ‬مرورا‭ ‬بفقد‭ ‬ابنها‭ ‬الوحيد‭.‬

على‭ ‬كرسيه‭ ‬الهزاز‭ ‬هوت‭ ‬بحزنها‭ ‬قبل‭ ‬جسدها‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬منها‭ ‬لاسترجاع‭ ‬ذكرياتها‭ ‬المكلومة‭.‬

مالت‭ ‬برأسها،‭ ‬أغمضت‭ ‬عينيها،‭ ‬عادت‭ ‬بها‭ ‬الذاكرة‭ ‬إلى‭ ‬مقبرة‭ ‬وادي‭ ‬السلام‭ ‬في‭ ‬النجف‭ ‬الأشرف‭ ‬حينما‭ ‬دفنت‭ ‬ولدها‭ ‬الوحيد‭.‬

يومها‭ ‬افترشت‭ ‬رمال‭ ‬المقبرة‭ ‬وهي‭ ‬تناجي‭ ‬قبر‭ ‬ولدها‭ ‬بمرارة‭ ‬الفقد‭.‬

وكم‭ ‬حسدت‭ ‬القبور‭ ‬المجاورة‭ ‬لقبر‭ ‬ولدها‭ ‬وكم‭ ‬تمنت‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬باستطاعتها‭ ‬أن‭ ‬تتوسد‭ ‬قبرا‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬القبور‭ ‬لتكون‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬ابنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الاطمئنان‭.‬

في‭ ‬بداية‭ ‬هجرتها‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬ديترويت‭ ‬استطاعت‭ ‬أن‭ ‬تقهر‭ ‬غربة‭ ‬المهجر‭ ‬بمساعدة‭ ‬ولدها‭ ‬الذي‭ ‬منحها‭ ‬الأمان،‭ ‬لقد‭ ‬ساعدها‭ ‬في‭ ‬قهر‭ ‬الصعاب،‭ ‬لكن‭ ‬بعد‭ ‬رحيله‭ ‬من‭ ‬سوف‭ ‬يساعدها‭ ‬في‭ ‬هزيمة‭ ‬غربة‭ ‬المهجر‭ ‬وغربة‭ ‬الحزن‭.‬

غربتان‭ ‬مظلمتان‭ ‬أطبقتا‭ ‬على‭ ‬حياتها‭ ‬كالليل‭ ‬البهيم‭ ‬في‭ ‬شتاء‭ ‬طويل‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬الموحشة‭ ‬تكلم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬شقتها،‭ ‬رفعت‭ ‬رأسها‭ ‬لتراقب‭ ‬حركة‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬حولها‭.‬

قالت‭ ‬كرة‭ ‬اتخذت‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬الغرفة‭ ‬مكانا‭ ‬لها،‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬لاعبا‭ ‬ماهرا‭ ‬يداعبني‭ ‬بشغف‭ ‬المحبين‭ ‬بأقدام‭ ‬من‭ ‬ذهب‭.‬

قال‭ ‬الكلب،‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬رفيقا‭ ‬يأخذني‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬إلى‭ ‬متنزه‭ ‬المدينة‭.‬

قالت‭ ‬النافذة‭ ‬كان‭ ‬ثمة‭ ‬عاشق‭ ‬يجلس‭ ‬بالقرب‭ ‬مني‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬كتابة‭ ‬قصيدة‭ ‬لفتاة‭ ‬أحلامه‭.‬

قالت‭ ‬سورة‭ ‬من‭ ‬القرآن،‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬قارئا‭ ‬يقضي‭ ‬الليل‭ ‬بطوله‭ ‬خاشعا‭ ‬متهجدا،‭ ‬قارئا‭ ‬يمتلك‭ ‬صوتا‭ ‬بعذوبة‭ ‬أنهار‭ ‬الجنة‭.‬

قالت‭ ‬الأم‭ ‬والدموع‭ ‬تغالبها،‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬سندا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا،‭ ‬تركني‭ ‬وحيدة‭ ‬أقاوم‭ ‬غربتي‭ ‬المهجر‭ ‬والحزن‭.‬

كان‭ ‬لي‭ ‬ابنا‭ ‬يملأ‭ ‬بفيض‭ ‬المحبة‭ ‬كل‭ ‬حياتي‭.‬

كان‭ ‬لي‭ ‬ابنا‭ ‬ينير‭ ‬دروبي‭ ‬المظلمة‭ ‬بنوره‭ ‬السرمدي‭.  ‬

{ شاعر‭ ‬وروائي‭ ‬من‭ ‬العراق

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا