القراء الأعزاء
من المؤكد أن الاشتغال على الحفاظ على الهوية الوطنية يبدأ بإحياء الأحياء الشعبية العتيقة العريقة في خطٍ موازٍ لإحياء المتوارث من ثقافة شعبية وطنية تميّز المكان وأهله، المادي منها واللامادي، والذي تزخر به البحرين أرض الحضارات والتاريخ، حيث إنه من الواجب على الشعوب التي لها تاريخ وهويّة أن تعضّ عليها بالنواجذ لتحافظ عليها، ولا سيما أننا الآن قد أصبحنا في مرحلة يسهل فيها ضياع الموروث والهوية الشعبية مع وجود أفواه تفتقر الى الهوية ومستعدة لابتلاعها.
لذا أصبح مهرجان (ليالي المحرق) أحد أهم فعاليات شهر ديسمبر احتفالاً بالعيد الوطني المجيد لمملكة البحرين لأسباب عدة، أحدها الأهمية التاريخية والوطنية والاجتماعية لمدينة المحرق، كما أضاف التنظيم الرائع للفعالية بُعدّا آخر لنجاحها رغم كل الظروف والصعوبات والمعوقات المتمثلة في هذا الحيّز الجغرافي الصغير الذي يخضع حالياً للتجديد وإعادة النبض للحياة فيه بعد أن غادره معظم أهله واحياء هويته الأصلية.
ولعل أجمل ما في هذه الليالي هي أنها قد استقطبت القاصي والداني من البحرين وخارجها بأريحيتها وتمثيلها لبساطة وتلقائية أهل المحرق، في دعوة من القلب للزائر كي يألف التجوال في شوارعها وأزقّتها الضيقة التي تفوح عبقاً وأصالةً، ويتصل مباشرة بروح المحرق، ضمن برنامج ثقافي فني تراثي متنوع وأنيق جداً بحيث يستطيع الزائر أن يقطع كيلومترات المهرجان الثلاثة من دون كلل أو ملل ولا شعور بالتعب بغض النظر عن مرحلته العمرية، ويلعب الشعور بالفرح والحنين والارتياح دوراً مهماً في ذلك.
هناك تفاصيل كثيرة في المهرجان تجعله مشروع كتاب تاريخي توثيقي مهم جداً، ولكني سأقف في هذا المقال في محطتين أحببتهما جداً، الأولى عاصرت جميع نسخ مهرجان ليالي المحرق والثانية تم احياؤها في نسخة هذا العام، الأولى هي مجلس براحة فخرو، والثانية هي المكتبة العصرية.
فقد زرت مجلس براحة فخرو في ليالي المحرق لأربعة أعوام متتالية ضمن فعاليات المهرجان، والمجلس يقع على خط مسار اللؤلؤ وهو من أعرق وأهم المجالس في المنطقة.
قبل ليالي المحرق كنت أمر على المجلس عبوراً بسيارتي وألاحظه دائماً ولم أفكر بزيارته باعتباره مجلسا رجاليا، ولكن المهرجان شرّع أبواب المجلس وقلوب أهل المجلس ليصبح مزاراً للجميع من دون تمييز وأصبح يستقطب الزوار بما يقدمه القائمون عليه من كرم استقبال بوجوه تنضح بشاشةَ وترحيباً بلهجة محرقيّة أصيلة، وكرم اطعام الضيوف بمختلف الأغذية البحرينية الأصيلة كالهريس والنخي واللقيمات والشاي والقهوة التي تُقدم للضيوف التي تفضل الجلوس وللعابرين مروراً على قدم سواء.
وقد استرعاني تطوّر الاعتناء بالمجلس شكلاً ومضموناً، بجانب ميزّة خاصة يتفرد بها مجلس براحة فخرو، وهي أنه يضم بجانب أبناء عائلة فخرو أبناء عوائل متعددة من عوائل المحرق كعائلة الحادي والغريب على سبيل المثال وغيرهم، كل منهم يُعنى بالمجلس وكأنه مجلس عائلته في انعكاس لواقع العلاقات الأخوية والودية التي تميّز أبناء المحرق، واسترعاني أيضا حرص الوجيه عبدالحميد بن إبراهيم بن يوسف فخرو على الوجود في المجلس واستقصاء رضا الزوار عما يقدمه المجلس لزوار مهرجان ليالي المحرق مجاناً، وهي بادرة ذات بعد انساني واخلاقي راقٍ جداً بأسلوب قيادي تجاري مُحنك يستحق الشكر والتقدير.
أما المكتبة العصرية المملوكة لمؤسسها العم العزيز عبدالله بن أحمد الجودر والتي كانت أول مكتبة في المحرق، فقد كان إعادة افتتاحها وادراجها ضمن فعاليات مسار اللؤلؤ بادرة ثقافية مهمة باعتبارها كانت مناراً ثقافياً تنويرياً لأهالي المحرق في منتصف القرن العشرين بعد افتتاحها عام 1952، وظلت فترة طويلة أُزي تسميتها بالعصرية إلى الحداثة ومواكبة تطورات العصر، بينما كان ذهن العم عبدالله متّجهاً اتجاها آخر باعتبار أنه كان يعمل صباحاً في وظيفته ولا يستطيع تشغيل المكتبة إلا في فترة العصر، فأسماها بالعصرية نسبة إلى فترة العصر من اليوم أو كما يُسميها أهل البحرين بالعصرية أو العصاري.
وختاماً، فإننا حين نذكر مهرجان ليالي المحرق لابد أن نتوقف وقفة شكر وتقدير للجهود التي تبذلها هيئة الثقافة والآثار ليظهر المهرجان بهذه الصورة المشرفة، فشكراً لكل العاملين على المهرجان من جنود ظاهرة وأخرى مجهولة، وعلى رأسهم معالي الوزير الشيخ خليفة بن أحمد آل خليفة، ويبقى دائماً وأبداً الشكر موصول إلى معالي الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة السابقة رئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة للثقافة والبحوث، لأنها وضعت اللبنات الأساسية لهذا المهرجان بإدراج مسار اللؤلؤ على قائمة التراث العالمي لدى اليونيسكو.
hanadialjowder@gmail.com

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك