خلق الله الإنسان ووهبه العقل، وهو ما مكّنه من الابتكار والتقدم العلمي، ما أدى إلى التطور العلمي ومنه التكنولوجيا ووصولها إلى الثورة الرقمية الحديثة. وقد نتج عن ذلك تحديات قانونية مستجدة نتيجة التباين بين سرعة التطور التقني وبطء وتيرة التشريع، الأمر الذي استلزم تحديث المنظومات القانونية لضمان مرونتها وقدرتها على مواكبة المستجدات في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الجرائم السيبرانية، والتجارة الإلكترونية، مع الحفاظ على البعد الإنساني وحماية المجتمع.
وتلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في تحقيق أهداف التنمية المستدامة من خلال دعم النماذج الاقتصادية والاجتماعية الصديقة للبيئة وحفظ الموارد، وتعزيز حقوق الإنسان، بما في ذلك الخصوصية وحرية التعبير. ومن هذا المنطلق، تبوأت مملكة البحرين مكانة رائدة إقليمياً في التحول الرقمي وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، حيث احتلت المرتبة الأولى عربيًا والمرتبة 31 عالميًا في مؤشر تنمية التكنولوجيا لعام 2017، وهو ما انعكس إيجاباً على المنظومة القانونية من خلال رقمنة الإجراءات القضائية والقانونية وتحسين فعالية المؤسسات الحكومية.
وقد شرعت البحرين في تطبيق مشروع التحول الرقمي في القضاء عبر منظومة القضاء الإلكتروني، التي تتضمن تسجيل الدعاوى إلكترونيًا، ومتابعة الإجراءات عن بُعد، واعتماد التوقيع الرقمي، وأسهمت هذه الخطوات في تقليص مدد التقاضي، تخفيف العبء على المحاكم، وتعزيز النفاذ العادل إلى العدالة، بما يتوافق مع مبادئ العدالة الناجزة والمساواة في الوصول إلى الخدمات القانونية.
وتضع البحرين الهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة في مقدمة أولوياتها، حيث يركز هذا الهدف على تعزيز سيادة القانون، تحقيق العدالة، وتقوية المؤسسات. وفي هذا الإطار، تُعد القوانين والمؤسسات القضائية الفعّالة أدوات أساسية لضمان حكم القانون، مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بالإضافة إلى توفير العدالة بشكل سريع وضمان المساواة في الوصول إلى الخدمات القانونية. ومن هنا، فإن تعزيز هذه الجوانب القانونية والإدارية لا يحمي الحقوق الفردية فحسب، بل يسهم أيضاً في دعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وعلى الرغم من التقدم الملحوظ في التحول الرقمي، تواجه مملكة البحرين تحديات في تطوير التكنولوجيا القانونية، أبرزها ضعف في بعض جوانب الإطار التشريعي والتنظيمي كتأخر سن التشريعات ومواكبتها للتطور التقني، إذ لا تغطي بعض القوانين التطبيقات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والعقود الذكية؛ وضعف التكامل بين الأطر التنظيمية، ما يؤدي إلى غموض في التطبيق؛ وافتقار بعض التشريعات إلى تفاصيل تنفيذية دقيقة تشمل الشفافية، تفسير القرارات الآلية، حماية المتضررين، وضمان المساءلة، مما يثير مخاطر في استخدام أنظمة الدعم القضائي الرقمي والتحليلات القانونية.
وتحتاج التكنولوجيا القانونية إلى آليات تنفيذية قوية تشمل إشرافاً متخصصاً، وأدوات رقابية، ومعايير تقنية، وتحديثًا مستمراً للسياسات لضمان فعالية التشريعات في مواجهة التحديات الحديثة.
كما تبرز الحاجة إلى تطوير برامج تدريبية متخصصة للقوى العاملة القانونية، تجمع بين المعرفة القانونية والمهارات التقنية المتقدمة، لضمان القدرة على التعامل مع الأنظمة الرقمية الحديثة وإدارتها بكفاءة. إضافة إلى ذلك، تشكل محدودية الشراكات مع القطاع الخاص في مجال الابتكار القانوني عقبة أمام توسيع نطاق التطبيقات الرقمية والاستفادة من الحلول التقنية المتطورة، بما يبطئ عملية دمج التكنولوجيا القانونية في المنظومة القضائية والإدارية ويحد من إمكاناتها في دعم العدالة والشفافية وتحقيق التنمية المستدامة.
وتلعب السلطة التشريعية دوراً محوريًا في تهيئة البيئة القانونية لاستخدام التكنولوجيا القانونية بشكل فعال وآمن. فهي المسؤولة عن سن التشريعات والقوانين المنظمة لأدوات وتقنيات التكنولوجيا القانونية، بما في ذلك حماية البيانات، تنظيم العقود والمعاملات الإلكترونية، وضبط استخدام الذكاء الاصطناعي في الإجراءات القضائية. وذلك من خلال إصدار تشريعات واضحة ومرنة، حيث تتيح فرص الابتكار القانوني، وتعزز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتدعم تطوير الحلول الرقمية التي تزيد كفاءة النظام القضائي وتسهل النفاذ إلى العدالة. كما يسهم دورها في سد الفجوات القانونية والمعرفية الناتجة عن التطور التكنولوجي السريع، ويضمن التوازن بين تشجيع الابتكار وحماية الحقوق الفردية والمجتمع، بما يتوافق مع مبادئ سيادة القانون.
وعلى صعيد التشريعات المتعلقة بالتكنولوجيا القانونية، يُقترح سن إطار قانوني ينظم استخدام الذكاء الاصطناعي في التحليل القانوني وإصدار التوصيات القضائية وأتمتة الإجراءات، بما يضمن الدقة وحماية الحقوق الفردية. كذلك تحديث قوانين الجرائم الإلكترونية لتغطية الاختراقات والاحتيال المرتبط بالخدمات القانونية الرقمية. ويُقترح أيضًا وضع ضوابط تنظيمية للمنصات والشركات الناشئة لتعزيز الابتكار القانوني وحماية المستهلك، إلى جانب تطوير إطار قانوني موحد للبيانات القضائية ينظم تبادل المعلومات بين المؤسسات القضائية، بما يعزز كفاءة النظام القضائي ويواكبه التحول الرقمي. كما يتضمن التنظيم وضع لوائح تحكم تقديم الخدمات القانونية الرقمية، بما في ذلك الاستشارات القانونية عن بُعد والمحاكم الافتراضية، بالإضافة إلى سن قوانين لحماية حقوق الملكية الفكرية للمحتوى القانوني والبرمجيات المستخدمة في ذلك.
إن دمج التكنولوجيا القانونية في الأنظمة بصفة عامة يمثل خطوة استراتيجية نحو تعزيز فعالية النظام القضائي وتحقيق التنمية المستدامة، ويسهم في تسريع الإجراءات القضائية، وتحسين النفاذ إلى العدالة، وتعزيز الشفافية والمساءلة، بما يتوافق مع مبادئ سيادة القانون وحماية الحقوق الفردية، حيث إن الاستمرار في هذا التوجه يعزز من مكانة الدولة إقليمياً ودولياً ويؤسس بيئة قانونية حديثة، مرنة، ومستدامة، قادرة على استيعاب التطورات التكنولوجية وتقديم حلول قانونية فعّالة ومتوافقة مع مبادئ العدالة والتنمية.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك