العدد : ١٧٣٩٩ - الثلاثاء ١١ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٩٩ - الثلاثاء ١١ نوفمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٧هـ

مقالات

بوصلة الصلاحيات

بقلم: عبير محمد الدهام.

الثلاثاء ١١ نوفمبر ٢٠٢٥ - 02:00

عندما‭ ‬نقول‭ ‬القرار‭ ‬الذي‭ ‬ينتظر‭ ‬إذن‭ ‬القرار‭ ‬فإننا‭ ‬نعني‭ ‬ذلك‭ ‬النمط‭ ‬الإداري‭ ‬المألوف‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المؤسسات،‭ ‬حيث‭ ‬يتحول‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬للحسم‭ ‬إلى‭ ‬طقس‭ ‬للتأجيل‭. ‬يصبح‭ ‬الفعل‭ ‬مرهوناً‭ ‬بتوقيع،‭ ‬والتوقيع‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬موافقة‭ ‬والموافقة‭ ‬تنتظر‭ ‬من‭ ‬يراجعها‭. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬الرحلة‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يتحمل‭ ‬المسؤولية‭ ‬لأن‭ ‬الجميع‭ ‬ببساطة‭ ‬كانوا‭ ‬ينتظرون‭.‬

تلك‭ ‬المؤسسات‭ ‬لا‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬نقص‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭. ‬فالمركزية‭ ‬المفرطة‭ ‬تخلق‭ ‬ذهنية‭ ‬حذرة‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬تأجيل‭ ‬الفعل‭ ‬بدل‭ ‬الإقدام‭ ‬عليه‭. ‬تُوزع‭ ‬الصلاحيات‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬لكنها‭ ‬تُسحب‭ ‬في‭ ‬التطبيق،‭ ‬لتبقى‭ ‬المناصب‭ ‬بلا‭ ‬أثر‭ ‬والقرارات‭ ‬معلقة‭ ‬في‭ ‬طوابير‭ ‬الموافقات‭.‬

تبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬القرار‭ ‬المسكين‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُنفذ‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬صدور‭ ‬قرار‭ ‬آخر‭ ‬يسمح‭ ‬بتنفيذه،‭ ‬لتتحول‭ ‬الحكاية‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬يومي‭ ‬لمسؤول‭ ‬يجلس‭ ‬أمام‭ ‬مكتبه‭ ‬محاطاً‭ ‬بالتعليمات‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الملفات،‭ ‬يترقب‭ ‬الضوء‭ ‬الأخضر‭ ‬ممن‭ ‬هو‭ ‬أعلى‭ ‬منه،‭ ‬والذي‭ ‬ينتظر‭ ‬بدوره‭ ‬من‭ ‬هو‭ ‬أعلى،‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬أبسط‭ ‬الإجراءات‭ ‬وحتى‭ ‬الأفكار‭ ‬مرهونة‭ ‬بموافقة‭ ‬من‭ ‬يملك‭ ‬الختم‭ ‬الأخير‭.‬

في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬المنظومات‭ ‬القرار‭ ‬لا‭ ‬يُتخذ‭ ‬لتسيير‭ ‬العمل‭ ‬إنما‭ ‬لعرض‭ ‬النفوذ‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة‭ ‬أن‭ ‬التفويض‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬وأن‭ ‬الثقة‭ ‬قد‭ ‬تُفسر‭ ‬فوضى‭. ‬أما‭ ‬المسؤولون‭ ‬فبين‭ ‬حذر‭ ‬مفرط‭ ‬وتردد‭ ‬دائم،‭ ‬يتحولون‭ ‬إلى‭ ‬منفذين‭ ‬لتعليمات‭ ‬متناقضة‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬هم‭ ‬قادة‭ ‬ميدانيون،‭ ‬والموظفون‭ ‬يحفظون‭ ‬الجملة‭ ‬الأشهر‭ ‬في‭ ‬القاموس‭ ‬الإداري‭ ‬المحلي‭: ‬ننتظر‭ ‬الموافقة‭.‬

الطريف‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يمسكون‭ ‬بالصلاحيات‭ ‬يظنون‭ ‬أن‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بها‭ ‬دليل‭ ‬قوة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬علامة‭ ‬ضعف‭ ‬إداري‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬نفوذاً‭. ‬فالمسؤول‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمنح‭ ‬من‭ ‬حوله‭ ‬مساحة‭ ‬القرار‭ ‬لا‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬الخطأ‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬يخاف‭ ‬من‭ ‬نفسه،‭ ‬ويظن‭ ‬أن‭ ‬التفويض‭ ‬ينتقص‭ ‬من‭ ‬مكانته،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬يكشف‭ ‬حدود‭ ‬قدرته‭ ‬على‭ ‬القيادة‭.‬

وعلى‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭ ‬هناك‭ ‬إدارات‭ ‬تمارس‭ ‬الصلاحيات‭ ‬بلا‭ ‬ضوابط،‭ ‬وكأن‭ ‬القرار‭ ‬شأن‭ ‬شخصي‭ ‬لا‭ ‬مؤسسي‭. ‬يُتخذ‭ ‬القرار‭ ‬بدافع‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الحسم‭ ‬أو‭ ‬الظهور‭ ‬لا‭ ‬بناءً‭ ‬على‭ ‬دراسة‭ ‬أو‭ ‬تشاور‭. ‬تتسع‭ ‬مساحة‭ ‬الاجتهاد‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬ينبغي‭ ‬فيتصرف‭ ‬كل‭ ‬مسؤول‭ ‬وفق‭ ‬قناعته‭ ‬الخاصة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تنسيق‭ ‬أو‭ ‬التزام‭ ‬بمنهج‭ ‬واحد‭. ‬هنا‭ ‬يفقد‭ ‬القرار‭ ‬وزنه‭ ‬المؤسسي‭ ‬ويتبدل‭ ‬بتبدل‭ ‬المزاج‭ ‬لا‭ ‬بتبدل‭ ‬الموقف‭. ‬تتخذ‭ ‬قرارات‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬وتلغى‭ ‬في‭ ‬المساء‭ ‬لأن‭ ‬معايير‭ ‬اتخاذها‭ ‬لم‭ ‬تُبن‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬ثابتة،‭ ‬فتكثر‭ ‬التبريرات‭ ‬وتُستهلك‭ ‬الطاقة‭ ‬في‭ ‬تصحيح‭ ‬الأخطاء‭ ‬أكثر‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الأهداف‭.‬

يُفهم‭ ‬التمكين‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الإدارات‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬إطلاق‭ ‬كامل‭ ‬للصلاحيات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬حدود‭ ‬أو‭ ‬رقابة،‭ ‬فيُمارس‭ ‬القرار‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تشاور،‭ ‬وتُنفذ‭ ‬الإجراءات‭ ‬قبل‭ ‬اكتمال‭ ‬دراستها،‭ ‬ويغيب‭ ‬الدور‭ ‬الرقابي‭ ‬الذي‭ ‬يحمي‭ ‬المؤسسة‭ ‬من‭ ‬التسرع‭. ‬ومع‭ ‬الوقت‭ ‬تتآكل‭ ‬العدالة‭ ‬التنظيمية‭ ‬لأن‭ ‬غياب‭ ‬المعايير‭ ‬يخلق‭ ‬قرارات‭ ‬متناقضة‭ ‬تُربك‭ ‬العاملين‭ ‬وتضعف‭ ‬ثقتهم‭ ‬في‭ ‬النظام،‭ ‬فيتحول‭ ‬التمكين‭ ‬من‭ ‬وسيلة‭ ‬تطوير‭ ‬إلى‭ ‬باب‭ ‬للفوضى‭ ‬ومن‭ ‬أداة‭ ‬ثقة‭ ‬إلى‭ ‬اختبار‭ ‬لفقدانها‭.‬

النتيجة‭ ‬منظومة‭ ‬صاخبة‭ ‬بالحركة‭ ‬وفقيرة‭ ‬بالاتجاه،‭ ‬تعمل‭ ‬كثيراً‭ ‬ولا‭ ‬تتقدم‭ ‬لأن‭ ‬البوصلة‭ ‬لا‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬هدف‭ ‬واحد‭. ‬وحين‭ ‬تُمارس‭ ‬الصلاحيات‭ ‬بهذه‭ ‬الفوضى‭ ‬يفقد‭ ‬القرار‭ ‬قيمته‭ ‬ويتحول‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬تقدم‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬ارتباك‭ ‬وتشتت‭.‬

وبين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬تضيع‭ ‬بوصلة‭ ‬الصلاحيات‭.. ‬فالمركزية‭ ‬المفرطة‭ ‬تشل‭ ‬الحركة،‭ ‬والحرية‭ ‬المطلقة‭ ‬تربك‭ ‬الاتجاه،‭ ‬الأولى‭ ‬تقتل‭ ‬الثقة،‭ ‬والثانية‭ ‬تقتل‭ ‬العدالة‭.‬

الإدارة‭ ‬الواعية‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬الصلاحية‭ ‬مسؤولية‭ ‬تُقاس‭ ‬بالأثر‭ ‬لا‭ ‬بعدد‭ ‬الموافقات‭. ‬حين‭ ‬تكون‭ ‬البوصلة‭ ‬واضحة‭ ‬يمضي‭ ‬العمل‭ ‬بثقة‭ ‬ويعرف‭ ‬كل‭ ‬مسؤول‭ ‬حدوده‭ ‬ودوره‭. ‬القرار‭ ‬هو‭ ‬ميزان‭ ‬المؤسسة،‭ ‬إن‭ ‬استقام‭ ‬استقامت،‭ ‬وإن‭ ‬اختل‭ ‬تاهت‭ ‬في‭ ‬التفاصيل‭. ‬القيادة‭ ‬التي‭ ‬تضبط‭ ‬بوعيها‭ ‬بوصلة‭ ‬الصلاحيات‭ ‬تحفظ‭ ‬الاتجاه‭ ‬وتبقي‭ ‬المؤسسة‭ ‬على‭ ‬طريقها‭ ‬بثقة‭ ‬وعدل‭ ‬وثبات‭.‬

 

‭ ‬مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا