عندما نقول القرار الذي ينتظر إذن القرار فإننا نعني ذلك النمط الإداري المألوف في بعض المؤسسات، حيث يتحول القرار من أداة للحسم إلى طقس للتأجيل. يصبح الفعل مرهوناً بتوقيع، والتوقيع بحاجة إلى موافقة والموافقة تنتظر من يراجعها. وفي نهاية الرحلة لا أحد يتحمل المسؤولية لأن الجميع ببساطة كانوا ينتظرون.
تلك المؤسسات لا تعاني من نقص في الأنظمة بقدر ما تعاني من الخوف من اتخاذ القرار. فالمركزية المفرطة تخلق ذهنية حذرة تميل إلى تأجيل الفعل بدل الإقدام عليه. تُوزع الصلاحيات على الورق لكنها تُسحب في التطبيق، لتبقى المناصب بلا أثر والقرارات معلقة في طوابير الموافقات.
تبدأ رحلة القرار المسكين الذي لا يُنفذ إلا بعد صدور قرار آخر يسمح بتنفيذه، لتتحول الحكاية إلى مشهد يومي لمسؤول يجلس أمام مكتبه محاطاً بالتعليمات أكثر من الملفات، يترقب الضوء الأخضر ممن هو أعلى منه، والذي ينتظر بدوره من هو أعلى، حتى تصبح أبسط الإجراءات وحتى الأفكار مرهونة بموافقة من يملك الختم الأخير.
في مثل هذه المنظومات القرار لا يُتخذ لتسيير العمل إنما لعرض النفوذ تحت ذريعة أن التفويض خطر على النظام وأن الثقة قد تُفسر فوضى. أما المسؤولون فبين حذر مفرط وتردد دائم، يتحولون إلى منفذين لتعليمات متناقضة أكثر مما هم قادة ميدانيون، والموظفون يحفظون الجملة الأشهر في القاموس الإداري المحلي: ننتظر الموافقة.
الطريف أن بعض من يمسكون بالصلاحيات يظنون أن الاحتفاظ بها دليل قوة، وهي في الحقيقة علامة ضعف إداري أكثر منها نفوذاً. فالمسؤول الذي لا يمنح من حوله مساحة القرار لا يخاف من الخطأ بقدر ما يخاف من نفسه، ويظن أن التفويض ينتقص من مكانته، وهو في الواقع يكشف حدود قدرته على القيادة.
وعلى الطرف الآخر هناك إدارات تمارس الصلاحيات بلا ضوابط، وكأن القرار شأن شخصي لا مؤسسي. يُتخذ القرار بدافع الرغبة في الحسم أو الظهور لا بناءً على دراسة أو تشاور. تتسع مساحة الاجتهاد أكثر مما ينبغي فيتصرف كل مسؤول وفق قناعته الخاصة من دون تنسيق أو التزام بمنهج واحد. هنا يفقد القرار وزنه المؤسسي ويتبدل بتبدل المزاج لا بتبدل الموقف. تتخذ قرارات في الصباح وتلغى في المساء لأن معايير اتخاذها لم تُبن على رؤية ثابتة، فتكثر التبريرات وتُستهلك الطاقة في تصحيح الأخطاء أكثر منها في تحقيق الأهداف.
يُفهم التمكين في بعض الإدارات على أنه إطلاق كامل للصلاحيات من دون حدود أو رقابة، فيُمارس القرار من دون تشاور، وتُنفذ الإجراءات قبل اكتمال دراستها، ويغيب الدور الرقابي الذي يحمي المؤسسة من التسرع. ومع الوقت تتآكل العدالة التنظيمية لأن غياب المعايير يخلق قرارات متناقضة تُربك العاملين وتضعف ثقتهم في النظام، فيتحول التمكين من وسيلة تطوير إلى باب للفوضى ومن أداة ثقة إلى اختبار لفقدانها.
النتيجة منظومة صاخبة بالحركة وفقيرة بالاتجاه، تعمل كثيراً ولا تتقدم لأن البوصلة لا تشير إلى هدف واحد. وحين تُمارس الصلاحيات بهذه الفوضى يفقد القرار قيمته ويتحول من أداة تقدم إلى مصدر ارتباك وتشتت.
وبين هذا وذاك تضيع بوصلة الصلاحيات.. فالمركزية المفرطة تشل الحركة، والحرية المطلقة تربك الاتجاه، الأولى تقتل الثقة، والثانية تقتل العدالة.
الإدارة الواعية تدرك أن الصلاحية مسؤولية تُقاس بالأثر لا بعدد الموافقات. حين تكون البوصلة واضحة يمضي العمل بثقة ويعرف كل مسؤول حدوده ودوره. القرار هو ميزان المؤسسة، إن استقام استقامت، وإن اختل تاهت في التفاصيل. القيادة التي تضبط بوعيها بوصلة الصلاحيات تحفظ الاتجاه وتبقي المؤسسة على طريقها بثقة وعدل وثبات.
مهتمة بالحوكمة وتطوير الأداء المؤسسي.

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك