لفهم أحداث منطقتنا العربية الساخنة لا بد من مقدمة لفهم المرحلة التي يمر بها العالم، وخصوصاً أن هذه المنطقة هي الأكثر حيوية بالنسبة إلى مصالح الأطراف المتصارعة على شكل النظام الدولي الجديد.
يعيش العالم والمنطقة في «فترة ما بين العهود» (فترة ما بين عهدي النظام الدولي السابق والقادم)، حيث النظام الدولي القديم يحتضر والنظام الجديد لم يولد بعد، وتتسم هذه الفترة الانتقالية الحرجة بعدم الاستقرار وبالمنافسة والحسابات المجهولة، حيث يصبح كل شيء تقريباً ممكناً.
وفي هذه المرحلة الحرجة من فترة ما بين العهود يشهد العالم عملية غير سلسة، ولا فورية، للتحول من الأحادية القطبية إلى تعدد الأقطاب، يرافقها فراغ في القيادة والحوكمة العالمية، من أهم مظاهرها هو التراجع النسبي للهيمنة الأمريكية، الذي يبدو واضحاً في عدم رغبة، أو عدم قدرة، الولايات المتحدة في لعب دور «الشرطي العالمي» بمفردها، وهذا ما تجلى واضحاً في فترة ولايتي الرئيس ترامب، وولاية الرئيس جو بايدن؛ وهو الدور الذي بدأت تلعبه مباشرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.
ومن أهم اسباب التراجع الأمريكي هو تحدياتها الداخلية المتمثلة في الاستقطابات السياسية والمشاكل الاقتصادية، ما قلّص من قدرتها على التركيز على الشؤون الخارجية بشكل مطلق؛ إضافة إلى فشل سياساتها في مناطق مثل الشرق الأوسط وأفغانستان الذي أضعف من هيبتها وقدرتها على الردع.
ومن الجهة الأخرى، يعد صعود قوى منافسة من دون الاستعداد لملء الفراغ بالكامل من أحد أهم مظاهر الفراغ في القيادة والحوكمة العالمية، حيث العملاق الاقتصادي الصيني لا يبدي رغبة حتى الآن في تحمل تكاليف وأعباء القيادة العالمية السياسية والأمنية، ولا رغبة في الدخول في نزاعات وصراعات يعطّل مشروعها التنموي العظيم.. وكذلك الدور الروسي الذي يمكن أن يعد دوراً مخرباً، أو معطلاً، للنظام الذي تقوده الولايات المتحدة أكثر من كونه دورا بناء لنظام بديل.
وبجانب هذه الدول القيادية يمكن تقييم أداء الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي للتعاون (الهند، والبرازيل، وتركيا، وإيران) على أنها تلعب أدواراً أكبر من حجمها في محيطها الإقليمي، ما يجعل المشهد العالمي أكثر تعقيداً وتشظياً.
وأخيراً، يبقى عجز المؤسسات الدولية، وتحديداً مجلس الأمن، الذي بدا مؤخراً أكثر انقساماً بسبب حق النقض (الفيتو)، وفاقداً القدرة على حل النزاعات أو فرض السلام، هو العامل الرئيسي في خلق الفراغ في الحوكمة العالمية، حيث لا توجد هيئة دولية فعالة يمكنها وضع قرارات وتنفيذها.
على المستوى الإقليمي، يظهر فراغ توازن القوة في تراجع أدوار القوى التقليدية وتصاعد قوى جديدة، إذ إن تراجع الدور المركزي لمصر وسوريا والعراق بسبب حروب الاحتلال والارهاب والمشاكل الداخلية، خلَقَ فراغاً في القيادة العربية وسمح لقوى غير عربية (إيران، وتركيا، وإسرائيل) بالتحرك بقوة أكبر.
فسعت إيران لملء الفراغ عبر مشروع ما يُدعى «محور الممانعة» (العراق، سوريا، لبنان، اليمن)، باستخدام أدوات المليشيات؛ ووسعت تركيا في نفوذها العسكري والسياسي في عدة مناطق (شمال سوريا، العراق، ليبيا وغيرها) مستغلة الفراغ؛ وعززت إسرائيل موقعها كقوة عسكرية وإقليمية مهيمنة من دون منافس عربي تقليدي مباشر، كما وسّعَت من تحالفاتها مع بعض الدول العربية عبر اتفاقيات التطبيع.
وفي الطرف الآخر يلعب الفاعلون من غير الدول، والمليشيات والجماعات المسلحة مثل (حزب الله، الحشد الشعبي، الحوثيين) التي تملك سلطة أقوى من بعض الدول في مناطقها، دوراً رئيسياً في تدمير مفهوم الدولة الوطنية، ما يجعل تحقيق الاستقرار مهمة صعبة.
وفي كل هذا المشهد المتنافس الخطير، لا توجد قوى دولية قادرة على السيطرة وحل الأزمات، بل تتدخل القوى الدولية كأطراف متنافسة، ما، غالباً، يطيل أمد النزاعات ويجعل حلها أصعب مثال (سوريا واليمن وليبيا).
يعد استمرار وتصعيد النزاعات من أهم نتائج فراغ توازن القوة الإقليمي، بجانب ما يتسبب به هذا الفراغ من انهيار لمفهوم الحدود والسيادة الوطنية ببعض المناطق، وفي سباق التسلح الإقليمي وزيادة الإنفاق العسكري خوفاً من عدم وجود ضامن أمني جماعي، وكذلك في تقلب التحالفات بسرعة، حيث تبحث الدول عن حلفاء جدد تحفظ أمنها في بيئة غير مستقرة.
وقبل البدء بالحديث عن سبل مواجهة هذا الأمر الخطير، يجب تأكيد أن فراغ القوة هو فترة انتقالية خطيرة، وليست حالة دائمة، حيث سيظهر توازن قوى جديد، سواء كان متعدد الأقطاب أو ثنائي القطب أو حتى نظاماً جديداً مختلفاً. لكن الطريق إلى هناك محفوف بالمخاطر؛ وإن هذه البيئة خصبة للصراع حيث تكثر المغامرات العسكرية وتتصاعد النزاعات عندما يحاول الجميع تعظيم مكاسبه في فرصته التاريخية قبل استقرار النظام الجديد.
وأخيراً تعد فترة التحول وفراغ القوة بالنسبة إلى الدول الصغيرة والمتوسطة مخاطرة كبيرة بسبب عدم الاستقرار، كما قد يمثل أيضاً فرصة للمناورة وكسب حلفاء جدد أو لعب أدوار إقليمية أكبر مما كانت عليه في النظام السابق. وهذا سيكون موضوعنا في المقال القادم.
sr@sameerarajab.net
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك