وقت مستقطع

علي ميرزا
لنتعلم من «فولاسكو»
عندما تتاح لنا الفرصة لمشاهدة أي مباراة في أي لعبة رياضية، خاصة إذا كنا من المتابعين والمهتمين والمعنيين، فالمنطق يفرض علينا أن نكون مشاهدين فاعلين، بمعنى أن نتفاعل مع المباراة متى كانت من المستوى الأول والرفيع، ونحرص كل الحرص على اقتناص الدروس والعبر، وبهذه الطريقة نزداد دراية وخبرة وفهما.
ونسمع أن التدريب علم وخبرة، لكن ما يميز القادة الكبار أنهم لا يقفون عند حدود ما يعرف في الكتب أو ما يكتسب عبر السنوات من التجربة، بل يتجاوزونه إلى مساحة أرحب: الفكر والرؤية، وهنا تتجلى قيمة المدرب، الذي لا يكتفي بكونه ناقلا للمعرفة أو مجربا لطرق اللعب، بل يصبح صانعا للقرار، وشجاعا يقود فريقه بالعقل قبل العضلات.
هذا ما ترجمه جوليو فولاسكو، المدير الفني لمنتخب إيطاليا للسيدات للكرة الطائرة في نهائي كأس الأمم أمام تركيا، قراران لافتان اتخذهما خلال المواجهة أظهرا أن التدريب هو ممارسة للفكر بقدر ما هو إدارة للمهارة.
ففي لحظة بدا فيها المنتخب التركي في الشوط الرابع متفوقا في النتيجة وبفارق ملحوظ، قام فولاسكو بسحب نجمته الأولى باولا إغونو النيجيرية الأصل من الملعب، رغم أنها تمثل «العمود الفقري» للفريق، وواحدة من أفضل لاعبات العالم، فقد يظن البعض أن القرار جنوني، لكن الحقيقة أن المدرب كان ينظر إلى أبعد من النقطة الحالية، كان يمنح لاعبته المرهقة فرصة لالتقاط أنفاسها، ويعيد توزيع الضغط النفسي على زميلاتها، ويبعث برسالة مفادها أن الفريق لا يقوم على اسم واحد مهما كان ثقله.
الأهم أن فولاسكو كرر الفعل ذاته في الشوط الفاصل، أي في اللحظة الأهم التي تحدد مصير اللقب، هنا تبرز الجرأة الفكرية، أن تخوض مواجهة بهذا الحجم وتقرر ألا تجعل النتيجة مرهونة بلاعبة واحدة، بل بقدرة المجموعة على النهوض وصناعة الحلول، وفي نهاية المطاف، أثبتت النتيجة أن الرؤية كانت صائبة، إذ عاد المنتخب الإيطالي ليقلب الموازين ويرفع الكأس.
الدرس الأعمق الذي يقدمه لنا فولاسكو هو أن المدرب الحقيقي لا يقاس فقط بعدد البطولات أو قوة الأسماء التي يقودها، بل بقدرته على تحويل المعرفة والخبرة إلى قرارات فكرية جريئة، الفكر هنا ليس تنظيرا، بل هو فن قراءة اللحظة، وإدارة العوامل النفسية، والتفكير في الصورة الكاملة أكثر من الانشغال بالجزئيات.
إن ميدان التدريب اليوم بحاجة إلى مدربين لا يكتفون بترديد ما تقوله النظريات أو نسخ خطط الآخرين، بل يجرؤون على اتخاذ قرارات تبدو غير مألوفة لكنها تحمل من الحكمة ما يجعلها فارقة. فولاسكو في النهائي لم يكن مجرد مدير فني، بل كان قائدا فكريا يعرف أن البطولة تصنعها العقول بقدر ما تصنعها الأذرع والأقدام.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك