العدد : ١٧٣٣٩ - الجمعة ١٢ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٣٩ - الجمعة ١٢ سبتمبر ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

وقت مستقطع

علي ميرزا

 لنتعلم من «فولاسكو»

عندما‭ ‬تتاح‭ ‬لنا‭ ‬الفرصة‭ ‬لمشاهدة‭ ‬أي‭ ‬مباراة‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لعبة‭ ‬رياضية،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬من‭ ‬المتابعين‭ ‬والمهتمين‭ ‬والمعنيين،‭ ‬فالمنطق‭ ‬يفرض‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬مشاهدين‭ ‬فاعلين،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬نتفاعل‭ ‬مع‭ ‬المباراة‭ ‬متى‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬المستوى‭ ‬الأول‭ ‬والرفيع،‭ ‬ونحرص‭ ‬كل‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬اقتناص‭ ‬الدروس‭ ‬والعبر،‭ ‬وبهذه‭ ‬الطريقة‭ ‬نزداد‭ ‬دراية‭ ‬وخبرة‭ ‬وفهما‭.‬‮ ‬

ونسمع‭ ‬أن‭ ‬التدريب‭ ‬علم‭ ‬وخبرة،‭ ‬لكن‭ ‬ما‭ ‬يميز‭ ‬القادة‭ ‬الكبار‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يقفون‭ ‬عند‭ ‬حدود‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يكتسب‭ ‬عبر‭ ‬السنوات‭ ‬من‭ ‬التجربة،‭ ‬بل‭ ‬يتجاوزونه‭ ‬إلى‭ ‬مساحة‭ ‬أرحب‭: ‬الفكر‭ ‬والرؤية،‭ ‬وهنا‭ ‬تتجلى‭ ‬قيمة‭ ‬المدرب،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يكتفي‭ ‬بكونه‭ ‬ناقلا‭ ‬للمعرفة‭ ‬أو‭ ‬مجربا‭ ‬لطرق‭ ‬اللعب،‭ ‬بل‭ ‬يصبح‭ ‬صانعا‭ ‬للقرار،‭ ‬وشجاعا‭ ‬يقود‭ ‬فريقه‭ ‬بالعقل‭ ‬قبل‭ ‬العضلات‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬ترجمه‭ ‬جوليو‭ ‬فولاسكو،‭ ‬المدير‭ ‬الفني‭ ‬لمنتخب‭ ‬إيطاليا‭ ‬للسيدات‭ ‬للكرة‭ ‬الطائرة‭ ‬في‭ ‬نهائي‭ ‬كأس‭ ‬الأمم‭ ‬أمام‭ ‬تركيا،‭ ‬قراران‭ ‬لافتان‭ ‬اتخذهما‭ ‬خلال‭ ‬المواجهة‭ ‬أظهرا‭ ‬أن‭ ‬التدريب‭ ‬هو‭ ‬ممارسة‭ ‬للفكر‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬إدارة‭ ‬للمهارة‭.‬

ففي‭ ‬لحظة‭ ‬بدا‭ ‬فيها‭ ‬المنتخب‭ ‬التركي‭ ‬في‭ ‬الشوط‭ ‬الرابع‭ ‬متفوقا‭ ‬في‭ ‬النتيجة‭ ‬وبفارق‭ ‬ملحوظ،‭ ‬قام‭ ‬فولاسكو‭ ‬بسحب‭ ‬نجمته‭ ‬الأولى‭ ‬باولا‭ ‬إغونو‭ ‬النيجيرية‭ ‬الأصل‭ ‬من‭ ‬الملعب،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬تمثل‭ ‬‮«‬العمود‭ ‬الفقري‮»‬‭ ‬للفريق،‭ ‬وواحدة‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬لاعبات‭ ‬العالم،‭ ‬فقد‭ ‬يظن‭ ‬البعض‭ ‬أن‭ ‬القرار‭ ‬جنوني،‭ ‬لكن‭ ‬الحقيقة‭ ‬أن‭ ‬المدرب‭ ‬كان‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬النقطة‭ ‬الحالية،‭ ‬كان‭ ‬يمنح‭ ‬لاعبته‭ ‬المرهقة‭ ‬فرصة‭ ‬لالتقاط‭ ‬أنفاسها،‭ ‬ويعيد‭ ‬توزيع‭ ‬الضغط‭ ‬النفسي‭ ‬على‭ ‬زميلاتها،‭ ‬ويبعث‭ ‬برسالة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬الفريق‭ ‬لا‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬واحد‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬ثقله‭.‬

الأهم‭ ‬أن‭ ‬فولاسكو‭ ‬كرر‭ ‬الفعل‭ ‬ذاته‭ ‬في‭ ‬الشوط‭ ‬الفاصل،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الأهم‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬مصير‭ ‬اللقب،‭ ‬هنا‭ ‬تبرز‭ ‬الجرأة‭ ‬الفكرية،‭ ‬أن‭ ‬تخوض‭ ‬مواجهة‭ ‬بهذا‭ ‬الحجم‭ ‬وتقرر‭ ‬ألا‭ ‬تجعل‭ ‬النتيجة‭ ‬مرهونة‭ ‬بلاعبة‭ ‬واحدة،‭ ‬بل‭ ‬بقدرة‭ ‬المجموعة‭ ‬على‭ ‬النهوض‭ ‬وصناعة‭ ‬الحلول،‭ ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬أثبتت‭ ‬النتيجة‭ ‬أن‭ ‬الرؤية‭ ‬كانت‭ ‬صائبة،‭ ‬إذ‭ ‬عاد‭ ‬المنتخب‭ ‬الإيطالي‭ ‬ليقلب‭ ‬الموازين‭ ‬ويرفع‭ ‬الكأس‭.‬

الدرس‭ ‬الأعمق‭ ‬الذي‭ ‬يقدمه‭ ‬لنا‭ ‬فولاسكو‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المدرب‭ ‬الحقيقي‭ ‬لا‭ ‬يقاس‭ ‬فقط‭ ‬بعدد‭ ‬البطولات‭ ‬أو‭ ‬قوة‭ ‬الأسماء‭ ‬التي‭ ‬يقودها،‭ ‬بل‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬المعرفة‭ ‬والخبرة‭ ‬إلى‭ ‬قرارات‭ ‬فكرية‭ ‬جريئة،‭ ‬الفكر‭ ‬هنا‭ ‬ليس‭ ‬تنظيرا،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬فن‭ ‬قراءة‭ ‬اللحظة،‭ ‬وإدارة‭ ‬العوامل‭ ‬النفسية،‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬الصورة‭ ‬الكاملة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الانشغال‭ ‬بالجزئيات‭.‬

إن‭ ‬ميدان‭ ‬التدريب‭ ‬اليوم‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مدربين‭ ‬لا‭ ‬يكتفون‭ ‬بترديد‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬النظريات‭ ‬أو‭ ‬نسخ‭ ‬خطط‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬يجرؤون‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬قرارات‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬مألوفة‭ ‬لكنها‭ ‬تحمل‭ ‬من‭ ‬الحكمة‭ ‬ما‭ ‬يجعلها‭ ‬فارقة‭. ‬فولاسكو‭ ‬في‭ ‬النهائي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬مدير‭ ‬فني،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬قائدا‭ ‬فكريا‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬البطولة‭ ‬تصنعها‭ ‬العقول‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬تصنعها‭ ‬الأذرع‭ ‬والأقدام‭.‬

إقرأ أيضا لـ"علي ميرزا"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا