في صباحٍ مزدحم بأبراج الرافعات والعمال في منطقة مرسى بدبي، وقف أحد المستثمرين الأجانب يتأمل لوحة ضخمة مرسومة بدقة، تُظهر كيف سيكون شكل البرج بعد سنوات قليلة. لم يكن المبنى قد ارتفع أكثر من طابقين، لكن الصورة المعروضة أمامه كشفت عن ناطحة سحاب بواجهات زجاجية وبلكونات تطل على البحر. ابتسم المستثمر، وقال لمرافقه: «أشعر وكأني أشتري المستقبل قبل أن يولد«.
هذه الجملة البسيطة تختصر جوهر مفهوم البيع على الخارطة، أحد أهم الأدوات التي غيرت وجه السوق العقاري الخليجي. فمن خلالها، صار بإمكان المطور أن يجمع التمويل قبل أن يكتمل البناء، وصار بإمكان المشتري أن يقتني شقة أو فيلا بسعر أقل، على أمل أن يستلمها بعد سنوات.
دبي: من التجربة إلى النموذج
دبي كانت السبّاقة في ترسيخ البيع على الخارطة كنظام اقتصادي متكامل. في بداية الألفية، بدأت بعض المشاريع تُعرض بهذه الطريقة، لكن غياب القوانين الصارمة وقتها جعل بعض المستثمرين يترددون. إلا أن الإمارة سرعان ما تعلمت الدرس، فأصدرت قوانين تفرض على المطورين فتح حسابات ضمان، بحيث لا تُصرف الأموال إلا مع تقدم مراحل البناء.
اليوم، يعتبر البيع على الخارطة في دبي تجربة ناضجة. يدخل المستثمر السوق وهو يعلم أن حقوقه محفوظة، وأن هناك هيئة تنظيمية تراقب وتراجع. هذا الإطار منح السوق مصداقية، وأدى إلى تدفق مليارات الدولارات، ليس فقط من الخليج، بل من أوروبا وآسيا وأفريقيا.
أحد المستثمرين الخليجيين الذين اعتادوا الاستثمار في دبي قال: «عندما أشتري على الخارطة هناك، لا أشعر بالخوف. أعرف أن المشروع سيُسلّم في موعده، أو على الأقل سأستعيد حقي».
السعودية: وافي والطفرة الجديدة
في المملكة، أخذت التجربة منحى مختلفاً. السوق السعودي بطبيعته ضخم، والطلب على السكن في ازدياد مع النمو السكاني. لكن لفترة طويلة، كان البيع على الخارطة محفوفاً بالمخاطر. كثيرون حجزوا وحدات ولم تُسلم، أو واجهوا تعثراً في التنفيذ.
مع إطلاق برنامج «وافي«، تغيّرت المعادلة. أصبح الترخيص لأي مشروع يمر عبر سلسلة من الفحوصات القانونية والفنية، وتُدار الأموال عبر حسابات خاضعة للرقابة. هذه الخطوة رفعت ثقة المشترين، وخلقت سوقاً أكثر نضجاً.
اليوم، يتحدث المستثمرون عن السعودية باعتبارها سوقاً »ضخمة لكنها محمية«. أحد المستثمرين الأجانب الذين دخلوا الرياض مؤخراً علّق: »كنت متردداً، لكن بعد أن تعرفت على نظام وافي، أدركت أن الاستثمار هنا أصبح أكثر أماناً مما توقعت«.
البحرين: البداية الصحيحة تحتاج دفعة
في البحرين، أسست هيئة التنظيم العقاري (RERA) نظاماً مشابهاً يهدف لحماية المشترين وضمان سير المشاريع. الحسابات الضامنة، التسجيل العقاري السريع، وإلزام المطورين بالشفافية، كلها خطوات إيجابية.
لكن التحدي يكمن في حجم السوق وقوة الترويج. مستثمر خليجي يزور المنامة قال ذات مرة: »القوانين هنا جيدة، لكن السوق صغير نسبياً. ما ينقص البحرين هو القدرة على إقناع المستثمر الدولي بأنها بيئة منافسة لدبي أو الرياض«.
البيع على الخارطة في البحرين يمنح أسعاراً تنافسية، لكنه يحتاج إلى تسويق عالمي أوسع، وربط بالامتيازات مثل الإقامة أو الإعفاءات الضريبية. هذه الخطوات قد تجعل المملكة وجهة مفضلة للمستثمر الباحث عن بيئة منظمة وهادئة
قطر: فرصة ما بعد البطولة
في قطر، ارتبط البيع على الخارطة بالطفرة العمرانية التي سبقت كأس العالم. مشاريع ضخمة عُرضت على المستثمرين قبل سنوات، واليوم بدأت تسلم تباعاً.
القوانين القطرية سمحت للأجانب بالتملك في مناطق مختارة، وهو ما فتح الباب أمام استثمارات جديدة. لكن التحدي الآن هو الاستدامة: كيف يمكن للدوحة أن تحافظ على نفس الزخم بعد انتهاء البطولة؟
أحد المستثمرين الأجانب الذين شاركوا في مشاريع هناك قال: »الدوحة أعطتني تجربة رائعة، لكنني أنتظر أن أرى كيف ستدير السوق بعد أن تضاءل وهج كأس العالم«.
عمان: الحذر أولاً
البيع على الخارطة في عمان أكثر تحفظاً. السلطنة سمحت به في مشاريع متكاملة تستهدف الأجانب، لكنها وضعت قيوداً صارمة لتجنب المضاربات أو انهيار الثقة.
المستثمر الذي يدخل السوق العماني يدرك أنه لن يحصل على عوائد سريعة كما في دبي، لكنه يستثمر في بيئة مستقرة وبعيدة عن الفقاعات. أحد المستثمرين الخليجيين وصف التجربة قائلاً: »في مسقط، كل شيء يسير ببطء، لكنه يسير بثبات«.
الكويت: الباب المغلق
أما الكويت، فلا تزال مترددة في فتح مجال البيع على الخارطة أمام الأجانب بشكل واسع. الطلب المحلي كبير، لكن غياب التشريعات الحديثة يحد من قدرة السوق على استقطاب رؤوس الأموال الخارجية.
كثير من المستثمرين الخليجيين يرون أن الكويت تفوّت فرصة ذهبية. فلو فتحت الباب، لكانت قادرة على خلق سوق عقاري مزدهر يفوق حجمه معظم جيرانها.
بين الثقة والمخاطر
رغم نجاح البيع على الخارطة في دعم نمو الأسواق، إلا أنه لا يخلو من المخاطر. بعض المستثمرين تعرضوا لمشاريع متعثرة، أو تأخرت تسليماتها لسنوات. لذلك، تبقى الثقة العامل الحاسم.
المشتري يريد أن يعرف: هل المشروع حقيقي؟ هل المطور ملتزم؟ هل الدولة تراقب بصرامة؟ هذه الأسئلة تحدد قرار الاستثمار أكثر من أي وعود أو صور براقة.
من يرسم المستقبل أولاً؟
البيع على الخارطة ليس مجرد أسلوب لبيع الشقق والفيلات، بل أداة لرسم ملامح المدن قبل أن تُبنى. الخليج اليوم يستخدم هذه الأداة لبناء مستقبل جديد، حيث تتحول الصحراء إلى ناطحات، والسواحل إلى أحياء راقية.
لكن الفارق بين سوق وآخر يكمن في الثقة والجرأة. دبي منحت العالم درساً في كيف تبني سوقاً عالمياً عبر الشفافية. السعودية تكتب قصة عملاقة عبر «وافي». البحرين تملك القوانين، لكنها تحتاج التوسع والتسويق. قطر أمام اختبار الاستدامة. عمان اختارت الاستقرار، والكويت تنتظر لحظة الانفتاح.
المستثمر الذي يقف اليوم أمام لوحة رسومية في موقع بناء، يضع أمواله على شيء لم يولد بعد. قراره لا يقوم فقط على الصور والوعود، بل على مدى ثقته بأن هذا المستقبل سيأتي في موعده. ومن ينجح في زرع هذه الثقة، سيكون هو الرابح الأكبر في السباق الخليجي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك