يشهد الاقتصاد العالمي تحولًا عميقًا بفعل التطورات المتسارعة في تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI)، حيث باتت هذه التكنولوجيا تتغلغل في كل القطاعات، من الصناعة والخدمات المالية، إلى الرعاية الصحية والتعليم. ويُجمع الخبراء على أن الذكاء الاصطناعي يحمل وعودًا هائلة بزيادة الإنتاجية وخفض التكاليف وفتح أسواق جديدة، لكن خلف هذا البريق التكنولوجي، يلوح خطر أقل وضوحًا، يتمثل في إمكانية انحراف أولويات الدول والمؤسسات نحو التنمية التقنية البحتة، على حساب التنمية الاجتماعية والبشرية التي تشكل الأساس الحقيقي لاستدامة النمو.
في المشهد الاقتصادي الحالي، تغري الشركات والحكومات بالاستثمار الكثيف في الأنظمة الذكية، لما توفره من نتائج سريعة وقابلة للقياس: أرباح أعلى، وكفاءة أكبر، ومؤشرات أداء لامعة. إلا أن هذه المؤشرات قد تخفي حقيقة أن الاقتصادات ليست مجرد آلات إنتاج، بل مجتمعات بشرية تحتاج إلى التعليم المتطور، والرعاية الصحية الشاملة، والبنية الاجتماعية القادرة على امتصاص التحولات الكبرى.
هنا يظهر ما يمكن تسميته بـ«خدعة الذكاء الاصطناعي»، حيث يتم تسويق التقنية باعتبارها الحل الشامل لكل التحديات، في حين أن اعتمادها المفرط قد يؤدي إلى اتساع فجوة الدخل، وتراجع فرص العمل التقليدية، وتهميش فئات واسعة من القوى العاملة غير المؤهلة رقميًا. وبدلاً من إعادة استثمار عوائد التقنية في برامج التأهيل وإعادة التدريب، تتجه بعض الاقتصادات إلى ضخ المزيد في البنية التكنولوجية على حساب رأس المال البشري.
الخطورة تكمن في أن الاقتصاد القائم على التقنية وحدها يصبح هشًا أمام الصدمات الاجتماعية. فعندما تُستبدل الوظائف بالآلات دون بدائل حقيقية، يزداد الضغط على شبكات الأمان الاجتماعي، وتتفاقم التوترات الاقتصادية والسياسية. ويكفي أن نلاحظ تجارب بعض الدول التي قفزت بسرعة نحو الأتمتة الشاملة، لكنها وجدت نفسها أمام معدلات بطالة مرتفعة واضطرابات اجتماعية، لندرك أن التوازن بين التقنية والإنسان ليس رفاهية، بل ضرورة.
من أبرز الأمثلة فنلندا، حيث نجحت في الموازنة بين مسار التقدم التكنولوجي ومسار التنمية البشرية. فهي استثمرت بقوة في البنية التحتية الرقمية والذكاء الاصطناعي، لكنها في الوقت نفسه وضعت برامج وطنية لتأهيل المواطنين بالمهارات الرقمية، وأطلقت مبادرات مجانية مثل مشروع «Elements of AI» الذي يهدف إلى تعليم أساسيات الذكاء الاصطناعي لجميع المواطنين، وليس فقط المتخصصين. كما واصلت تمويل نظام تعليم عالي الجودة ورعاية صحية شاملة، ما جعلها تحافظ على تماسكها الاجتماعي وتقلل من الفجوة الرقمية.
ومن منظور التنمية المستدامة، فإن الأمم المتحدة أكدت في أهدافها لعام 2030 أن التكنولوجيا ينبغي أن تكون أداة لتمكين الإنسان، لا لاستبعاده. هذا يعني أن أي استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي يجب أن تتضمن خططًا موازية لتعزيز التعليم، وبناء المهارات الرقمية، وتطوير سياسات سوق العمل، بحيث تتحول الثورة التقنية إلى فرصة شاملة، لا امتياز للنخبة التقنية فقط.
الاقتصاد العالمي في عصر الذكاء الاصطناعي أمام خيارين: أن يسير في مسار أحادي البُعد يقدّس التكنولوجيا، أو أن يعتمد رؤية متوازنة تجعل من التقنية وسيلة لتعظيم رأس المال البشري لا استبداله. التجارب الناجحة عالميًا – مثل بعض دول الشمال الأوروبي – أثبتت أن الاستثمار في الإنسان موازيًا للاستثمار في الآلة، يخلق اقتصادًا أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع التحولات القادمة.
في النهاية، يبقى السؤال الحاسم: هل سنسمح لبريق الذكاء الاصطناعي أن يعمينا عن جوهر التنمية الحقيقية، أم سنعيد ضبط البوصلة لنضع الإنسان في قلب المعادلة الاقتصادية؟ الإجابة ستحدد شكل اقتصاد القرن الحادي والعشرين.
رئيس اتحاد المصارف العربية سابقا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك