العدد : ١٧٣٢٢ - الثلاثاء ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٣٢٢ - الثلاثاء ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٣ ربيع الأول ١٤٤٧هـ

مقالات

خدعة الذكاء الاصطناعي

بقلم: عدنان يوسف

الثلاثاء ٢٦ أغسطس ٢٠٢٥ - 02:00

يشهد‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬تحولًا‭ ‬عميقًا‭ ‬بفعل‭ ‬التطورات‭ ‬المتسارعة‭ ‬في‭ ‬تقنيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ (‬AI‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬باتت‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬تتغلغل‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬القطاعات،‭ ‬من‭ ‬الصناعة‭ ‬والخدمات‭ ‬المالية،‭ ‬إلى‭ ‬الرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬والتعليم‭. ‬ويُجمع‭ ‬الخبراء‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬يحمل‭ ‬وعودًا‭ ‬هائلة‭ ‬بزيادة‭ ‬الإنتاجية‭ ‬وخفض‭ ‬التكاليف‭ ‬وفتح‭ ‬أسواق‭ ‬جديدة،‭ ‬لكن‭ ‬خلف‭ ‬هذا‭ ‬البريق‭ ‬التكنولوجي،‭ ‬يلوح‭ ‬خطر‭ ‬أقل‭ ‬وضوحًا،‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬إمكانية‭ ‬انحراف‭ ‬أولويات‭ ‬الدول‭ ‬والمؤسسات‭ ‬نحو‭ ‬التنمية‭ ‬التقنية‭ ‬البحتة،‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التنمية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والبشرية‭ ‬التي‭ ‬تشكل‭ ‬الأساس‭ ‬الحقيقي‭ ‬لاستدامة‭ ‬النمو‭.‬

في‭ ‬المشهد‭ ‬الاقتصادي‭ ‬الحالي،‭ ‬تغري‭ ‬الشركات‭ ‬والحكومات‭ ‬بالاستثمار‭ ‬الكثيف‭ ‬في‭ ‬الأنظمة‭ ‬الذكية،‭ ‬لما‭ ‬توفره‭ ‬من‭ ‬نتائج‭ ‬سريعة‭ ‬وقابلة‭ ‬للقياس‭: ‬أرباح‭ ‬أعلى،‭ ‬وكفاءة‭ ‬أكبر،‭ ‬ومؤشرات‭ ‬أداء‭ ‬لامعة‭. ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المؤشرات‭ ‬قد‭ ‬تخفي‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الاقتصادات‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬آلات‭ ‬إنتاج،‭ ‬بل‭ ‬مجتمعات‭ ‬بشرية‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬التعليم‭ ‬المتطور،‭ ‬والرعاية‭ ‬الصحية‭ ‬الشاملة،‭ ‬والبنية‭ ‬الاجتماعية‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬امتصاص‭ ‬التحولات‭ ‬الكبرى‭.‬

هنا‭ ‬يظهر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بـ«خدعة‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‮»‬،‭ ‬حيث‭ ‬يتم‭ ‬تسويق‭ ‬التقنية‭ ‬باعتبارها‭ ‬الحل‭ ‬الشامل‭ ‬لكل‭ ‬التحديات،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬اعتمادها‭ ‬المفرط‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬اتساع‭ ‬فجوة‭ ‬الدخل،‭ ‬وتراجع‭ ‬فرص‭ ‬العمل‭ ‬التقليدية،‭ ‬وتهميش‭ ‬فئات‭ ‬واسعة‭ ‬من‭ ‬القوى‭ ‬العاملة‭ ‬غير‭ ‬المؤهلة‭ ‬رقميًا‭. ‬وبدلاً‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬استثمار‭ ‬عوائد‭ ‬التقنية‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬التأهيل‭ ‬وإعادة‭ ‬التدريب،‭ ‬تتجه‭ ‬بعض‭ ‬الاقتصادات‭ ‬إلى‭ ‬ضخ‭ ‬المزيد‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬التكنولوجية‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬البشري‭.‬

الخطورة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬الاقتصاد‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬التقنية‭ ‬وحدها‭ ‬يصبح‭ ‬هشًا‭ ‬أمام‭ ‬الصدمات‭ ‬الاجتماعية‭. ‬فعندما‭ ‬تُستبدل‭ ‬الوظائف‭ ‬بالآلات‭ ‬دون‭ ‬بدائل‭ ‬حقيقية،‭ ‬يزداد‭ ‬الضغط‭ ‬على‭ ‬شبكات‭ ‬الأمان‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬وتتفاقم‭ ‬التوترات‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭. ‬ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نلاحظ‭ ‬تجارب‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬قفزت‭ ‬بسرعة‭ ‬نحو‭ ‬الأتمتة‭ ‬الشاملة،‭ ‬لكنها‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬أمام‭ ‬معدلات‭ ‬بطالة‭ ‬مرتفعة‭ ‬واضطرابات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬لندرك‭ ‬أن‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬التقنية‭ ‬والإنسان‭ ‬ليس‭ ‬رفاهية،‭ ‬بل‭ ‬ضرورة‭.‬

من‭ ‬أبرز‭ ‬الأمثلة‭ ‬فنلندا،‭ ‬حيث‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬الموازنة‭ ‬بين‭ ‬مسار‭ ‬التقدم‭ ‬التكنولوجي‭ ‬ومسار‭ ‬التنمية‭ ‬البشرية‭. ‬فهي‭ ‬استثمرت‭ ‬بقوة‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬الرقمية‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعي،‭ ‬لكنها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬وضعت‭ ‬برامج‭ ‬وطنية‭ ‬لتأهيل‭ ‬المواطنين‭ ‬بالمهارات‭ ‬الرقمية،‭ ‬وأطلقت‭ ‬مبادرات‭ ‬مجانية‭ ‬مثل‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬Elements‭ ‬of‭ ‬AI‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يهدف‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬أساسيات‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لجميع‭ ‬المواطنين،‭ ‬وليس‭ ‬فقط‭ ‬المتخصصين‭. ‬كما‭ ‬واصلت‭ ‬تمويل‭ ‬نظام‭ ‬تعليم‭ ‬عالي‭ ‬الجودة‭ ‬ورعاية‭ ‬صحية‭ ‬شاملة،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬تماسكها‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وتقلل‭ ‬من‭ ‬الفجوة‭ ‬الرقمية‭.‬

ومن‭ ‬منظور‭ ‬التنمية‭ ‬المستدامة،‭ ‬فإن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬أكدت‭ ‬في‭ ‬أهدافها‭ ‬لعام‭ ‬2030‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬لتمكين‭ ‬الإنسان،‭ ‬لا‭ ‬لاستبعاده‭. ‬هذا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬استراتيجية‭ ‬وطنية‭ ‬للذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تتضمن‭ ‬خططًا‭ ‬موازية‭ ‬لتعزيز‭ ‬التعليم،‭ ‬وبناء‭ ‬المهارات‭ ‬الرقمية،‭ ‬وتطوير‭ ‬سياسات‭ ‬سوق‭ ‬العمل،‭ ‬بحيث‭ ‬تتحول‭ ‬الثورة‭ ‬التقنية‭ ‬إلى‭ ‬فرصة‭ ‬شاملة،‭ ‬لا‭ ‬امتياز‭ ‬للنخبة‭ ‬التقنية‭ ‬فقط‭.‬

الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أمام‭ ‬خيارين‭: ‬أن‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬أحادي‭ ‬البُعد‭ ‬يقدّس‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يعتمد‭ ‬رؤية‭ ‬متوازنة‭ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬التقنية‭ ‬وسيلة‭ ‬لتعظيم‭ ‬رأس‭ ‬المال‭ ‬البشري‭ ‬لا‭ ‬استبداله‭. ‬التجارب‭ ‬الناجحة‭ ‬عالميًا‭ ‬‭ ‬مثل‭ ‬بعض‭ ‬دول‭ ‬الشمال‭ ‬الأوروبي‭ ‬‭ ‬أثبتت‭ ‬أن‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬الإنسان‭ ‬موازيًا‭ ‬للاستثمار‭ ‬في‭ ‬الآلة،‭ ‬يخلق‭ ‬اقتصادًا‭ ‬أكثر‭ ‬مرونة‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬التحولات‭ ‬القادمة‭.‬

في‭ ‬النهاية،‭ ‬يبقى‭ ‬السؤال‭ ‬الحاسم‭: ‬هل‭ ‬سنسمح‭ ‬لبريق‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬أن‭ ‬يعمينا‭ ‬عن‭ ‬جوهر‭ ‬التنمية‭ ‬الحقيقية،‭ ‬أم‭ ‬سنعيد‭ ‬ضبط‭ ‬البوصلة‭ ‬لنضع‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المعادلة‭ ‬الاقتصادية؟‭ ‬الإجابة‭ ‬ستحدد‭ ‬شكل‭ ‬اقتصاد‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭.‬

 

رئيس‭ ‬اتحاد‭ ‬المصارف‭ ‬العربية‭ ‬سابقا

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا