قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» (النساء: 58). لا يختلف اثنان على أن السرية المهنية ليست ترفًا في مهنة الخبرة، بل هي جوهر المسؤولية الأخلاقية والقانونية. فالخبير، بمختلف تخصصاته، سواء كانت هندسية أو محاسبية أو تقنية، يُكلّف لأداء مهمة حساسة تتطلب الاطلاع على معلومات دقيقة وسرية تتعلق بأطراف النزاع. ومثلما يُلزَم الطبيب بالحفاظ على أسرار مرضاه، يُطالب الخبير بصون ما يطّلع عليه من بيانات ومعلومات أثناء أداء مهمته، إذ إن التزامه بالسرية لا يُعد مجرد واجب مهني، بل أمانة تُحاسَب قانونًا وتُوزن أخلاقيًا.
ويقصد بالخبير ذلك الشخص الطبيعي أو المعنوي الذي يمتلك خبرة فنية، علمية أو عملية متخصصة، تجعله مؤهلًا لإبداء رأي فني بشأن مسألة معروضة أمام القضاء. وقد توسعت دائرة الاستعانة بالخبراء في النظام القضائي البحريني، حيث منح قانون الإثبات الجديد للأطراف حرية تعيين خبراء من تلقاء أنفسهم، سواء قبل رفع الدعوى أو أثناء نظرها، كما أجاز لهم اختيار خبير مستقل لكل طرف أو الاتفاق على خبير مشترك، وفقًا لما يحقق مصلحتهم ويساعد في تسريع الإجراءات. ويعكس ذلك توجها تشريعيًا لتعزيز دور الخبرة كوسيلة مساعدة للقاضي في الوصول إلى الحقيقة.
وتكمن أهمية هذا الدور في دقة البيانات والمستندات التي يتعامل معها الخبير أثناء تأديته لمهمته. وبناءً على ذلك، يُلزم الخبير بالحفاظ على سرية المعلومات التي حصل عليها خلال أداء مهامه. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هناك طرقا مختلفة لتمكين الخبير من الحصول على المعلومات والبيانات السرية، تشمل: 1) تسلم المستندات الرسمية؛ 2) الاجتماعات مع الأطراف؛ 3) الاطلاع على مذكرات الدفاع بما تحويه من دفوع وبيانات قد تكون حساسة للطرف الخصم؛ 4) قراءة محاضر الجلسات القضائية وما تحويه من بيانات وشهادات قد تتسم بالخصوصية؛ وكذلك 5) المراسلات والمحادثات الإلكترونية التي قد تُضمّن ضمن وثائق الدعوى أو تُقدَّم للخبير أثناء مباشرته لمهامه، بالإضافة إلى أي وسيلة قد تفضي إلى تمكن الخبير من الحصول على معلومات لا يطلع عليها غيره.
غير أن هذا الالتزام بالسرية ليس مطلقًا، إذ يحدد القانون حالات استثنائية تبيح للخبير الإفصاح عن معلومات معينة، لا سيما إذا تبين له خلال عمله دلائل على وقوع جريمة أو احتمال وقوعها، ما يُلزمه بإبلاغ الجهات المختصة.
وفي حال أخلّ الخبير بواجب السرية المهنية أو ارتكب خطأً جوهريًا أثناء ممارسته لمهامه، فإنه لا يُعفى من المسؤولية القانونية. فالمادة (371) من قانون العقوبات البحريني تنص على معاقبة من يفشي سرًا علمه بحكم مهنته أو وضعه، سواء بغرض المنفعة الشخصية أو غيرها، بعقوبة قد تصل إلى الحبس أو الغرامة، وتُغلّظ إذا كان الفاعل موظفًا عامًا أو ثبت توافر سوء النية.
وفي المقابل، يجوز للطرف المتضرر اتخاذ عدد من الإجراءات القانونية، مثل رفع دعوى تعويض مستقلة أمام القضاء المدني، أو الطعن في الحكم إذا كان مبنيًا على تقرير معيب، كما يمكن للمحكمة في نطاق سلطتها التقديرية الامتناع عن الاستعانة بالخبير مستقبلاً كإجراء تأديبي غير رسمي.
بناءً على ما تقدم، فإن التزام الخبير بالسرية لا يُعد مجرد واجب مهني فحسب، بل هو أمانة عظيمة يُحاسَب عليها قانونًا وشرعًا، وإن مخالفة هذا الالتزام لا تقتصر آثارها على الإبعاد من المهنة فحسب، بل قد تمتد لتطال سمعة الخبير، وحقوق الأطراف، بل ونزاهة المنظومة القضائية بأكملها. وعليه، فإن صيانة السر المهني تُعد من أولويات العمل الخبروي، بما يحقق العدالة ويحفظ الثقة في إجراءات التقاضي ومخرجاتها.
في ظل هذه الأمانة الجسيمة التي يضطلع بها الخبير، هل آن الأوان لوضع مدونة سلوك تُرسي قواعد واضحة للسرية المهنية، وتحدد بدقة الحالات التي يجوز فيها الإفصاح، بما يحقق التوازن بين حماية الحقوق وصون نزاهة العدالة؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك