في عصرنا الحالي، تكشف الإحصاءات حقائق مقلقة: من بين نحو سبعة آلاف لغة حية في العالم، تشير التقديرات إلى أن ما بين 1500 إلى 3000 لغة قد تختفي بحلول نهاية هذا القرن. ورغم أن بعض التقارير الإعلامية تشير إلى اختفاء لغة كل أسبوعين، فإن الدراسات الحديثة ترجح أن المعدل الفعلي أقرب إلى ثلاث لغات في السنة – أي لغة واحدة كل ثلاثة إلى أربعة أشهر. ومع ذلك، يبقى التهديد قائما، ويكفي أن نعلم أن كثيرا من هذه اللغات لا يتحدث بها اليوم سوى عشرات أو مئات من الأشخاص فقط، من دون أن تُوثق أو تُدرّس أو تُورَّث.
خصصت منظمة اليونسكو يوما عالميا للغة الأم، إيمانا منها بأن التنوع اللغوي ركيزة أساسية للتراث الإنساني المشترك. وذلك في وقت تواجه فيه اللغات تحديات غير مسبوقة. فالعولمة والتطور التكنولوجي المتسارع يفرضان واقعا جديدا على لغات العالم، يجعل كثيرا منها في مهب الاندثار.
نرى كيف يتحدث أطفالنا اليوم بمزيج من اللغات، وكأن ألسنتهم تتأرجح بين عالمين: عالم تقليدي يحمل عبق الماضي، وآخر حديث يندفع نحو المستقبل بسرعة لا تمنحنا وقتا كافيا للحفاظ على ما نحبه.
مازال صوت جدتي معصومة بن رجب –رحمها الله– يتردد في ذاكرتي وهي تروي حكايات الزمن الجميل. كانت تجلس في زاوية غرفتها المعتادة كل مساء، تنسج من كلماتها البسيطة عالما ساحرا. كانت تحكي عن «فرجان» لا نعرفها، وأسماء لم تعد تقال، وتستخدم مفردات نادرة تثير الدهشة. كم كنت محظوظة بتلك اللحظات التي جمعت فيها كنوزًا من المفردات والحكايات، صارت اليوم ذخيرةً أحن إليها كلما ضاقت بي سبل التعبير، وكأنني أفتش في رأسي عن تلك الكلمات كما تُفتش الأم عن ابن ضائع.
يؤكد علماء الإنثروبولوجيا أن فقدان لغة ما لا يعني فقط خسارة وسيلة تواصل، بل ضياع طريقة كاملة لفهم العالم وتفسيره، فكل لغة تحمل معها نظرة فريدة للعالم. بعض لغات السكان الأصليين مثلا، تمتلك مفردات دقيقة لوصف النباتات والمواسم والتضاريس، لا نجد لها مكافئًا في اللغات الكبرى.
في اللغة العربية، نجد ثراءً مذهلا في وصف البيئة الصحراوية، ينعكس في مفردات دقيقة تصف الرمال والرياح والنجوم والنباتات. وفي البحرين، مثلا، تحتفظ بعض الكلمات التراثية بدلالات اجتماعية تتجاوز معناها الظاهري؛ فكلمة «الفرجان» لا تصف الأحياء فقط، بل تستحضر روح الجيرة، وساحات اللعب، وذاك التماسك الذي لا تزال آثاره حاضرة في الذاكرة، وإن اختلفت وتيرته. ومثل هذا البعد الثقافي نجده أيضا في بعض اللغات الإفريقية، التي تعبر عن العلاقات الاجتماعية بتعابير يصعب ترجمتها، لما تحمله من عمق وجداني خاص.
وفي العصر الرقمي، ظهرت تحديات جديدة تواجه اللغة الأم. فوسائل التواصل الاجتماعي، بما تحمله من اختصارات ورموز وكلمات هجينة، تكاد تشكل لغة جديدة، لكن هذه التحولات ليست قدرًا حتميا، بل إننا نشهد مبادرات شبابية مبهجة تستثمر هذه المنصات لإحياء اللغة الأم، وتقديم محتوى إبداعي يُعيد الاعتبار إليها بين الأجيال الجديدة.
وفي المقابل، برزت التكنولوجيا كحليف فعال لحماية التنوع اللغوي. فمن خلال مشاريع مثل «Living Tongues Institute» و«Endangered Languages Project»، يتم توثيق اللغات المهددة وتسجيل أصواتها وقواعدها وأمثالها الشعبية. هذه المبادرات، المدعومة بتقنيات الذكاء الاصطناعي، تمنح اللغات فرصة للحياة الرقمية، وتعيد ربط المتحدثين بها بجذورهم الثقافية.
ونجد في بعض التجارب الدولية نماذج ملهمة. فاليابان، رغم انفتاحها على الحداثة، لم تفرّط بلغتها، بل طورت محتوى رقميا وتعليميا ضخما بلغتها الأم. أما كوريا الجنوبية، فجمعت ببراعة بين تعليم اللغة الكورية وتعزيز إتقان اللغات العالمية، من دون أن تفقد هويتها اللغوية.
وعلى الصعيد العالمي، تقود منظمة اليونسكو جهودًا حثيثة لحماية التنوع اللغوي، مثل «أطلس اللغات المهددة بالانقراض» وبرنامج «التعليم متعدد اللغات»، الذي يشجع الدول على تبنّي سياسات تحترم اللغات الأم وتدمجها في التعليم النظامي.
وما يثير الدهشة أن الدراسات النفسية واللغوية الحديثة تؤكد أن اللغة لا تؤثر فقط فيما نقوله، بل في طريقة تفكيرنا ذاتها. فالذين يتحدثون بلغات تستخدم الاتجاهات الجغرافية (شمال، جنوب…) بدلا من اليمين واليسار، يمتلكون قدرات توجيه مكاني عالية. وفي لغات أخرى، تتيح التصنيفات الدقيقة للألوان قدرة أعلى على تمييز التفاصيل اللونية.
في ظل هذه التحديات، لا يكفي أن نعتمد فقط على الجهود المؤسسية والمنظمات الدولية، بل يجب أن يبدأ الحل من دوائرنا الصغيرة، من منازلنا ومجتمعاتنا. فاللغة الأم ليست مسؤولية المؤسسات وحدها، بل هي إرث نحمله جميعا. يمكن للأسرة أن تلعب دورًا محوريا في هذا المسعى، من خلال تخصيص وقت يومي للحديث باللغة الأم، وتشجيع الأطفال على قراءة القصص التراثية، بل وحتى تسجيل حكايات الأجداد لحفظها للأجيال القادمة. بهذه الجهود البسيطة، يمكننا ضمان استمرار لغتنا، ليس فقط كلغة منطوقة، بل كهوية وثقافة متجذرة في الوجدان.
ففي زحمة هذا العالم المتقلب، تبقى اللغة الأم حصننا الثقافي الأخير. فهي تحمل في طياتها ليس فقط كلمات وقواعد، بل حكمة الأجيال وخبرات الشعوب وطرقا فريدة في فهم الحياة والوجود.
ربما لا نقدر على منع انقراض كل اللغات، لكننا نستطيع أن نمنع انقراض لغتنا في بيوتنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك