لا أدّعي أنني باحثة في الفلسفة أو متخصصة في الذكاء الاصطناعي، لكنني - ككثيرين - أراقب هذا التحوّل السريع من حولنا، وأبحث عن المعنى وسط زخم التطور. وبين أسئلة الماضي وتحديات الحاضر، كثيرا ما أسأل نفسي: هل يمكن أن نجد في تراثنا الفكري ما يساعدنا على فهم عصر تحكمه الخوارزميات وتُصمم فيه القرارات بالبرمجة؟
لست ممن ينظرون إلى التراث كملاذ للهروب من الواقع، بل كمرآة تعيننا على رؤيته بوضوح. ومن بين التجارب الفكرية التي تركت أثرا كبيرا في ذهني، برز المعتزلة وإخوان الصفا، لا لأنهم يمثلون الماضي، بل لأن بعض أسئلتهم تشبه أسئلتنا اليوم، وإن اختلفت الأدوات.
المعتزلة، وهم جماعة فكرية ظهرت في بدايات العصر العباسي، كانوا يؤمنون بمركزية العقل وبأن الإنسان مسؤول عن أفعاله. العدل عندهم لا يحدث بالصدفة، بل يقوم على فهم وتأمل. هذه المبادئ تكتسب اليوم أهمية جديدة في ظل انتشار أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تتخذ قرارات حساسة في مجالات مثل التعليم، والصحة، والتوظيف.
حين نستخدم تقنيات تُصنف الناس أو تقرر عنهم، لا يكفي أن نقول إنها «ذكية». علينا أن نسأل: من صممها؟ ما البيانات التي بنيت عليها؟ وهل تراعي الفروقات بين الأفراد؟ هذا يشبه تماما ما نادى به المعتزلة: أن المسؤولية لا تلقى على الظروف أو «الأنظمة»، بل تعود في النهاية إلى العقل البشري ومبادئه.
أما إخوان الصفا، وهم جماعة من المفكرين في القرن العاشر الميلادي، فقد تركوا تراثا غنيا في رسائلهم، دعوا فيه إلى التكامل بين مختلف العلوم، من الرياضيات إلى الموسيقى، ومن الفلك إلى الفلسفة. كانوا يرون أن المعرفة شبكة متصلة، لا جزر منفصلة.
وهذا الفكر التكاملي أصبح اليوم ضروريا أكثر من أي وقت مضى. لأن الذكاء الاصطناعي لا يتعلق بالبرمجة وحدها، بل يتقاطع مع التربية، والاقتصاد، والقانون، والأخلاق. ولكي نفهمه ونتعامل معه بوعي، نحتاج إلى هذا النوع من التفكير الذي لا يفصل العلم عن الإنسان.
من رسائلهم الشهيرة، قصة رمزية صوّروا فيها الحيوانات وهي تحاكم الإنسان على ظلمه للطبيعة. في ظاهرها حكاية، لكنها في مضمونها تساؤل: ماذا نفعل بما نملك من سلطة؟ وهذا ما يواجهنا اليوم: كيف نستخدم القوة التي تمنحنا إياها التقنية، من دون أن نتجاوز بها حدود العدالة؟
في المقابل، نسمع كثيرا أن «الآلة حيادية»، لكن هذا ليس دقيقا. أنظمة الذكاء الاصطناعي تتعلم منّا، من سلوكنا، ولغتنا، وقراراتنا السابقة. فإذا كنا نغذيها بأفكار منحازة أو بقرارات متسرعة، فهي ستعيد إنتاج هذه التحيزات بطرق أكثر دقة وربما أكثر صعوبة في كشفها.
وهذا ما يعرف اليوم بـ«تحيز الخوارزميات»، مثل أن تفضل أنظمة القبول الوظيفي سيرة ذاتية على أخرى بناءً على أنماط غير عادلة في بيانات سابقة، من دون أن ننتبه. هنا يصبح السؤال: من المسؤول؟ ومن يراقب؟ وما المعايير الأخلاقية التي تحكم هذه الأنظمة؟
في البحرين، يشهد التحول الرقمي خطوات متسارعة تعكس حرصا واضحا على مواكبة التطور، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة. وهو توجه طموح ومبشّر، يزداد أثره عمقا حين يتكامل مع وعي ثقافي يضمن بقاء الإنسان في قلب هذه المعادلة.
ربما نبدأ بخطوات صغيرة: أن نعلّم أبناءنا أن التقنية وسيلة لا غاية، وأن ندرّس معنى «التحقق» والتمييز بين المعلومة والرأي، كما نُدرّس الرياضيات والعلوم. أن نعيد إلى مناهجنا فكرة السؤال، لا كضعف في المعرفة، بل كبداية للفهم.
تراثنا لا يقدم حلولا مباشرة لعصر الذكاء الاصطناعي، لكنه يُعلمنا شيئا عميقا: أن الإنسان ليس بما يملك من أدوات، بل بما يملك من وعي بها. وأن العقل، إن لم يكن مرتبطًا بالمبادئ، فقد يتحول إلى مجرد أداة دقيقة.. لكنها عمياء.
ولعل التحدي الأكبر اليوم ليس أن ننافس الآلة، بل أن نبقي على شيء فينا لا يمكن أن تحاكيه: الرحمة، والشك، والضمير، والتردد قبل الحكم. هذه الأشياء ما زالت، حتى الآن، تخص الإنسان وحده.
لم تكن الرحلة من أفكار إخوان الصفا إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي نزوة فكرية، بل محاولة للتأكيد أن ما نواجهه اليوم من تحديات معرفية وأخلاقية، سبق أن طرح بصيغ أخرى في عصور سابقة. فالزمن يتغير، لكن القلق الإنساني تجاه العدل والمعرفة والسلطة يظل واحدا، وإن اختلفت لغته.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك