وراء كُلِّ جاذبيَّةٍ لُغويَّةٍ فاتِنة حِكايةٌ بطلتُها مَكتَبة، وخلفَ كُلّ نجاحٍ يتّسِمُ بالشجاعة في مواجهة التحدّيات عالمٌ خفيٌّ نَسَجتهُ كُتُبٌ لم تُقاوم الروح إغراء التهام سُطورها بنَهَم، ويبدو أن تلك الكائنات المشحونة بطاقةٍ سِحريَّة تُغدق على رعايا مملكتها المُخلِصينَ ببركاتٍ لا يُبصرها غيرهم، لذا شاءت اصطفاء تلك الطفلة الغارقة منذ سن العاشِرة في غواية عَالم المعرِفة المسحور بأبوابه التي لا تنتهي، وحوَّلتها بمرور الأيَّام والأعوام إلى كتابٍ فخمٍ فحواهُ من الطّراز الملَكي الرفيع، كتابٌ على هيئة إنسانة مُثقفة تُدعى الدكتورة/ ضِياء الكعبي.
نقَشَ الوالدُ المثقَّف الحرف الأوَّل من الحِكاية بنقلِه المورّثات الجينيَّة للافتتان بالقراءة إلى الحِمض النووي للأبناء، إذ كان قارئًا نهمًا حتى آخِر حياته، وامتلكَ مكتبةً عِملاقةً آسِرةً جذَبَت الطفلة الصغيرة «ضياء عبدالله خميس الكعبي» التي وجدت نفسها أمام عالمٍ مُترفٍ بغموضٍ يقود نحو مساحاتٍ شاسعةٍ من المعرِفة، كان عقلها يسبَح بين صفحات كتبٌ تشي صُفرتها بعتقٍ وعراقة ويفوق مضمونها بكلماته العويصة المُستغلقة الذخيرة اللغويَّة لعمرها الصغير مثل كتاب: «تاريخ التمدّن الإسلامي»، «شمسُ العرب تسطعُ على الغرب»، «مُذكِّرات أميرة عربيَّة، وروايات «تاريخ الإسلام»، انطلقَت تُبحرُ بين صفحات الأطالِس والتاريخ والجُغرافيا وحكايات ألف ليلةٍ وليلة، وانفتح باب المغارة وتجلَّت كنوز السرد التي لا تنضب مهما اغترف العقل منها، وتنامى النهم الذي لا يرتوي أبدا لاكتشاف كنوز مُدهشة أخرى يُمكن لأبوابها أن تُفتح بلُغاتٍ غير العربيَّة».
ذاك الكم الهائل من الفضول المعرفي قفز بها من بكالوريوس اللغة العربيَّة وآدابها إلى الماجستير في تخصص النقد الأدبي الحديث «السرديَّات» برسالةٍ عنوانها: «صورة المرأة في السرد العربيّ القديم: دراسة في كتب الجاحظ والأغاني والسير الشعبيّة العربيّة»، ثم دكتوراه الفلسفة في اللغة العربيّة وآدابها بأطروحةٍ عنوانها: «تحولات السرد العربيّ القديم: دراسة في الأنساق الثقافية وإشكاليات التأويل»، وظلَّت رئيسة قسم اللغة العربيَّة والدراسات الإسلاميَّة بجامعة البحرين تستمتِع خلال الأوقات التي تعتبرها ملكًا خالصًا لها بمُطالعة كتُب التاريخ، الاقتصاد، التحليل السياسي، علم الاجتماع، وعلم الإنسان المعروف بـ الأنثروبيولوجيا، أمَّا مُطالعة السِّير الذاتيَّة فلها مذاقٌ خاص بالنسبة لها لأنها تعتبرها فُرصة للغوص في حياة آخرين والفوز بما فيها من دروس وعِبَر ومواعِظ، وإن كان الإنسانُ لا يعيشُ إلا حياةً واحدةً فلمَ لا يستغلُّ تلك المفاتيح لعيشِ حيواتٍ أُخرى بعقلهِ ومشاعِره؟ هذا الثراء المتنوع في الخيارات المقروءة ملأ وجدانها شغفًا بالدراسات الثقافيَّة لأنها تُحرر الباحِث من القيود الضيّقة، وجعلها تنظر إلى كل نصٍ سردي باعتباره قابلاً للتلقي والتأويل، ذي أنساق ثقافيَّة ظاهِرة ومُضمرة لا بُد من معرفة علاقتها بموقع الإنسان على خارِطة العالم، ولا بُد من مُحاولة اكتشاف شبكة العلاقات التي تربط تلك النصوص بعلاقتنا بالعالم من حولنا كبشَر لأن لها علاقة وثيقة بالثقافة والمُجتمع، وبحثًا عن السرديَّات المعرفيَّة والإدراكيَّة وراء تلكَ النصوص الجماليَّة اشتغلَت في أبحاثها على السرديَّات القديمة والجديدة والشعبيَّة مثل: خِطاب «التحامُق والجنون في السرد العربي القديم»، «سرديَّات اليمن الكُبرى»، «السرديَّات السُّلطانيَّة»، ولا ننسى اشتغالها عشرة أعوام على كتاب «الحكايات الشعبية البحرينية: ألف حكاية وحكاية» الفائز بجائزة سرد الذهب التي يطلقها مركز أبوظبي للغة العربيَّة عن دورتها لعام 2024م، ولا عجَب أن تحظى بهذا الفوز شخصيَّة لا تنفكُّ عن السعي بشراسةٍ علميَّة أكاديميَّة لتحقيق أهدافها السَّامية، تواجه التحدّيات بصبرٍ وإيجابيَّةٍ تميلُ للتفاؤل، ولا تعترفُ بسطوة المُستحيل.
لذَّة مُغادرة الحدود الضيقة للمكان بأجنحة العقل في فضاءات المُخيِّلة كانت بذرة تنامي الرؤية الكونيَّة الشموليَّة للأشياء بعيدًا عن الانصياع المُستسلِم لزوايا الرؤية الضيِّقة، ما أدَّى إلى اعتناق مبدأ تجنُّب التقولُب – إنسانيًّا ونقديًّا – في أُطُر ضيّقة محرومة من ضوء الحقيقة وأُكسجين التحرُر الفكري، ليتطوّر الأمر في مراحل قادمة بانعدام التحيُّز لاتجاه نقدي واحد أو ناقدٍ مُعيَّن، القراءة الغزيرة نهرٌ يُطهّر الفكر من أوهام تقديس إطارٍ منهجي واحد ومُحاربة التيَّارات المُغايرة، وهي تؤمنُ أن القراءة حتى للناقد الذي قد يكون سيئًا بوسعها أن تكون وسيلة لتعليم قارِئه بطريقةٍ ما، وما دام نهرُ الحياة جاريًا فلا بُد من وِلادة تحوُّلات ونقلات من مرحلةٍ إلى أُخرى تتطلَّب من الناقِد الجيّد أن يكون مُتطوّرًا، مُستمر المُطالعة للنظريَّات النقديَّة العالميَّة، مُتخذًا من إتقان لُغةٍ أجنبيَّة حيَّة وسيلةً للاطلاع على النتاج النقدي الغربي المطروح بتلك اللغة.
الإيمان بأهميَّة «مُشاركة المعرِفة» بين البشَر جعلها تبدأ مسيرتها في الكتابة على صفحات صحيفة «أخبار الخليج» منذ أن كانت طالبة على مقاعد مرحلة البكالوريوس في جامعة البحرين بمقالاتٍ يتطرّق بعضها لشؤون ثقافيَّة، ثم بدأت تنشر شيئًا من الكتابات التخصُّصيَّة خلال مرحلة الماجستير، إلى صار المُتلقّي المُتخصص هو القارئ المُستهدف بمقالاتها النقدية والثقافيَّة بعد نيلها درجة الدكتوراة، لأنها غدَت ترى أن ما رزقها الله إيَّاها من معرِفة يستحق الوصول إلى القارئ المُتخصص لمُشاركته أفكارًا تقرع أجراس الوعي في وجدانه، وترى أن تنوُّع وتفاوُت مستويات عُمق وبساطة ما يُقدَّم في الصحافة مطلوب لمُخاطبة الجميع.
لا تتركُ الكتُب أولئكَ الذينَ يُفتنون بها منذ تبرعُمهم وشأنهم، بل تورّطهم باستنشاق ترياق الطموحات البطوليَّة التي تُمسي شغفًا أبديا يُبقيهم على قيد الحياة، لذا تؤمن د. ضياء بضرورة أن تكونَ لكل انسان رسالة وأهداف تستحق التحقيق، وألاّ يعيش حياة هامشيَّة تخلو من الآمال العظيمة، وينظُر إلى التحديات باعتبارها بوَّابات لمساراتٍ قادمةٍ أجمل.
خارج مغارة الكنوز الثقافيَّة هُناكَ عالمٌ واقعيٌ مُمتد يستحق قراءة كُل شبرٍ يُتاح الوصول إليه منه لاغتراف المزيد من المعرفة، لذا تعشق د. ضياء السفر حول بقاع الأرض لقراءة المزيد من الأماكن والبشَر والمتاحِف ومعارض الفنون التشكيليَّة، واستعادة لحظة دفء الماضي حين كان الوالِد المثقف يأخذ صغاره عند السفر إلى مكتبات تلك البُلدان لاختيار كتابٍ يُحبّونه قبل أن يشتري لهم المُثلّجات للتحد لحظة البهجة المعنويَّة بالحسيَّة وتتشبَّث بأغلى زوايا الذَّاكِرة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك