يقول الكاتِب والمُفكِّر البحريني د. حسن مدَن على صفحات كِتابه «في مديحِ الأشياء وذمِّها»: «لكُل قولٍ نقيضه. الحياةُ من حولِنا تعجُّ بالمُتناقِضات، وهذه المُتناقِضات هي سُنَّة الحياة وطبيعتها، فهي مُفيدةٌ في كثيرٍ من الحالات وضروريَّة، وإلا لكانت الحياةُ بلونٍ واحدٍ فقط، ولكانت الخياراتُ أمام الناسِ عصيَّة. لكن هُناكَ مُتناقضاتٌ سلبيَّة، حينَ تشي بازدواجيَّة الشخصيَّة مَثلاً، وكثيرًا ما تنطوي هذه الازدواجيَّة على قدرٍ من الرِّياء والنِّفاق، كأن يُظهرُ المرءُ شيئًا غير الذي يُخفيه».. هذا الكِتابُ الذي لفَتَ مضمونه الفِكري اهتمام جمعيَّة «كُلنا نقرأ»؛ احتلَّ عنوانه مكانًا مُستَحَقًا على جدول فعالياتها لهذا العام تحت عنوان: «مُناقشة كِتاب في مديح الأشياء وذمِّها»، فاستضافَت المؤلِّف ليكون تحت دائرة ضوء الحوار مع قُرَّائه بشأنِ كتابه الذي نظرَ بعين الفِكر إلى الحدود التي تلتقي عندها الثُنائيَّات لقاء تلاحُمٍ وتكامُل لا تنافُرٍ وتضاد.
صفحات «في مديح الأشياء وذمها» كانت مسرحًا للتلاقي بين «الشيء وما يُنافيه» ليُقيمَ ما يُشبه المُقابلة بينَ المُتضادَّات أو الثُّنائيَّات وصولاً إلى مُحتوى يجمعُ بين المديح والذم. فيخلص القارئ إلى أنَّ ما كان يبدو لوُجهة نظرِه مُتضادَّات؛ ليست هي كذلك بالضرورة في كُل الأحوال، وأنَّ للحقيقة وجوهًا مُختلفة، لن يتيسَّر معرفتها دون التبصُّر في هذه الثنائيَّات أو المُتضادَّات، وفي كيفيَّة تجلِّي المنطق الجدلي في العلاقة بينها.. هذا المضمون الشهيُّ أثار فُضول القُرَّاء الذين أحاطوا بالمفكر «د. حسن مدن» على مقاعد مقهى محفوف بأجواءٍ وِديَّةٍ تغمرها مشاعِر الغوص في فِتنة الكلمةِ المقروءة، لتُقدمهُ القارئة المُتألِّقة «لطيفة زباري» مُعلنة عن كونه من الأسماء اللامعة في الفكر والأدب والصحافة إضافة لنيله درجة الدكتوراة في الفلسفة، قبل أن تسترسلُ في إدارة دفَّة الحوار بينَ سؤالٍ وجواب، بينما اتسمَت ردود المؤلِّف بالعُمق والموضوعيَّة والاتزان شارحًا آراءه تجاه إمكانيَّة انسجام الثنائيَّات التي قد تبدو في ظاهرها مُتضادَّات، فعن ثُنائيَّة «البسيط المُعقَّد» أو «السهل المُمتنِع» أشار إلى أنه «كُلما تعمَّقت ثقافة الإنسان صارت قُدرته على الفهم والاستيعاب أكثر من غيره، ويمكن التعبير عن الأفكار العميقة أو مُتعددة الجوانب بلغة رشيقة أكثر قابليَّةً للفهم والاستيعاب، عندها تبدو اللغة سهلة بحيث يتصور المُتلقي قُدرته على كتابة مثلها؛ لكنها تستعصي على قُدرته لأنها كتابة مُمتنعة على من لا يملك تلك الموهبة، وعندما نتحدث عن البسيط والمُعقد فمهما كان الأمر بسيطًا فهو مُعقَّد، فإن افترضنا -على سبيل المثال- كائنًا صغيرًا، حشرة على سبيل المثال، ولنقُل «نملة»، فرغم كونها تبدو على صورةٍ بسيطة إلا أنها في حقيقتها كائنٌ مُعقَّد مُفعمٌ بالحياة والحركة والإحساس والتغيّرات والتفاصيل الدقيقة التي تُذكرنا أن ما نخاله بسيطًا هو في تكوينه مُعقَّد».
وعن إمكانيَّة إطلاق مُصطلح «قارئ» على المُنصت للكتب المسموعة كظاهرةٍ تبدو مُتصاعدة في العصر الراهن أجاب بعد لحظة تأمُّل: «بالنظر إلى معارض الكتُب المطبوعة أجد أن تعداد زوَّار هذه المعارض لا يقل بل يتصاعد كُل عام، كما أن دور النشر تؤكد أن الإقبال على الكتاب الورقي مازالَ قائمًا بصورةٍ ملحوظة، ومازال ثمَّة كُتُب يُعاد طباعتها أكثر من مرَّة لأنها توفَّق إلى نجاحٍ وانتشارٍ كبير، أما الكتاب المسموع فهو مُناسبٌ لإيقاع الزمن الراهِن ومُتطلّباته كخيارٍ إضافي لا يُلغي المقروء».
أمَّا استشهاده بمقولة القائد نِلسون ماندِيلا: «نغفر لكننا لا ننسى» وإمكانيَّة اتساق تلك الحالة المُتضادة بين الغفران مع انعدام النسيان، وتقييمه لـ قيم الصفح في المُجتمعات العربيَّة على مُستوياتٍ فرديَّة ومُجتمعيَّة؛ قال: «إن توظيف هذا المفهوم على المُستوى المجتمعي قد يكون أكثر أهميَّة من المستوى الفردي، فحتى على المستوى الفردي كثيرًا ما يتورط البشر بخلافاتٍ وإشكالاتٍ حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، وإذا ظل الأفراد محصورين في تلك المشاعر السلبيَّة لن ينشأ مُجتمع مُعافى، لكن على المستوى العام قد يكون الأمر أعلى شأنًا، دعونا نأخذ تجربة «مانديلا» مِثالاً؛ فقد كان محكومًا بالسجن المؤبد فترة الحكم العنصري في جنوب إفريقيا، ورزح زمنًا طويلاً تحت وطأة التعذيب واضطهاد شعبه، وبعد أن صار قائدًا في موضع اتخاذ القرار إثرَ سقوط ذاك النظام العنصري لم يتخذ موقف المُنتقم أو المُتشفي، لكنه أطلق مقولته الشهيرة: «نغفر ولكننا لا ننسى»، والغرض هُنا ليس مُجرد التذكر، وإنما الموعظة والعبرة بحيث لا تُطوى تلك الصفحة من التاريخ فتُنسى المُعطيات والعوامل والأسباب التي أدَّت إليها دون أن يتم التعامل معها بمنطق الانتقام، لأن عيش المُجتمعات أسرى هذا الشعور لن يسمح لها بالتطوُّر، وستظل العلاقة بين أفرادها ومكوناتها محل ريبة.. قد يكون الغفران مهمَّة صعبة ومُعقدة وكلامنا يجنح نحو المثالية إلى حدٍ ما حين نأخذها بشكلها المُجرَّد؛ لكن الوصول إلى تلك المرحلة لا بُد منه للعيش بصورةٍ أفضل بعد التحرر من مشاعر النقمة رغم ما قد يتطلبه ذلك من جُهد ومُعاناة وزمن».
مفهوم «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» الذي أشار إليه في معرض كتاباته وُضِع تحت مجهر التساؤل أيضًا، فبيَّنَ أن هذا المفهوم من إبداع المُفكر الإيطالي «أنطونيو غرامشي» الذي يُكنُّ لفكره إعجابًا هائلاً، ثم أضاف: «تشاؤم العقل يعني أن نرى الواقع كما هو، إنه نوعٌ من التشاؤم الخلاّق الذي لا يهدف للإحباط أو اليأس؛ بل لرؤية التعقيدات والمصاعِب وتفاصيل المهام التي قد لا تكون بالضرورة سهلة، لذا لا بُد من أن يتبصَّر العقل الناقد بجوانبها.. كيف نتغلب على هذا التشاؤم لئلا نفقد الأمل بالتغيير؟ عن طريق تفاؤل الإرادة.. وبالنظر إلى سيرة المفكر الإيطالي «غرامشي» نرى أنه عاش حياةً مُثقلةً بالألم لا سيما حين حُكم بالسجن المؤبَّد أيَّام حكم «موسوليني» حين كان عاجزًا عن الوقوف على قدميه من شدة المرض، وهُناك ألَّف كتابه الشهير «دفاتر السجن»، فكيف لإنسانٍ يعيش تلك الظروف تجاوز تشاؤم العقل لولا تفاؤل الإرادة؟».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك