بَينَ الإنسانِ والفَنَّانِ ذَلكَ الخَيْطُ الّذِي يُقِيْسُهُ القَلبُ بِمِقْيَاسِ النَّاقِدِ، المُتَمرِّسِ فِي فَهْمِ الأَشْيَاءِ وَتَحْلِيْلِها. فَالفَنَّانُ حِينمَا يَخْرِجُ عَن طَبِيْعَتِهِ، هَل مِنْ المُمْكِنِ أَنْ نَعْرِفَهُ، بِأَنّهُ فَنَّانٌ، صَاحِبُ مَلكَةٍ تَقُودُهُ نَحوَ حُبِّ الآخَرينَ؟
سُؤالٌ، كثيراً مَا دَاخَلَني بِجدالِهِ، لكنّنِي فِي نِهايَةِ المَطَافِ أمسَكتُ بِخَيطِ المَعرِفَةِ، واتَّصَلتُ بِمَا يَعنِيهِ السُّؤالُ مِن حِيرةٍ، لم تكنْ حِيرةً بِقَدرِ مَا هِيَ محبةٌ اعتدْتُ أن أَقتَرِبَ مِنَها بِحسِّي الإنسانِيِ، وأكتشفَ معدنَها الثّمِينَ.
هَذِهِ المَحَبَةُ اكتَشَفتَها فِي قُلُوبِ بَعضِ مَن أُحبُّهُم وأَنْشَغِلُ بِإبدَاعَاتِهم الفنّيةِ، إنْ كانَت هذهِ الإبداعاتُ علَى مستوَى الأدبِ أو علَى مستوى التَشكِيلِ، أو المَعرِفةِ الإِنسانِيَةِ، فَهَذِهِ المُحَبَةُ التِي اكتَشفتَها في قلُوبِ مبدِعيهَا التِي فَرضَت أعمَالُهم عليَّ محبتَهم وفِي مُقدمَتِهم، الفنانُ القديرُ الشيخ راشد بن خليفة آل خليفة، شاهداً حياً يُلوّنُ جمالياتِ حلمِهِ بإبداعٍ، فهو أمَامَ لوحتِهِ، ذلكَ الإنسانُ الّلطيفُ، حينَمَا يقابلُكَ تسبقُهُ ابتسامتُهُ، فَنانٌ عَشِقَ الفنَّ التّشكِيليَّ، وتحمّلَ رعايةَ جمعيةِ البحرينِ للفنونِ التشكِيلّيةِ ولازالَ، سَعيُهُ أن يرَى أبنَاءَ وَطنِهِ من المُبدِعينَ يُحَبّرونَ لَوحَاتِهِم بِإبداعٍ مُتَواِصِلٍ، فهوَ الرّاعِي لِهذِهِ الجَمْعِيةِ والحَرِيصُ علَى جَمْعِ الفَنَّانِينَ، يُدعمُهُم بِقلبِهِ وبِسَخَائِهِ، ويُحَفّزُ فِيهِم المُنَافَسَةَ، ففِي كُلِّ مَعْرِضٍ تَراهُ يَتقدمُ الحُضُورَ، ويُبارِكُ جَديِدَ كلِّ فنَانٍ.
ففِي رُوحِهِ الُمبدِعةِ يَسكِنُ ذلكَ الإنسانُ الجميلُ الذي حينَمَا تُحاوِرُهُ أو تُجادِلُهُ في عملٍ مَا، لا يدّعِي فَهماً لكلِ شيءٍ، كونُهُ َشديدَ التَواضِعِ، مُدرِكاً لِكُلِ جَمالِياتِ الفَنِ والثَقَافَةِ عَبرَ قراءَتِهِ لِكُلِ عَمَلٍ فَنِيٍ، عبّرَ عنهُ بِبَصِيرتِهِ كفّنانٍ يتلمسُ الإبداعَ من خِلالِ منظورِهِ للوحةِ، فلَنْ تَستطِيعَ أن تُخرِجَهُ مِن عَمَلِهِ الإبداعِيِ، فهَو فِي مَكتبِهِ يُدِيرُ عمَلَهُ فِي خِدمَةِ أبنَاءِ وَطنِهِ بِلُغَةِ الفَنّانِ، دُونَ أن يُحمّلَ محبِيِه عناءَ مَشَقَةِ العَمَلِ.
لُهُ لُغَةٌ دَافِئَةٌ فِي الحَدِيثِ، لا يَستطيعُ مَن يَلتِقي بِهِ أن يَبتعِدَ عَن دِفءِ حُبِهِ، فهَوَ مُبدِعٌ، وإنسَانٌ بِمعنَى الإنسَانِيةِ، أنجَزَ الكثِيرَ مِن الأَعمَالِ الجَمِيلَةِ، ذاتِ البُعدِ الإنسانِيّ والجَمَالِيّ.
فَرِيشَتُهُ حِينَمَا يُحبِّرُهَا بِلَونِ عَينَيهِ وبُعدُ نَظَرِهِ، يَكونُ الأخضَرُ فِي المُقدِمةِ، ربيعُها المتفتحُ بزهورِهِ اليانعةِ على مُحبِيهَا .
رَجِلٌ فِي حَدِيثِهِ مَعدِنُ الذهَبِ الخَالِصِ، وفِي لوحَتِهِ ذَلكَ القَلبُ النَّابِضُ بالحياةِ ومَحَبَةِ الآخَرِينَ.
فلَيسَ مِن المُمكِنِ أنْ نَفصِلَ بَينَ قَلبِ راشدِ بن خليفة كإنسانٍ وفَنانٍ مُبدِعٍ وبَينَ رِيشَتِهِ الفَنيةِ، لأنَ القَلبَ دَلِيلٌ علًى هذِهِ الرِيشَةِ الفَنيّةِ، فحينَمَا تَذهَبُ نَحوَ الإبداعِ تَتَّصِلُ بالآخرينَ نَحوَ مَحبَتِهم.
فَالذِي عَرَفَهُ وتَعامَلَ مَعَهُ، لا يُمكِنُ لَهُ أنْ يَفصِلَ قَلبَهُ عَن رِيشَتِهِ فِي المَحَبَةِ، لأنَّ الجِهَةَ الِتي تأتِي منها رِيحُ الربِيعِ هي جِهَةٌ زَهرِيَةٌ ذاتُ رَائِحَةٍ عَطِرةٍ تَلتَقِي بِمُحبِيهَا فَتُلَوِنُ لَوحَةً إبدَاعِيَةً مُتَّصِلَةً بِالقَلبِ.
هكَذَا عَرفتهُ الإنسانُ والفنانُ، قَلبٌ تَسكِنُهُ عَصافِيرُ المَحَبَةِ، ويَأنَسُ بِحبِّ النّاسِ.
ضُمنَ لَوحَةٍ تَجرِيدِيَةٍ عَالَميَّةٍ، كَبيرَةٍ، تَركَ فِي بَيَاضِ اللَّوحَةِ مَا يُشبِهُ الحِلمَ وَيُعِيدُ الذّاكِرَةَ للَفَرِح
أيُّ ذَاكِرَةٍ لِلفَنِّ البَحرِينِيِّ الأَصِيلِ، الدَّاعِمِ للمنتمِينَ لَهُ، والمُحِبِينَ الوقوفَ علَى شُرُفَاتِهِ كلَّمَا كَبُرَ فِي ظِلِّهِ المُخلِصونَ.
فَالتّجَارِبُ فِي البَحرينِ الحَبِيبَةِ مُتنوّعَةٌ وَفَاعِلَةٌ فِي مُحِيطِهَا، وَكُلُّ تَجرِبَةٍ لَها لونُها وبَرِيقُهَا
وَقَلِيلَةٌ هِيَ التَّجَاِرُبُ التِي تُعدُّ فِي تَجرُبَتِها امتداداً مُتواصِلاً لا تَعرفُ الوُقُوفَ، تَجمَعُ وُرُودَها مِن ذَاكِرَةِ المُحِبِينَ، وَتَنشَغِلُ بِحِبِ النّاسِ.
وَمنها تَجرُبَتُهُ التِي تُعّدُّ مِن أَخصَبِ التَّجارُبِ الرّمزِيّةِ، والتِي تَرَى فِي انشغالِها مُلتَقَى جَمِيعِ الفُنُونِ.
هَكَذَا هِيَ التَّجرُبَةُ التّشكِيلِيةُ عندَه والتِي لم تَتَّكِئْ علَى فَنٍ دُونَ آخَرَ، بَل جَمعَتْ كُلَّ مُحِبِيهَا فِي لُوحَةٍ مُعَاصِرَةٍ تَتَحدَّثُ بِروحٍ لا تَعرفُ اليأسَ ولا تَنضَبُ فِي مُحِيطِهَا الفَنِيِّ...
وَهيَ انعكَاسٌ علَى مَا تَحمِلُهُ إنسَانِيّتُهُ فِي كُلِّ مَعرِضٍ نَراهُ رَاعِيَاً أو زائِراً، يَقِفُ عندَ هذا العَملِ وَذاكَ، يَرمِي بِملاحَظَاتِهِ، مَفتُونَاً بِهذَا الحِراكِ الذِي كَثيراً ما شَغَلَهُ، وأَخَذَ مِن وَقتِهِ
لَكِنَّهُ سَعِيدٌ بِكُّلِ هذَا الحُبِّ الذِي رَبَطَهُ بِالحِرَاكِ التَّشكِيلِيِّ، وبِأُنَاسٍ يَشهَدُوَن لَهُ وَلِحُبِهِ، وَحِرصِهِ على احتضَانِهم. لأَكثَرَ مِن عِشرينَ عَاماً وَهَوَ يَلحَقُ ظِلَّ حَركَةٍ كَبُرَت بِإبداعِها المُعاصِرِ صُورٌ تَماسَكَت فِي سَماوَاتِ تَجرُبَتِهِ المِعطَاءَةِ.
a.astrawi@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك