برحيل عبدالله السعداوي (رحمه الله) نكون قد فقدنا – وأقولها من دون تردد – شخصية فريدة لا تتكرر إلا أن يشاء الله.
لا أدرى من أين أمسك بشخصية هذا الرجل. فعندما كنت أشاهده عن بُعد في أعماله المسرحية «كالقربان» عام 1996 م مثلا وهي أول أعماله التي شهدتها في منتصف التسعينات كنت أرى جبلا راسخا مهيبا يعيش قوة حضوره ورسوخه في فضاء العرض.. تشعر بمهابة وانت تطالع حركة جسده ونظرات عينيه الساخنة كما هي عروضه وتجاربه.
وظلت عندي تلك المهابة والصورة راسخة مهيبة.. وتكرست أكثر وأنا أتابع كتاباته المسرحية العميقة التي تنم عن رجل متابع دقيق النظر حداثي التفكير.
واستمر حاجز تلك المهابة حتى قدمت مسرحية الاطفال (مدينة الألوان) في 2010م، فإذا بالسعداوي يحتفي بها ويكتب عنها في الصحافة.. فإذا بنشوة الفرح ترفعني وتحملني على أن أمد جسرا مباشرا مع هذا الرجل الذي حجزت بيني وبينه مهابة الاحترام
ثم قدمت مسرحية «بلاليط» في 2011م فوجدته نعم السند والمعين والناقد العطوف على التجربة فزادتني ثقة وقربا منه.
كان السعداوي – في وقت مبكر – يتحدث عن مصطلحات مسرحية متقدمة يسخر منها كثير حتى المسرحيين.. ثم بدأوا يتبنونها ويترجمونها لعالم المسرح. لكنني احمد الله ان طبيعة شخصيتي مبنية على حيادية لا تحكم على الشيء إلا بعد تفحص وتفهم. ولذلك كنت اقرأ وأتلقى تلك المصطلحات بلا تأفف.
هذا المدخل هو الذي ساعدني على ولوج عالم السعداوي وفهم افكاره. ولذلك بدأت أزوره في مسرح الصواري وأتحين الفرص التي لا يتواجد فيها أحد حتى أتفرد معه وأبث له كل تساؤلاتي بأريحية لان طبيعتي خجولة لا أتحدث كثيرا بحضور مجاميع الفنانين. ولذلك كنت اتواعد معه من الساعة السابعة صباحا كل ثلاثاء.. افطر معه ثم يبدأ النقاش على مدى ساعتين وأكثر.. ومع توارد أسماء ومصطلحات المسرح قررت ان اقرأ كلاسيكيات وأصول كتب الفن المسرحي وتطوره.. فقرأت فن الشعر لأرسطو وإعداد الممثل وحياتي لستانسلافسكي ومحاضرات في الإخراج لماير هولد والمسرح الملحمي لبريخت والمسرح وقرينه لآرتو وقمت بتلخيص معظمهم تلخيصا دقيقا.
فكنت أجهز ملاحظاتي وأسئلتي الكثيرة على تلك الكتب وأطرحها على السعداوي كل أسبوع فيجيب ويعلق حتى تحولت تلك الجلسة إلى فصل جامعي أكاديمي عميق.. حتى حولت بعض تلك الملخصات إلى حلقات في صفحة اليوتيوب لمسرح البيادر.
فلما انتهيت منها أعارني السعداوي الكثير من الكتب والنصوص المسرحية فكنت طالبا مجدا اقرأ كل كتاب أو كتابين في اسبوع ثم أرجع له لأناقشه فيها.. ومن ذلك كتابه الذي كتبه عن سيرته في المسرح بعنوان «المسرح قلب».
هذه الحاضنة لم أشهد مثلها قط في مسرحنا.. ليس لأنه لا يوجد كفاءات مسرحية ولكن لأن طبيعة السعداوي الرحبة المرحبة تجعلك تقبل عليه بكل عواطفك.. فعندما أعده بزيارة او اسم كتاب فأتأخر عليه يتصل بي ليسأل ويعاتبني على التأخير، وعندما يعيرني كتابا او يقدم عرضا أو يحضر عرضا اتواجد انا فيه كمتفرج كان ينتظرني لنتناقش حوله.
سافرت معه في بعض الأعمال المسرحية كممثل أو ضيوفا مهرجانات مسرحية فاستثمرت وجوده لسماع تعليقاته على العروض فازددت وعيا ومجاراة للحدث كان السعداوي لا يجيد الانكليزية لكنه يتابع المسرح الاوربي وتطورات نظرياته أكثر من الأكاديميين نتيجة شغفه بقراءة الحوليات الثقافية ونهمه بقراءة الكتب هذا فضلا عن كتب الفلسفة والسياسة والتاريخ والفكر والاسلاميات.
كانت ومازالت لدي عادة بأن اكتشف رؤية المبدعين من خلال سؤال محدد لهم وهو: ما هو مشروع حياتك في تخصصك؟
كان جواب السعداوي: أن يكون لدي ورشة مسرحية دائمة.. وبالرغم من أنه قطع شوطا غير قليل لكنه كالعادة اصطدم في تربتنا المسرحية الجافة التي ترهق الزارع فيها نتيجة تجفيف ينابيع الفن بقصد أو غير قصد.
لم أشهد معه تفاصيل مغامرته الأولى كما عاشها معه تلامذته وزملاؤه في مسرح نادي مدينة عيسى أو الصواري من بعد.. لكنني كنت أتابعهم وأقرأ منشوراتهم. لذلك أحببت واحترمت إبحارهم المتتابع في بحر لجي غامض بقيادة السعداوي المستفز لكثير من طاقات الشباب الواعدة والتي تحولت بعد ذلك لمشاريع متفردة.
رحمك الله استاذ عبدالله.. فلقد فقدنا فيك الحضن الدافئ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك