العدد : ١٧١٣٧ - السبت ٢٢ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٧ - السبت ٢٢ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٣ شعبان ١٤٤٦هـ

الثقافي

في ذكرى رحيل أستاذنا عبدالله السعداوي:
السعداوي.. الهيبة المتواضعة

السبت ٢٢ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

برحيل‭ ‬عبدالله‭ ‬السعداوي‭ (‬رحمه‭ ‬الله‭) ‬نكون‭ ‬قد‭ ‬فقدنا‭ ‬‭ ‬وأقولها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬تردد‭ ‬‭ ‬شخصية‭ ‬فريدة‭ ‬لا‭ ‬تتكرر‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يشاء‭ ‬الله‭. ‬

لا‭ ‬أدرى‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أمسك‭ ‬بشخصية‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭. ‬فعندما‭ ‬كنت‭ ‬أشاهده‭ ‬عن‭ ‬بُعد‭ ‬في‭ ‬أعماله‭ ‬المسرحية‭ ‬‮«‬كالقربان‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1996‭ ‬م‭ ‬مثلا‭ ‬وهي‭ ‬أول‭ ‬أعماله‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬التسعينات‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬جبلا‭ ‬راسخا‭ ‬مهيبا‭ ‬يعيش‭ ‬قوة‭ ‬حضوره‭ ‬ورسوخه‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬العرض‭.. ‬تشعر‭ ‬بمهابة‭ ‬وانت‭ ‬تطالع‭ ‬حركة‭ ‬جسده‭ ‬ونظرات‭ ‬عينيه‭ ‬الساخنة‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬عروضه‭ ‬وتجاربه‭. ‬

وظلت‭ ‬عندي‭ ‬تلك‭ ‬المهابة‭ ‬والصورة‭ ‬راسخة‭ ‬مهيبة‭.. ‬وتكرست‭ ‬أكثر‭ ‬وأنا‭ ‬أتابع‭ ‬كتاباته‭ ‬المسرحية‭ ‬العميقة‭ ‬التي‭ ‬تنم‭ ‬عن‭ ‬رجل‭ ‬متابع‭ ‬دقيق‭ ‬النظر‭ ‬حداثي‭ ‬التفكير‭. ‬

واستمر‭ ‬حاجز‭ ‬تلك‭ ‬المهابة‭ ‬حتى‭ ‬قدمت‭ ‬مسرحية‭ ‬الاطفال‭ (‬مدينة‭ ‬الألوان‭) ‬في‭ ‬2010م،‭ ‬فإذا‭ ‬بالسعداوي‭ ‬يحتفي‭ ‬بها‭ ‬ويكتب‭ ‬عنها‭ ‬في‭ ‬الصحافة‭.. ‬فإذا‭ ‬بنشوة‭ ‬الفرح‭ ‬ترفعني‭ ‬وتحملني‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أمد‭ ‬جسرا‭ ‬مباشرا‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬حجزت‭ ‬بيني‭ ‬وبينه‭ ‬مهابة‭ ‬الاحترام‭ ‬

ثم‭ ‬قدمت‭ ‬مسرحية‭ ‬‮«‬بلاليط‮»‬‭ ‬في‭ ‬2011م‭ ‬فوجدته‭ ‬نعم‭ ‬السند‭ ‬والمعين‭ ‬والناقد‭ ‬العطوف‭ ‬على‭ ‬التجربة‭ ‬فزادتني‭ ‬ثقة‭ ‬وقربا‭ ‬منه‭. ‬

كان‭ ‬السعداوي‭ ‬‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬مصطلحات‭ ‬مسرحية‭ ‬متقدمة‭ ‬يسخر‭ ‬منها‭ ‬كثير‭ ‬حتى‭ ‬المسرحيين‭.. ‬ثم‭ ‬بدأوا‭ ‬يتبنونها‭ ‬ويترجمونها‭ ‬لعالم‭ ‬المسرح‭. ‬لكنني‭ ‬احمد‭ ‬الله‭ ‬ان‭ ‬طبيعة‭ ‬شخصيتي‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬حيادية‭ ‬لا‭ ‬تحكم‭ ‬على‭ ‬الشيء‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬تفحص‭ ‬وتفهم‭. ‬ولذلك‭ ‬كنت‭ ‬اقرأ‭ ‬وأتلقى‭ ‬تلك‭ ‬المصطلحات‭ ‬بلا‭ ‬تأفف‭.‬

هذا‭ ‬المدخل‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ساعدني‭ ‬على‭ ‬ولوج‭ ‬عالم‭ ‬السعداوي‭ ‬وفهم‭ ‬افكاره‭. ‬ولذلك‭ ‬بدأت‭ ‬أزوره‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬الصواري‭ ‬وأتحين‭ ‬الفرص‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتواجد‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬حتى‭ ‬أتفرد‭ ‬معه‭ ‬وأبث‭ ‬له‭ ‬كل‭ ‬تساؤلاتي‭ ‬بأريحية‭ ‬لان‭ ‬طبيعتي‭ ‬خجولة‭ ‬لا‭ ‬أتحدث‭ ‬كثيرا‭ ‬بحضور‭ ‬مجاميع‭ ‬الفنانين‭. ‬ولذلك‭ ‬كنت‭ ‬اتواعد‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬الساعة‭ ‬السابعة‭ ‬صباحا‭ ‬كل‭ ‬ثلاثاء‭.. ‬افطر‭ ‬معه‭ ‬ثم‭ ‬يبدأ‭ ‬النقاش‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬ساعتين‭ ‬وأكثر‭.. ‬ومع‭ ‬توارد‭ ‬أسماء‭ ‬ومصطلحات‭ ‬المسرح‭ ‬قررت‭ ‬ان‭ ‬اقرأ‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬وأصول‭ ‬كتب‭ ‬الفن‭ ‬المسرحي‭ ‬وتطوره‭.. ‬فقرأت‭ ‬فن‭ ‬الشعر‭ ‬لأرسطو‭ ‬وإعداد‭ ‬الممثل‭ ‬وحياتي‭ ‬لستانسلافسكي‭ ‬ومحاضرات‭ ‬في‭ ‬الإخراج‭ ‬لماير‭ ‬هولد‭ ‬والمسرح‭ ‬الملحمي‭ ‬لبريخت‭ ‬والمسرح‭ ‬وقرينه‭ ‬لآرتو‭ ‬وقمت‭ ‬بتلخيص‭ ‬معظمهم‭ ‬تلخيصا‭ ‬دقيقا‭.‬

فكنت‭ ‬أجهز‭ ‬ملاحظاتي‭ ‬وأسئلتي‭ ‬الكثيرة‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الكتب‭ ‬وأطرحها‭ ‬على‭ ‬السعداوي‭ ‬كل‭ ‬أسبوع‭ ‬فيجيب‭ ‬ويعلق‭ ‬حتى‭ ‬تحولت‭ ‬تلك‭ ‬الجلسة‭ ‬إلى‭ ‬فصل‭ ‬جامعي‭ ‬أكاديمي‭ ‬عميق‭.. ‬حتى‭ ‬حولت‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الملخصات‭ ‬إلى‭ ‬حلقات‭ ‬في‭ ‬صفحة‭ ‬اليوتيوب‭ ‬لمسرح‭ ‬البيادر‭. ‬

فلما‭ ‬انتهيت‭ ‬منها‭ ‬أعارني‭ ‬السعداوي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬والنصوص‭ ‬المسرحية‭ ‬فكنت‭ ‬طالبا‭ ‬مجدا‭ ‬اقرأ‭ ‬كل‭ ‬كتاب‭ ‬أو‭ ‬كتابين‭ ‬في‭ ‬اسبوع‭ ‬ثم‭ ‬أرجع‭ ‬له‭ ‬لأناقشه‭ ‬فيها‭.. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬كتابه‭ ‬الذي‭ ‬كتبه‭ ‬عن‭ ‬سيرته‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬المسرح‭ ‬قلب‮»‬‭. ‬

هذه‭ ‬الحاضنة‭ ‬لم‭ ‬أشهد‭ ‬مثلها‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬مسرحنا‭.. ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬كفاءات‭ ‬مسرحية‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬طبيعة‭ ‬السعداوي‭ ‬الرحبة‭ ‬المرحبة‭ ‬تجعلك‭ ‬تقبل‭ ‬عليه‭ ‬بكل‭ ‬عواطفك‭.. ‬فعندما‭ ‬أعده‭ ‬بزيارة‭ ‬او‭ ‬اسم‭ ‬كتاب‭ ‬فأتأخر‭ ‬عليه‭ ‬يتصل‭ ‬بي‭ ‬ليسأل‭ ‬ويعاتبني‭ ‬على‭ ‬التأخير،‭ ‬وعندما‭ ‬يعيرني‭ ‬كتابا‭ ‬او‭ ‬يقدم‭ ‬عرضا‭ ‬أو‭ ‬يحضر‭ ‬عرضا‭ ‬اتواجد‭ ‬انا‭ ‬فيه‭ ‬كمتفرج‭ ‬كان‭ ‬ينتظرني‭ ‬لنتناقش‭ ‬حوله‭.‬

سافرت‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأعمال‭ ‬المسرحية‭ ‬كممثل‭ ‬أو‭ ‬ضيوفا‭ ‬مهرجانات‭ ‬مسرحية‭ ‬فاستثمرت‭ ‬وجوده‭ ‬لسماع‭ ‬تعليقاته‭ ‬على‭ ‬العروض‭ ‬فازددت‭ ‬وعيا‭ ‬ومجاراة‭ ‬للحدث‭ ‬كان‭ ‬السعداوي‭ ‬لا‭ ‬يجيد‭ ‬الانكليزية‭ ‬لكنه‭ ‬يتابع‭ ‬المسرح‭ ‬الاوربي‭ ‬وتطورات‭ ‬نظرياته‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الأكاديميين‭ ‬نتيجة‭ ‬شغفه‭ ‬بقراءة‭ ‬الحوليات‭ ‬الثقافية‭ ‬ونهمه‭ ‬بقراءة‭ ‬الكتب‭ ‬هذا‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬كتب‭ ‬الفلسفة‭ ‬والسياسة‭ ‬والتاريخ‭ ‬والفكر‭ ‬والاسلاميات‭. ‬

كانت‭ ‬ومازالت‭ ‬لدي‭ ‬عادة‭ ‬بأن‭ ‬اكتشف‭ ‬رؤية‭ ‬المبدعين‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سؤال‭ ‬محدد‭ ‬لهم‭ ‬وهو‭: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مشروع‭ ‬حياتك‭ ‬في‭ ‬تخصصك؟

كان‭ ‬جواب‭ ‬السعداوي‭: ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدي‭ ‬ورشة‭ ‬مسرحية‭ ‬دائمة‭.. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬قطع‭ ‬شوطا‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬لكنه‭ ‬كالعادة‭ ‬اصطدم‭ ‬في‭ ‬تربتنا‭ ‬المسرحية‭ ‬الجافة‭ ‬التي‭ ‬ترهق‭ ‬الزارع‭ ‬فيها‭ ‬نتيجة‭ ‬تجفيف‭ ‬ينابيع‭ ‬الفن‭ ‬بقصد‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬قصد‭. ‬

لم‭ ‬أشهد‭ ‬معه‭ ‬تفاصيل‭ ‬مغامرته‭ ‬الأولى‭ ‬كما‭ ‬عاشها‭ ‬معه‭ ‬تلامذته‭ ‬وزملاؤه‭ ‬في‭ ‬مسرح‭ ‬نادي‭ ‬مدينة‭ ‬عيسى‭ ‬أو‭ ‬الصواري‭ ‬من‭ ‬بعد‭.. ‬لكنني‭ ‬كنت‭ ‬أتابعهم‭ ‬وأقرأ‭ ‬منشوراتهم‭. ‬لذلك‭ ‬أحببت‭ ‬واحترمت‭ ‬إبحارهم‭ ‬المتتابع‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬لجي‭ ‬غامض‭ ‬بقيادة‭ ‬السعداوي‭ ‬المستفز‭ ‬لكثير‭ ‬من‭ ‬طاقات‭ ‬الشباب‭ ‬الواعدة‭ ‬والتي‭ ‬تحولت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬لمشاريع‭ ‬متفردة‭. ‬

رحمك‭ ‬الله‭ ‬استاذ‭ ‬عبدالله‭.. ‬فلقد‭ ‬فقدنا‭ ‬فيك‭ ‬الحضن‭ ‬الدافئ‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا