في المقالِ السابقِ بعنوان «بليني الأكبر.. ومسار اللؤلؤ»، تم استعراضُ بداياتِ المساعي لتدوين شتى أنواع العلوم والمعرفة في كتابٍ واحد، وهو الأمرُ الذي ثابرَ على تنفيذِه الكاتبُ الروماني بليني الأكبر في مؤلفه الذي أُطلق عليه اسمَ «التاريخ الطبيعي». في هذا المقال، الذي ينقسمُ إلى جزأين، سيتم تناولُ تطوُّر الموسوعات المطبوعة مُنذُّ القرن الثامن عشر الميلادي وحتى التاريخ الحديث والمعاصر.
تُعد الموسوعاتُ بمثابةِ مستودعٍ قيمٍ وثريٍ للمعلومات، حيث تُقدم معلوماتٍ مُنظمةً لشتى المعارفِ والتخصصات، أما عن مُصطلحِ (Encyclopedia) أي «موسوعة» في اللغة الإنجليزية، فأصلها يعودُ إلى كلمةٍ مُشتقةٍ من اليونانية وتعني التعليم العام أو التعليم الدائري، والتي تعكسُ الطبيعةَ الشاملةَ لمثل هذه الأعمال، فيما يتعلقُ بتعريف مُصطلح الموسوعة، فقد عرّفها قاموسُ ميريام - وبستر على النحو الآتي: «عملٌ يحتوي على معلوماتٍ عن جميع فروع المعرفة أو يُعالج بشكلٍ شاملٍ فرعًا مُعينًا من المعرفة، عادةً في مقالاتٍ مُرتبةٍ أبجديًا غالبًا حسب الموضوع».
ويجب التنويه إلى ضرورة التفريق بين الموسوعات التخصصية والأخرى الشاملة، فالموسوعات التخصصية عادةً ما تنحصر في مجالٍ واحدٍ أو بابٍ من أبواب المعرفة، بينما تهدف الموسوعات الشاملة، والتي هي محور حديث المقال، إلى تغطية شتى أنواع العلوم والتخصصات بحسب الزمن الذي ترجع إليه.
يتناول المقال محطاتٍ لأبرز الموسوعات المطبوعة التي تركت أثرًا ملموسًا على المجتمع الثقافي من القرن الثامن عشر الميلادي وصولًا إلى التاريخ الحديث والمعاصر، من بينها موسوعة الفيلسوف الفرنسي الشهير دينيس ديدرو المعنونة بـ«الموسوعة أو القاموس المنطقي للعلوم والفنون والحرف»، والتي تُعرف اختصارًا بـ«الموسوعة»، والتي سيتم عرضها مع إطلالةٍ تاريخيةٍ حول الأسباب التي أدت إلى كتابتها في الجزء الأول من المقال، فيما يستعرض المقال في جزئه الثاني محطاتٍ من موسوعاتٍ أخرى مثل «الموسوعة البريطانية»، و«الموسوعة الأمريكية»، و«موسوعة كولير».
شهد القرن الثامن عشر الميلادي ثورةً في إصدار الموسوعات العلمية، ويُكتب الفضل بدايةً لظهور مثل هذه الموسوعات على يد الكاتب الإنجليزي إفرايم تشامبيرس، الذي وُلد عام 1680م وتوفي عام 1740م، وألف موسوعةً مُختصرةً من مُجلدين بعنوان «الموسوعة: أو القاموس الشامل للفنون والعلوم»، وتم نشر المؤلف لأول مرةٍ في عام 1728م، وأُهدي إلى الملك البريطاني حينها جورج الثاني.
ويُعدُّ مؤلف تشامبيرس انطلاقةً لثورة الموسوعات التي شهدها القرن الثامن عشر الميلادي وتميز بها عن سائر القرون، وفي هذا السياق، قام الألماني يوهان هاينريش زيدلر – المولود في عام 1706م والمتوفى عام 1751م – بنشر موسوعته التي حملت عنوان «الموسوعة الشاملة الكُبرى في كل العلوم والفنون»، على عددٍ من المُجلدات بلغ 64 مُجلدًا، بدايةً مُنذُّ عام 1731م، واستمر في نشر مُجلدات الموسوعة على دفعاتٍ لعددٍ من الأعوام.
وعلى الرُغم من المُحاولات المُتعددة التي جاءت لإعداد موسوعةٍ شاملة، إلا أن الفضل وبشكلٍ أساسيٍ في إعداد موسوعةٍ شاملةٍ لاقت صدىً واسعًا في أوروبا يعود إلى الفرنسي دينيس ديدرو، وهو من مواليد 5 أكتوبر 1713م، والذي ترك أثرًا بالغًا في ريادته وعمله على إعداد موسوعةٍ تُغطي مُختلف التخصصات وأفرع المعرفة.
وتعود فكرة تأليف ديدرو لموسوعته عندما أشار الناشر الفرنسي أندريه لي بريتون عليه ترجمة عمل إفرايم تشامبيرس إلى اللغة الفرنسية، فتبنى ديدرو ذلك المشروع، ولكنه سُرعان ما وجد نفسه يتوسع تدريجيًا في المؤلف، فأخذ يتشكل ما بين يديه عملٌ جديدٌ ومُستقلٌ عن موسوعة تشامبيرس، وعُرفت موسوعة ديدرو باسم «الموسوعة أو القاموس المنطقي للعلوم والفنون والحرف».
عاش ديدرو حياةً اتسمت بالالتزام الراسخ بالفنون والعلوم، وتبنى أسلوب حياةٍ «بوهيمي» سمح له بالانخراط في مساعيه الفكرية، وكان شاهدًا على عصر التنوير، وأحد أبرز الشخصيات التي لعبت دورًا في المشهد الثقافي الفرنسي آنذاك.
تم نشر موسوعة ديدرو في 35 مُجلدًا بين أعوام 1751 وحتى 1772م، وكان العمل يُعدُّ رائدًا لعصره، وقد تضمن 72 ألف موضوع، وأكثر من 20 مليون كلمة، شمل العديد من التخصصات والمجالات والحرف، كما أسهم بشكلٍ رئيسٍ أيضًا الفرنسي جان لو رون دالمبير المُتخصص في علم الرياضيات والفيزياء في إعداد وتحرير بعض ما جاء في موسوعة ديدرو، فيما طُبعت 4,200 نسخةً من الموسوعة في تلك الفترة الزمنية.
وحول الهدف الرئيس من وراء كتابة الموسوعة الجديدة، فقد ذكر ديدرو الآتي: «إن هدف الموسوعة هو تجميع كل المعرفة المُنتشرة على سطح الأرض، لإظهار النظام العام للمُجتمع الذي نعيش فيه، ونقله إلى الأشخاص الذين سيأتون من بعدنا، حتى لا تكون أعمال القرون الماضية عديمة الفائدة للقرون التي تأتي بعد ذلك، وحتى يُصبح أحفادنا أكثر تعلمًا، وأكثر فضيلةً وسعادة، وألا نموت دون أن نستحق أن نكون جزءًا من الجنس البشري».
علاوةً على ما تقدم، فقد شارك في إعداد المقالات التي اشتملت عليها الموسوعة نُخبةً من المُثقفين الفرنسيين بلغ عددهم نحو 130 مُساهمًا ومُساهمة، مثل جان جاك روسو، ولويس دي جوكورت، الذي أسهم في كتابة نحو 25% من محتوى الموسوعة أو ما يُعادل قُرابة 5 ملايين كلمة، بالإضافة إلى فولتير وغيرهم.
لم يكن عمل ديدرو مُجرد جمعٍ لعددٍ من المعلومات والحقائق؛ بل هدف أيضًا إلى تعزيز التفكير النقدي وتثقيف المُجتمع، وقد قام بزيارة الجِرفيين شخصيًّا للتعرف على حرفهم وعلى الأدوات والوسائل والتقنيات التي كانوا يستخدمونها حينها، وحرص على التأكد من أن موسوعته كانت شاملةً وثريةً بالمعلومات، وأن اللغة المُستخدمة فيها سلسةٌ ويسهل وصولها لمُخاطبة مُختلف شرائح المُجتمع الفرنسي، وقد عزز موسوعته من خلال ريشة الفنان أندريه لو بريتون، الذي قام برسم العديد من الحرف والحيوانات والنباتات والأدوات، وغيرها من معالم الحياة اليومية، لدعم الموسوعة بالأشكال الفنية اللازمة التي بلغ عددها نحو 1,800 شكل.
وتجدر الإشارة إلى أن الغلاف الداخلي للموسوعة ضم تشكيلًا فنيًّا مُتعارفًا عليه في مجال الطباعة حينها، يأتي على شكل رخامٍ ورقي، وبحسب رأي المُتخصصين في عالم الطباعة، فإن الرخام الورقي قد انتشر بين الفرنسيين وطبقه أيضًا عددٌ ممن عمل في مجال الطباعة في مجموعةٍ من الدول الأوروبية آنذاك، وقد استمدت الفكرة من الكُتب التي كانت تُطبع في الدولة العُثمانية، علمًا بأن أول طابعةٍ رسميةٍ تم تأسيسها في الدولة العُثمانية جاءت على يد المجري المُعتنق للدين الإسلامي إبراهيم مُتفرقة في عام 1727م في عهد السلطان أحمد الثالث (1703 – 1730م).
وقد ندم ديدرو على عمله نظرًا لأنه استنفد منه أكثر من عقدين من حياته لإعداده، وعانى خلال تلك الأعوام من ضائقةٍ مالية، إلا أن حالته المادية تغيرت في أواخر حياته عندما قامت الإمبراطورة الروسية كاترين العظيمة (1762 – 1796م) باقتناء ثلاثة آلاف كتابٍ من مكتبته وتوظيفه كمُشرفٍ خاصٍ على مكتبتها. وقد توفي بسبب مرض الانصمام الرئوي في 31 يوليو 1784م.
ومن الجدير بالذكر أيضًا وجود نظرية اقتصادية أُطلقت على اسم دينيس ديدرو، وتتمحور النظرية حول أنه إذا أقدم المرء على اقتناء شيءٍ ما، فإن ذلك سيقوده إلى اقتناء المزيد من السلع المُكملة؛ فإذا اقتنى رجلٌ بدلةً جديدة، سيقوده ذلك إلى اقتناء قميصٍ جديدٍ ومن ثم حذاءٍ جديدٍ لتتناسب مع البدلة الجديدة على سبيل المثال.
ولم يقتصر مشروع ديدرو الطموح على جمع كمياتٍ هائلةٍ من المعلومات، بل هدف أيضًا إلى تعزيز التفكير النقدي وتثقيف المُجتمع، وبفضل إسهامات عديد من المُثقفين الفرنسيين ودمج العناصر الفنية في الموسوعة، فقد شكل العمل مُنعطفًا محوريًا في القرن الثامن عشر الميلادي، مهد الطريق لمشروعاتٍ أُخرى رأت النور، سيتم تناولها في المقال القادم بمشيئة الله.
ختامًا، فإن التعرف على تطور الموسوعات الشاملة من خلال نظرة شخصياتٍ مثل بليني الأكبر ودينيس ديدرو يُسلط الضوء على التطور الكبير الذي شهدته عملية توثيق المعرفة من العصور القديمة إلى العصر الحديث.
المدير التنفيذي لمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك