العدد : ١٧١٣٤ - الأربعاء ١٩ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٣٤ - الأربعاء ١٩ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٢٠ شعبان ١٤٤٦هـ

مقالات

تطور الموسوعات المطبوعة من القرن الثامن عشر إلى العصر الحديث 1- 2

بقلم: د. حمد إبراهيم العبدالله

الأحد ١٦ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬المقالِ‭ ‬السابقِ‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬بليني‭ ‬الأكبر‭.. ‬ومسار‭ ‬اللؤلؤ‮»‬،‭ ‬تم‭ ‬استعراضُ‭ ‬بداياتِ‭ ‬المساعي‭ ‬لتدوين‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬العلوم‭ ‬والمعرفة‭ ‬في‭ ‬كتابٍ‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬الأمرُ‭ ‬الذي‭ ‬ثابرَ‭ ‬على‭ ‬تنفيذِه‭ ‬الكاتبُ‭ ‬الروماني‭ ‬بليني‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬مؤلفه‭ ‬الذي‭ ‬أُطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسمَ‭ ‬‮«‬التاريخ‭ ‬الطبيعي‮»‬‭. ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال،‭ ‬الذي‭ ‬ينقسمُ‭ ‬إلى‭ ‬جزأين،‭ ‬سيتم‭ ‬تناولُ‭ ‬تطوُّر‭ ‬الموسوعات‭ ‬المطبوعة‭ ‬مُنذُّ‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬وحتى‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر‭.  ‬

تُعد‭ ‬الموسوعاتُ‭ ‬بمثابةِ‭ ‬مستودعٍ‭ ‬قيمٍ‭ ‬وثريٍ‭ ‬للمعلومات،‭ ‬حيث‭ ‬تُقدم‭ ‬معلوماتٍ‭ ‬مُنظمةً‭ ‬لشتى‭ ‬المعارفِ‭ ‬والتخصصات،‭ ‬أما‭ ‬عن‭ ‬مُصطلحِ‭ (‬Encyclopedia‭) ‬أي‭ ‬‮«‬موسوعة‮»‬‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فأصلها‭ ‬يعودُ‭ ‬إلى‭ ‬كلمةٍ‭ ‬مُشتقةٍ‭ ‬من‭ ‬اليونانية‭ ‬وتعني‭ ‬التعليم‭ ‬العام‭ ‬أو‭ ‬التعليم‭ ‬الدائري،‭ ‬والتي‭ ‬تعكسُ‭ ‬الطبيعةَ‭ ‬الشاملةَ‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الأعمال،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلقُ‭ ‬بتعريف‭ ‬مُصطلح‭ ‬الموسوعة،‭ ‬فقد‭ ‬عرّفها‭ ‬قاموسُ‭ ‬ميريام‭ - ‬وبستر‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الآتي‭: ‬‮«‬عملٌ‭ ‬يحتوي‭ ‬على‭ ‬معلوماتٍ‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬فروع‭ ‬المعرفة‭ ‬أو‭ ‬يُعالج‭ ‬بشكلٍ‭ ‬شاملٍ‭ ‬فرعًا‭ ‬مُعينًا‭ ‬من‭ ‬المعرفة،‭ ‬عادةً‭ ‬في‭ ‬مقالاتٍ‭ ‬مُرتبةٍ‭ ‬أبجديًا‭ ‬غالبًا‭ ‬حسب‭ ‬الموضوع‮»‬‭. ‬

ويجب‭ ‬التنويه‭ ‬إلى‭ ‬ضرورة‭ ‬التفريق‭ ‬بين‭ ‬الموسوعات‭ ‬التخصصية‭ ‬والأخرى‭ ‬الشاملة،‭ ‬فالموسوعات‭ ‬التخصصية‭ ‬عادةً‭ ‬ما‭ ‬تنحصر‭ ‬في‭ ‬مجالٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬أو‭ ‬بابٍ‭ ‬من‭ ‬أبواب‭ ‬المعرفة،‭ ‬بينما‭ ‬تهدف‭ ‬الموسوعات‭ ‬الشاملة،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬محور‭ ‬حديث‭ ‬المقال،‭ ‬إلى‭ ‬تغطية‭ ‬شتى‭ ‬أنواع‭ ‬العلوم‭ ‬والتخصصات‭ ‬بحسب‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬ترجع‭ ‬إليه‭.   ‬

يتناول‭ ‬المقال‭ ‬محطاتٍ‭ ‬لأبرز‭ ‬الموسوعات‭ ‬المطبوعة‭ ‬التي‭ ‬تركت‭ ‬أثرًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭ ‬الثقافي‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬موسوعة‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير‭ ‬دينيس‭ ‬ديدرو‭ ‬المعنونة‭ ‬بـ«الموسوعة‭ ‬أو‭ ‬القاموس‭ ‬المنطقي‭ ‬للعلوم‭ ‬والفنون‭ ‬والحرف‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬تُعرف‭ ‬اختصارًا‭ ‬بـ«الموسوعة‮»‬،‭ ‬والتي‭ ‬سيتم‭ ‬عرضها‭ ‬مع‭ ‬إطلالةٍ‭ ‬تاريخيةٍ‭ ‬حول‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬كتابتها‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬المقال،‭ ‬فيما‭ ‬يستعرض‭ ‬المقال‭ ‬في‭ ‬جزئه‭ ‬الثاني‭ ‬محطاتٍ‭ ‬من‭ ‬موسوعاتٍ‭ ‬أخرى‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬الموسوعة‭ ‬البريطانية‮»‬،‭ ‬و«الموسوعة‭ ‬الأمريكية‮»‬،‭ ‬و‮«‬موسوعة‭ ‬كولير‮»‬‭. ‬

شهد‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬ثورةً‭ ‬في‭ ‬إصدار‭ ‬الموسوعات‭ ‬العلمية،‭ ‬ويُكتب‭ ‬الفضل‭ ‬بدايةً‭ ‬لظهور‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الموسوعات‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الكاتب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬إفرايم‭ ‬تشامبيرس،‭ ‬الذي‭ ‬وُلد‭ ‬عام‭ ‬1680م‭ ‬وتوفي‭ ‬عام‭ ‬1740م،‭ ‬وألف‭ ‬موسوعةً‭ ‬مُختصرةً‭ ‬من‭ ‬مُجلدين‭ ‬بعنوان‭ ‬‮«‬الموسوعة‭: ‬أو‭ ‬القاموس‭ ‬الشامل‭ ‬للفنون‭ ‬والعلوم‮»‬،‭ ‬وتم‭ ‬نشر‭ ‬المؤلف‭ ‬لأول‭ ‬مرةٍ‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1728م،‭ ‬وأُهدي‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬البريطاني‭ ‬حينها‭ ‬جورج‭ ‬الثاني‭.  ‬

ويُعدُّ‭ ‬مؤلف‭ ‬تشامبيرس‭ ‬انطلاقةً‭ ‬لثورة‭ ‬الموسوعات‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي‭ ‬وتميز‭ ‬بها‭ ‬عن‭ ‬سائر‭ ‬القرون،‭ ‬وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق،‭ ‬قام‭ ‬الألماني‭ ‬يوهان‭ ‬هاينريش‭ ‬زيدلر‭ ‬‭ ‬المولود‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1706م‭ ‬والمتوفى‭ ‬عام‭ ‬1751م‭ ‬‭ ‬بنشر‭ ‬موسوعته‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬الموسوعة‭ ‬الشاملة‭ ‬الكُبرى‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬العلوم‭ ‬والفنون‮»‬،‭ ‬على‭ ‬عددٍ‭ ‬من‭ ‬المُجلدات‭ ‬بلغ‭ ‬64‭ ‬مُجلدًا،‭ ‬بدايةً‭ ‬مُنذُّ‭ ‬عام‭ ‬1731م،‭ ‬واستمر‭ ‬في‭ ‬نشر‭ ‬مُجلدات‭ ‬الموسوعة‭ ‬على‭ ‬دفعاتٍ‭ ‬لعددٍ‭ ‬من‭ ‬الأعوام‭.  ‬

وعلى‭ ‬الرُغم‭ ‬من‭ ‬المُحاولات‭ ‬المُتعددة‭ ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬لإعداد‭ ‬موسوعةٍ‭ ‬شاملة،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الفضل‭ ‬وبشكلٍ‭ ‬أساسيٍ‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬موسوعةٍ‭ ‬شاملةٍ‭ ‬لاقت‭ ‬صدىً‭ ‬واسعًا‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬الفرنسي‭ ‬دينيس‭ ‬ديدرو،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬5‭ ‬أكتوبر‭ ‬1713م،‭ ‬والذي‭ ‬ترك‭ ‬أثرًا‭ ‬بالغًا‭ ‬في‭ ‬ريادته‭ ‬وعمله‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬موسوعةٍ‭ ‬تُغطي‭ ‬مُختلف‭ ‬التخصصات‭ ‬وأفرع‭ ‬المعرفة‭. ‬

وتعود‭ ‬فكرة‭ ‬تأليف‭ ‬ديدرو‭ ‬لموسوعته‭ ‬عندما‭ ‬أشار‭ ‬الناشر‭ ‬الفرنسي‭ ‬أندريه‭ ‬لي‭ ‬بريتون‭ ‬عليه‭ ‬ترجمة‭ ‬عمل‭ ‬إفرايم‭ ‬تشامبيرس‭ ‬إلى‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية،‭ ‬فتبنى‭ ‬ديدرو‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع،‭ ‬ولكنه‭ ‬سُرعان‭ ‬ما‭ ‬وجد‭ ‬نفسه‭ ‬يتوسع‭ ‬تدريجيًا‭ ‬في‭ ‬المؤلف،‭ ‬فأخذ‭ ‬يتشكل‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬عملٌ‭ ‬جديدٌ‭ ‬ومُستقلٌ‭ ‬عن‭ ‬موسوعة‭ ‬تشامبيرس،‭ ‬وعُرفت‭ ‬موسوعة‭ ‬ديدرو‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الموسوعة‭ ‬أو‭ ‬القاموس‭ ‬المنطقي‭ ‬للعلوم‭ ‬والفنون‭ ‬والحرف‮»‬‭.  ‬

عاش‭ ‬ديدرو‭ ‬حياةً‭ ‬اتسمت‭ ‬بالالتزام‭ ‬الراسخ‭ ‬بالفنون‭ ‬والعلوم،‭ ‬وتبنى‭ ‬أسلوب‭ ‬حياةٍ‭ ‬‮«‬بوهيمي‮»‬‭ ‬سمح‭ ‬له‭ ‬بالانخراط‭ ‬في‭ ‬مساعيه‭ ‬الفكرية،‭ ‬وكان‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬عصر‭ ‬التنوير،‭ ‬وأحد‭ ‬أبرز‭ ‬الشخصيات‭ ‬التي‭ ‬لعبت‭ ‬دورًا‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬الثقافي‭ ‬الفرنسي‭ ‬آنذاك‭.  ‬

تم‭ ‬نشر‭ ‬موسوعة‭ ‬ديدرو‭ ‬في‭ ‬35‭ ‬مُجلدًا‭ ‬بين‭ ‬أعوام‭ ‬1751‭ ‬وحتى‭ ‬1772م،‭ ‬وكان‭ ‬العمل‭ ‬يُعدُّ‭ ‬رائدًا‭ ‬لعصره،‭ ‬وقد‭ ‬تضمن‭ ‬72‭ ‬ألف‭ ‬موضوع،‭ ‬وأكثر‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬مليون‭ ‬كلمة،‭ ‬شمل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬التخصصات‭ ‬والمجالات‭ ‬والحرف،‭ ‬كما‭ ‬أسهم‭ ‬بشكلٍ‭ ‬رئيسٍ‭ ‬أيضًا‭ ‬الفرنسي‭ ‬جان‭ ‬لو‭ ‬رون‭ ‬دالمبير‭ ‬المُتخصص‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الرياضيات‭ ‬والفيزياء‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬وتحرير‭ ‬بعض‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬موسوعة‭ ‬ديدرو،‭ ‬فيما‭ ‬طُبعت‭ ‬4,200‭ ‬نسخةً‭ ‬من‭ ‬الموسوعة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬الزمنية‭. ‬

وحول‭ ‬الهدف‭ ‬الرئيس‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬كتابة‭ ‬الموسوعة‭ ‬الجديدة،‭ ‬فقد‭ ‬ذكر‭ ‬ديدرو‭ ‬الآتي‭: ‬‮«‬إن‭ ‬هدف‭ ‬الموسوعة‭ ‬هو‭ ‬تجميع‭ ‬كل‭ ‬المعرفة‭ ‬المُنتشرة‭ ‬على‭ ‬سطح‭ ‬الأرض،‭ ‬لإظهار‭ ‬النظام‭ ‬العام‭ ‬للمُجتمع‭ ‬الذي‭ ‬نعيش‭ ‬فيه،‭ ‬ونقله‭ ‬إلى‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬سيأتون‭ ‬من‭ ‬بعدنا،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬أعمال‭ ‬القرون‭ ‬الماضية‭ ‬عديمة‭ ‬الفائدة‭ ‬للقرون‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬وحتى‭ ‬يُصبح‭ ‬أحفادنا‭ ‬أكثر‭ ‬تعلمًا،‭ ‬وأكثر‭ ‬فضيلةً‭ ‬وسعادة،‭ ‬وألا‭ ‬نموت‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نستحق‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬الجنس‭ ‬البشري‮»‬‭.  ‬

علاوةً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تقدم،‭ ‬فقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬المقالات‭ ‬التي‭ ‬اشتملت‭ ‬عليها‭ ‬الموسوعة‭ ‬نُخبةً‭ ‬من‭ ‬المُثقفين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬بلغ‭ ‬عددهم‭ ‬نحو‭ ‬130‭ ‬مُساهمًا‭ ‬ومُساهمة،‭ ‬مثل‭ ‬جان‭ ‬جاك‭ ‬روسو،‭ ‬ولويس‭ ‬دي‭ ‬جوكورت،‭ ‬الذي‭ ‬أسهم‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬نحو‭ ‬25%‭ ‬من‭ ‬محتوى‭ ‬الموسوعة‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يُعادل‭ ‬قُرابة‭ ‬5‭ ‬ملايين‭ ‬كلمة،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬فولتير‭ ‬وغيرهم‭. ‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬عمل‭ ‬ديدرو‭ ‬مُجرد‭ ‬جمعٍ‭ ‬لعددٍ‭ ‬من‭ ‬المعلومات‭ ‬والحقائق؛‭ ‬بل‭ ‬هدف‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬وتثقيف‭ ‬المُجتمع،‭ ‬وقد‭ ‬قام‭ ‬بزيارة‭ ‬الجِرفيين‭ ‬شخصيًّا‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬حرفهم‭ ‬وعلى‭ ‬الأدوات‭ ‬والوسائل‭ ‬والتقنيات‭ ‬التي‭ ‬كانوا‭ ‬يستخدمونها‭ ‬حينها،‭ ‬وحرص‭ ‬على‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬موسوعته‭ ‬كانت‭ ‬شاملةً‭ ‬وثريةً‭ ‬بالمعلومات،‭ ‬وأن‭ ‬اللغة‭ ‬المُستخدمة‭ ‬فيها‭ ‬سلسةٌ‭ ‬ويسهل‭ ‬وصولها‭ ‬لمُخاطبة‭ ‬مُختلف‭ ‬شرائح‭ ‬المُجتمع‭ ‬الفرنسي،‭ ‬وقد‭ ‬عزز‭ ‬موسوعته‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ريشة‭ ‬الفنان‭ ‬أندريه‭ ‬لو‭ ‬بريتون،‭ ‬الذي‭ ‬قام‭ ‬برسم‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الحرف‭ ‬والحيوانات‭ ‬والنباتات‭ ‬والأدوات،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬لدعم‭ ‬الموسوعة‭ ‬بالأشكال‭ ‬الفنية‭ ‬اللازمة‭ ‬التي‭ ‬بلغ‭ ‬عددها‭ ‬نحو‭ ‬1,800‭ ‬شكل‭.  ‬

وتجدر‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الغلاف‭ ‬الداخلي‭ ‬للموسوعة‭ ‬ضم‭ ‬تشكيلًا‭ ‬فنيًّا‭ ‬مُتعارفًا‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطباعة‭ ‬حينها،‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬رخامٍ‭ ‬ورقي،‭ ‬وبحسب‭ ‬رأي‭ ‬المُتخصصين‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الطباعة،‭ ‬فإن‭ ‬الرخام‭ ‬الورقي‭ ‬قد‭ ‬انتشر‭ ‬بين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬وطبقه‭ ‬أيضًا‭ ‬عددٌ‭ ‬ممن‭ ‬عمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطباعة‭ ‬في‭ ‬مجموعةٍ‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬آنذاك،‭ ‬وقد‭ ‬استمدت‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬الكُتب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُطبع‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العُثمانية،‭ ‬علمًا‭ ‬بأن‭ ‬أول‭ ‬طابعةٍ‭ ‬رسميةٍ‭ ‬تم‭ ‬تأسيسها‭ ‬في‭ ‬الدولة‭ ‬العُثمانية‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬المجري‭ ‬المُعتنق‭ ‬للدين‭ ‬الإسلامي‭ ‬إبراهيم‭ ‬مُتفرقة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1727م‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬السلطان‭ ‬أحمد‭ ‬الثالث‭ (‬1703‭ ‬‭ ‬1730م‭).  ‬

وقد‭ ‬ندم‭ ‬ديدرو‭ ‬على‭ ‬عمله‭ ‬نظرًا‭ ‬لأنه‭ ‬استنفد‭ ‬منه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عقدين‭ ‬من‭ ‬حياته‭ ‬لإعداده،‭ ‬وعانى‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الأعوام‭ ‬من‭ ‬ضائقةٍ‭ ‬مالية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬حالته‭ ‬المادية‭ ‬تغيرت‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬حياته‭ ‬عندما‭ ‬قامت‭ ‬الإمبراطورة‭ ‬الروسية‭ ‬كاترين‭ ‬العظيمة‭ (‬1762‭ ‬‭ ‬1796م‭) ‬باقتناء‭ ‬ثلاثة‭ ‬آلاف‭ ‬كتابٍ‭ ‬من‭ ‬مكتبته‭ ‬وتوظيفه‭ ‬كمُشرفٍ‭ ‬خاصٍ‭ ‬على‭ ‬مكتبتها‭.  ‬وقد‭ ‬توفي‭ ‬بسبب‭ ‬مرض‭ ‬الانصمام‭ ‬الرئوي‭ ‬في‭ ‬31‭ ‬يوليو‭ ‬1784م‭.  ‬

ومن‭ ‬الجدير‭ ‬بالذكر‭ ‬أيضًا‭ ‬وجود‭ ‬نظرية‭ ‬اقتصادية‭ ‬أُطلقت‭ ‬على‭ ‬اسم‭ ‬دينيس‭ ‬ديدرو،‭ ‬وتتمحور‭ ‬النظرية‭ ‬حول‭ ‬أنه‭ ‬إذا‭ ‬أقدم‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬اقتناء‭ ‬شيءٍ‭ ‬ما،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬سيقوده‭ ‬إلى‭ ‬اقتناء‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬السلع‭ ‬المُكملة؛‭ ‬فإذا‭ ‬اقتنى‭ ‬رجلٌ‭ ‬بدلةً‭ ‬جديدة،‭ ‬سيقوده‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬اقتناء‭ ‬قميصٍ‭ ‬جديدٍ‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬حذاءٍ‭ ‬جديدٍ‭ ‬لتتناسب‭ ‬مع‭ ‬البدلة‭ ‬الجديدة‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭.  ‬

ولم‭ ‬يقتصر‭ ‬مشروع‭ ‬ديدرو‭ ‬الطموح‭ ‬على‭ ‬جمع‭ ‬كمياتٍ‭ ‬هائلةٍ‭ ‬من‭ ‬المعلومات،‭ ‬بل‭ ‬هدف‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬تعزيز‭ ‬التفكير‭ ‬النقدي‭ ‬وتثقيف‭ ‬المُجتمع،‭ ‬وبفضل‭ ‬إسهامات‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المُثقفين‭ ‬الفرنسيين‭ ‬ودمج‭ ‬العناصر‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬الموسوعة،‭ ‬فقد‭ ‬شكل‭ ‬العمل‭ ‬مُنعطفًا‭ ‬محوريًا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬الميلادي،‭ ‬مهد‭ ‬الطريق‭ ‬لمشروعاتٍ‭ ‬أُخرى‭ ‬رأت‭ ‬النور،‭ ‬سيتم‭ ‬تناولها‭ ‬في‭ ‬المقال‭ ‬القادم‭ ‬بمشيئة‭ ‬الله‭.  ‬

ختامًا،‭ ‬فإن‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬تطور‭ ‬الموسوعات‭ ‬الشاملة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬نظرة‭ ‬شخصياتٍ‭ ‬مثل‭ ‬بليني‭ ‬الأكبر‭ ‬ودينيس‭ ‬ديدرو‭ ‬يُسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬التطور‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬شهدته‭ ‬عملية‭ ‬توثيق‭ ‬المعرفة‭ ‬من‭ ‬العصور‭ ‬القديمة‭ ‬إلى‭ ‬العصر‭ ‬الحديث‭.‬

 

المدير‭ ‬التنفيذي‭ ‬لمركز‭ ‬البحرين‭ ‬للدراسات‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والدولية‭ ‬والطاقة‭ ‬‮«‬دراسات‮»‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا