بقلم: علي خميس الفردان
نثر الفسيفساء:
بأسلوبه السهل الماتع أخذنا السيد جعفر في جولة في البوم من البؤر السينمائية، سلط فيها عدسته الذكية على مشاهد اجتماعية متنوعة. وضعنا في كل محطة من محطاتها في قلب مشهد ثري من المشاهد الاجتماعية المكثفة والمؤثرة، وقد صنفت القصص الثلاث والعشرون، في أربع مجموعات:
المجموعة الأولى: العلاقات الزوجية العاثرة، وقد نثر فيها 7 من قصصه، تناولت:
المشاكل المترتبة على الزواج من ثانية، وما يترتب عليها من عواقب تنعكس على مستقبل الزوجة الأولى والأولاد، فتصل إلى التفكك الأسري أحيانا، كقصة (قلب شقي).
والمشاكل المترتبة على الزواج من امرأة أجنبية، التي تتخلى أحيانا عن زوجها عندما تحق الحقائق وينهار عرشه. فيظهر معدن الأولى المظلومة كما في قصة (ظلام الليل).
ومشاكل الطلاق، حين يحلو لبعض النساء التنقل من زوج إلى زوج، وما يترتب عليه من إضرار برباط الأسرة وتعثر حياة الزوج، كما في قصة (ثورة القطرس).
ومشاكل الافتتان بصغيرات السن، وما ينطوي عليه من إهمال الزوجة الأولى وأبنائها، كما في قصة (لدغة الدبور).
والزواج على طمع، وعواقب شلل العلاقات الزوجية والاجتماعية والأمراض النفسية، كما في قصة (عين النسر).
وتسويف الزواج من بعض الفتيات ورفض العرسان غرورا وتباهيا أمام الأقران، كما في قصة (نجمة شاردة).
ومشكلات الهوس بالهواية واهمال العائلة، كهوس الأديب بكتبه، وأثره في التفكك الأسري، كما في قصة (زهرة الخلد).
المجموعة الثانية: علاقة الأبناء بالأبوين، نثر فيها 5 قصص:
الابن العاق لأمه، كما في (المومجة الغادرة)
وعقوق الأبناء لأبيهم، كما في (في صحب المقهى) و(قاطع كالسيف).
وظلم الآباء للأبناء، كما في (دخان الحقد) و(قلب شقي).
المجموعة الثالثة: علاقة الإنسان بذاته وأصحابه، نثر فيها 7 قصص:
تحول الفشل إلى نقمة على الناس (الشباك).
البحث عن الذات الضائعة، رغم الثراء (أزرق هائل كالبحر).
التمحور حول الذات ورفض الآخر (نجمة شاردة).
العزوف والوحدة والتهيؤات (وحدي وشاهديَ التراب).
العجز واليأس والاستسلام للشيطان (تجربة رهيبة).
ضحايا الوساوس والتهيؤات (السر).
الغباء والجري وراء السراب كالاستثمار الوهمي (خلف الحاجز الخشبي)
الصبر على ما لا يطاق ولو خسر كل حلاله كما في (حديث مع النجوم).
المجموعة الرابعة: علاقة الإنسان بالسطلة الاجتماعية، وفيها 3 قصص، تناولت:
التمرد على سلطة المعبد والكهنوت، كما في (السبعة) و (العقدة الغريبة)
والتمرد على سلطة رب العمل الظالم، كما في (وجه الذئب).
أساليب وتقنيات القص:
الرؤية: تربع الراوي العليم على ثمانية عشر قصة من قصص المجموعة، وقصتان تولى القص فيهما لراوي الذاتي بضمير «أنا» المتكلم، هما (السر)، ص87 «رددت النظر بينهم وأنا في غاية العجب» و(وحدي وشاهدي التراب) ص62 افتتحها بالقول «زملائي الأربعة يحملون نعشي» وثالثة، على لسان شخصية من شخصيات القصة هي (في حصانة سيدي) ص41. افتتحها بقوله: «ألقت بي سيدتي بعنف داخل الفرن القديم».
الجنس القصصي: ساد جنس القصة القصيرة الواقعية الاجتماعية، في عشرين قصة من قصص المجموعة، وتفردت ثلاث قصص بالأسلوب الفنتازي العجائبي وهي: (وحدي وشاهدي التراب) ص62، قصة رجل قتلته الوحدة والغربة فتماهى مع الموت وعاش عرصاته، وقصة (السر) ص87، حيث الخيال الجامح وحوار البطل مع هياكل عظمية، وقصة (تجربة رهيبة) 78، لمدين مفلس لا يجد مخرجا إلا بالاستسلام للوقوع في حفرة من حفر الجحيم، مستعبداً مرتهناً.
بين المباشرة والرمزية: معظم القصص جاءت بأسلوب قصصي شيق مباشر، لكن هذه المجموعة لم تخلو من الغموض والرمزية معاً. نجد ذلك في قصة (السبعة) ص5، ورمزية المنقذ التي تتناص مع العقيدة الموجودة في أغلب الديانات، ورمزية التحرر من قيد الخوف، ورمزية العدد سبعة الذي تكرر أربع مرات في هذه القصة. كما تتلاقى في رمزية عقدة الخوف الذي يقيد الإنسان والشعوب عن نيل حريتها في قصة (العقدة غريبة الشكل) ص13، كما نجد ذلك في رمزية سقوط الحضارة المادية وتفوق الروح في قصة (أزرق هائل كالبحر).
استحضار الميثالوجيا والأسطورة: فقد حضرت الميثالوجيا والأسطورة في أكثر من قصة. كعقيدة التضحية والقرابين لبقاء الكهنوت المسيطر في قصة (السبعة)، وخرافة العقدة التي لا تفك من أجل ديمومة هيمنة المعبد ورجاله في قصة (العقدة غريبة الشكل)، وحضرت عقيدة الخلاص من المعاناة، كتناص مع العقيدة البودية، في قصة (أزرق هائل كالبحر)، وحضرت عقيدة البعث والنشور الإسلامية في قصة (وحدي وشاهديَّ التراب).
اللعب على خط الزمن: كقاص محترف، لم يلتزم بالزمن الخطي في معظم قصصه، بل نجده يلعب على ثيمة الزمن الارتجاعي والزمن الاستباقي في مواضع كثيرة. وكمثال على الزمن الارتجاعي، قصة (الموجة الغادرة) حيث وظف التذكر والتقديم والتأخير لخلق حالة من التشويق تارة، أو تقديم المفصَّل على العام، لقدح فكر وخيال المتلقي. وكمثال على الزمن الاستباقي قصة (السِّر) التي وقعت جميع أحداثها في المستقبل، عندما تخيل الموت وعاش ما بعده لا كرواية وإنما كواقع تعيشه الشخصية والقارئ معاً.
اللعب في فضاءات روائية بالاستطراد: استخدام الاستطراد في القصص القصيرة، يخرج بخيال المتلقي من كثافة الحدث، إلى عوالم اشبه بعوالم الرواية، حيث الاستغراق في التفاصيل البعيدة عن بؤرة القصة القصيرة، وستجد ذلك جلياً في قصة (الموجة الغادرة)، حين خرج عن حدود بيت جارته العجوز ليتمشى في الحي القديم يصف بيوت الجيران ذاكراً أسماءهم واحداً واحد.
تقنية المعادل الموضوعي: يضفي المعادل الموضوعي منطقية للحدث بإيراد المشكل وضده، الخير والشر أو كما يسميها غريماس في نظرية العوامل، بالمساعد والمعيق، ليسمح للحبكة بالحركة من خلال المفارقات التي يخلقها التعاضد والتضاد، كم يسهم في جلاء الغموض لدى القارئ، بسهولة ومنطقية. نجد ذلك جلياً في قصة (الموجة الغادرة) ص30، فقد مثل وفاء الزائر ابن الجيران لجارته وبرّه بها، دور المعادل الموضوعي، لغياب ابنها عادل الذي هجرها وقطع وصالها. ونجد المعادل الموضوعي في (السبعة) ص5، في الرجل المنقذ المُخَلِّص الذي هدى الفتيان السبعة لطريق خلاصهم، في مقابل شيوخ الضلال السبعة والأسياد السبعة، والسباع السبعة. ونجد المعادل الموضوعي في قصة (في صخب المقهى) ص35 يتمثل في زوج ابنته المحب، مقابل عقوق الأبناء جميعهم. والمعادل الموضوعي لجفاف الزوجة الأجنبية في قصة (في ظلام الليل) ص55، تمثل في وفاء الزوجة المطلقة الأولى وبناتها.
اللغة الأدبية الباذخة: حفلت (قصة نجمة شاردة) ص59 بأسلوب أدبي رومانسي، حين استغرق في جمل وصفية كهذه: الطيبة والسماحة تنبتان قمحاً في عينية. الابتسامة تنبت ودياناً خضراء، بنى بيتاً ملأه بأشجار السعادة، عروس نثر تحت قدميها نبضات قلبه، كانت تعيش في شرنقتها.
الشخصيات المأزومة: تضمنت أغلب قصص المجموعة شخصيات اجتماعية مأزومة إلى درجة عدم السواء في بعض الأحيان، غالباً نتجية الكبت والظلم الاجتماعي. مثل ذلك الرجل الذي يظنه الناس معتوها يتلذذ بالتهكم وشتم النساء وأطفالهن، لأنه لم ينجب. نجدها في قصة (الشباك) 15، وشخصية البحار الذي يتلذذ بتعذيب عماله الأجانب، لأنه ضحية أب قاسي القلب في قصة (قلب شقي) 26، وشخصية الزوجة التي طلبت الطلاق لأنها ملت من حياة الأسرة، رغم العيشة المرفهة، في قصة (ثورة القطرس) 45، وشخصية الابن الناقم على العمال الأجانب، لتفضيل والده الأجانب عليه وهو صاحب العلم والشهادة، في (دخان الحقد)51.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك