وفي هذا السياق فإنَّ الأفكار والمؤسسات الطبية، ومنها بطبيعة الحال المؤسسات التي أنشأها الغرب بغرض مقاومة الأمراض الوبائية، ما هي إلا علاقات عن القوة والسيطرة بين الحاكمين والمحكومين، التي تعكس في نهاية الأمر العناصر المكوِّنة للاستعمار. وفي وجهة نظر هؤلاء المؤرخين فإنَّ الإمبريالية كانت أكثر من مجرد مجموعة من الظواهر الاقتصادية والسياسية والعسكرية؛ فهي إيديولوجية مركبة كان لها تعبيرات فكرية وثقافية وتقنية واسعة الانتشار في عهود سيادة أوروبا على العالم؛ فقد تفاعلت الإمبريالية مع المرض والأبحاث الطبية، وبذلك كان الطب نفسه وسيلة رئيسية لنقل الأفكار الإمبريالية وتطبيقاتها. إنَّ العلاقة بين الإمبريالية وطرق مقاومة الأمراض التي كانت أداة للتحكم في الشعوب المستعمَرة أوضحها المؤلف في العنوان الفرعيّ في الكتاب «الطب والقوة والإمبريالية». وفي كتاب «الطب الإمبرياليّ والمجتمعات المحليّة» من تحرير دافيد أرنولد تعرض باحثو هذا الكتاب إلى المرض والطب والإمبراطورية، ومن الفصول المهمة الجدري وطب المستعمرات في الهند في القرن التاسع عشر، والكوليرا وأصول الصحة العامة في الفلبين، والطاعون وتوترات الإمبراطورية: الهند (1896-1918)، وجائحة الإنفلونزا في روديسيا الجنوبية كما أنَّ الناقد البنيوي تودوروف تعرّض للأمراض التي أتى بها المستوطنون الأوروبيون في كتابه «فتح أمريكا ومسألة الآخر». وتناول المنظر ما بعد الكولونياليّ هومي بابا المرض في بعض فصول كتابه المهم «موقع الثقافة».
من أقدم الإبداعات الأدبية الخاصة بأدب الأوبئة والجوائح (الديكاميرون) (1353م) لجيوفاني بوكاتشيو الذي يتضمن مائة حكاية صاخبة ترويها سبع نساء وثلاث رجال على مدى عشرة أيام معزولين في منزل فخم بتوسكاني شمال إيطاليا، وكانوا يسلون أنفسهم بسرد تلك الحكايات المثيرة في الوقت الذي كان فيه الوباء (الطاعون) يفتك بآلاف البشر. وتمثل رواية (الطاعون) للفرنسيّ ألبير كامو واحدة من الروايات المؤثرة عالميا، والمفارقة أنَّ كامو يروي عن وقوع الطاعون في مدينة وهران الجزائرية في الوقت الذي كان فيه الطاعون الفعلي قد ضرب المدينة قبل قرن كامل وليس في زمن كامو. لقد خضعت هذه الرواية بالذات إلى عدد غير قليل من التأويلات الأيديولوجية مثل قراءة رولان بارت لها في تأويل رمزي يحيل إلى وصف النازية بالطاعون، وكذلك القراءة الطباقية للمنظر ما بعد الكولونياليّ إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية»؛ إذ التفت إلى الخطاب الاستعماري في هذه الرواية وإلى هامشية السكان المحلين (الجزائريين) وتغيبهم بتعمد في «كتابة بيضاء استعمارية».
روايات (العمى) لجوزيه ساراماغو، و(الحب في زمن الكوليرا) لغابرييل غارسيا ماركيز، و(إيبولا 76) لأمير تاج السر، و(حكاية العربّي الأخير) لواسيني الأعرج وغيرها من العشرات من الروايات التي تحدثت عن الأوبئة على اختلاف مرجعياتها الإبداعية، ولكن اللافت للانتباه حتى الآن هو أننا نفتقد تلك التنظيرات الفلسفيّة والنقدية الخاصة بهذا النوع من الأدب. ومن الصعب جدًا أن نتحدث الآن، على سبيل المثال، عن أدب خاص بجائحة كورونا؛ فالأعمال الإبداعية الكبرى في عمر البشرية قد تخلَّقت إمّا قبل الجوائح وإمّا بعدها بزمن طويل. في رواية (الطاعون) لألبير كامو غران أحد أبطال الرواية كان يعد بكتابة رواية جميلة، غير أننا نكتشف في نهاية الرواية أنها لم تتجاوز العبارة الأولى التي أعاد نسخها خمسين مرة من دون أن تكتمل القصة لتكون تعبيرًا عن صعوبة التفكير والإبداع في زمن لا يستطيع فيه العقل البشري التفكير في النجاة لا غير!
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك