العدد : ١٧١١٦ - السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١١٦ - السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شعبان ١٤٤٦هـ

الثقافي

سرديات: الأمراض والجوائح الكونية! 2-2

بقلم: الدكتورة ضياء عبدالله الكعبيّ

السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬فإنَّ‭ ‬الأفكار‭ ‬والمؤسسات‭ ‬الطبية،‭ ‬ومنها‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬المؤسسات‭ ‬التي‭ ‬أنشأها‭ ‬الغرب‭ ‬بغرض‭ ‬مقاومة‭ ‬الأمراض‭ ‬الوبائية،‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬إلا‭ ‬علاقات‭ ‬عن‭ ‬القوة‭ ‬والسيطرة‭ ‬بين‭ ‬الحاكمين‭ ‬والمحكومين،‭ ‬التي‭ ‬تعكس‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الأمر‭ ‬العناصر‭ ‬المكوِّنة‭ ‬للاستعمار‭. ‬وفي‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬هؤلاء‭ ‬المؤرخين‭ ‬فإنَّ‭ ‬الإمبريالية‭ ‬كانت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مجرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الظواهر‭ ‬الاقتصادية‭ ‬والسياسية‭ ‬والعسكرية؛‭ ‬فهي‭ ‬إيديولوجية‭ ‬مركبة‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬تعبيرات‭ ‬فكرية‭ ‬وثقافية‭ ‬وتقنية‭ ‬واسعة‭ ‬الانتشار‭ ‬في‭ ‬عهود‭ ‬سيادة‭ ‬أوروبا‭ ‬على‭ ‬العالم؛‭ ‬فقد‭ ‬تفاعلت‭ ‬الإمبريالية‭ ‬مع‭ ‬المرض‭ ‬والأبحاث‭ ‬الطبية،‭ ‬وبذلك‭ ‬كان‭ ‬الطب‭ ‬نفسه‭ ‬وسيلة‭ ‬رئيسية‭ ‬لنقل‭ ‬الأفكار‭ ‬الإمبريالية‭ ‬وتطبيقاتها‭. ‬إنَّ‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬الإمبريالية‭ ‬وطرق‭ ‬مقاومة‭ ‬الأمراض‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬أداة‭ ‬للتحكم‭ ‬في‭ ‬الشعوب‭ ‬المستعمَرة‭ ‬أوضحها‭ ‬المؤلف‭ ‬في‭ ‬العنوان‭ ‬الفرعيّ‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬‮«‬الطب‭ ‬والقوة‭ ‬والإمبريالية‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الطب‭ ‬الإمبرياليّ‭ ‬والمجتمعات‭ ‬المحليّة‮»‬‭ ‬من‭ ‬تحرير‭ ‬دافيد‭ ‬أرنولد‭ ‬تعرض‭ ‬باحثو‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬إلى‭ ‬المرض‭ ‬والطب‭ ‬والإمبراطورية،‭ ‬ومن‭ ‬الفصول‭ ‬المهمة‭ ‬الجدري‭ ‬وطب‭ ‬المستعمرات‭ ‬في‭ ‬الهند‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬والكوليرا‭ ‬وأصول‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬في‭ ‬الفلبين،‭ ‬والطاعون‭ ‬وتوترات‭ ‬الإمبراطورية‭: ‬الهند‭ (‬1896-1918‭)‬،‭ ‬وجائحة‭ ‬الإنفلونزا‭ ‬في‭ ‬روديسيا‭ ‬الجنوبية‭ ‬كما‭ ‬أنَّ‭ ‬الناقد‭ ‬البنيوي‭ ‬تودوروف‭ ‬تعرّض‭ ‬للأمراض‭ ‬التي‭ ‬أتى‭ ‬بها‭ ‬المستوطنون‭ ‬الأوروبيون‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬فتح‭ ‬أمريكا‭ ‬ومسألة‭ ‬الآخر‮»‬‭. ‬وتناول‭ ‬المنظر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليّ‭ ‬هومي‭ ‬بابا‭ ‬المرض‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬فصول‭ ‬كتابه‭ ‬المهم‭ ‬‮«‬موقع‭ ‬الثقافة‮»‬‭. ‬

من‭ ‬أقدم‭ ‬الإبداعات‭ ‬الأدبية‭ ‬الخاصة‭ ‬بأدب‭ ‬الأوبئة‭ ‬والجوائح‭ (‬الديكاميرون‭) (‬1353م‭) ‬لجيوفاني‭ ‬بوكاتشيو‭ ‬الذي‭ ‬يتضمن‭ ‬مائة‭ ‬حكاية‭ ‬صاخبة‭ ‬ترويها‭ ‬سبع‭ ‬نساء‭ ‬وثلاث‭ ‬رجال‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬معزولين‭ ‬في‭ ‬منزل‭ ‬فخم‭ ‬بتوسكاني‭ ‬شمال‭ ‬إيطاليا،‭ ‬وكانوا‭ ‬يسلون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بسرد‭ ‬تلك‭ ‬الحكايات‭ ‬المثيرة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الوباء‭ (‬الطاعون‭) ‬يفتك‭ ‬بآلاف‭ ‬البشر‭. ‬وتمثل‭ ‬رواية‭ (‬الطاعون‭) ‬للفرنسيّ‭ ‬ألبير‭ ‬كامو‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬المؤثرة‭ ‬عالميا،‭ ‬والمفارقة‭ ‬أنَّ‭ ‬كامو‭ ‬يروي‭ ‬عن‭ ‬وقوع‭ ‬الطاعون‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬وهران‭ ‬الجزائرية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬الطاعون‭ ‬الفعلي‭ ‬قد‭ ‬ضرب‭ ‬المدينة‭ ‬قبل‭ ‬قرن‭ ‬كامل‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬كامو‭. ‬لقد‭ ‬خضعت‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬بالذات‭ ‬إلى‭ ‬عدد‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬التأويلات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬مثل‭ ‬قراءة‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬رمزي‭ ‬يحيل‭ ‬إلى‭ ‬وصف‭ ‬النازية‭ ‬بالطاعون،‭ ‬وكذلك‭ ‬القراءة‭ ‬الطباقية‭ ‬للمنظر‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الكولونياليّ‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الثقافة‭ ‬والإمبريالية»؛‭ ‬إذ‭ ‬التفت‭ ‬إلى‭ ‬الخطاب‭ ‬الاستعماري‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬وإلى‭ ‬هامشية‭ ‬السكان‭ ‬المحلين‭ (‬الجزائريين‭) ‬وتغيبهم‭ ‬بتعمد‭ ‬في‭ ‬‮«‬كتابة‭ ‬بيضاء‭ ‬استعمارية‮»‬‭.‬

روايات‭ (‬العمى‭) ‬لجوزيه‭ ‬ساراماغو،‭ ‬و‭(‬الحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكوليرا‭) ‬لغابرييل‭ ‬غارسيا‭ ‬ماركيز،‭ ‬و‭(‬إيبولا‭ ‬76‭) ‬لأمير‭ ‬تاج‭ ‬السر،‭ ‬و‭(‬حكاية‭ ‬العربّي‭ ‬الأخير‭) ‬لواسيني‭ ‬الأعرج‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬العشرات‭ ‬من‭ ‬الروايات‭ ‬التي‭ ‬تحدثت‭ ‬عن‭ ‬الأوبئة‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬مرجعياتها‭ ‬الإبداعية،‭ ‬ولكن‭ ‬اللافت‭ ‬للانتباه‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬نفتقد‭ ‬تلك‭ ‬التنظيرات‭ ‬الفلسفيّة‭ ‬والنقدية‭ ‬الخاصة‭ ‬بهذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الأدب‭. ‬ومن‭ ‬الصعب‭ ‬جدًا‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬الآن،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬خاص‭ ‬بجائحة‭ ‬كورونا؛‭ ‬فالأعمال‭ ‬الإبداعية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬البشرية‭ ‬قد‭ ‬تخلَّقت‭ ‬إمّا‭ ‬قبل‭ ‬الجوائح‭ ‬وإمّا‭ ‬بعدها‭ ‬بزمن‭ ‬طويل‭. ‬في‭ ‬رواية‭ (‬الطاعون‭) ‬لألبير‭ ‬كامو‭ ‬غران‭ ‬أحد‭ ‬أبطال‭ ‬الرواية‭ ‬كان‭ ‬يعد‭ ‬بكتابة‭ ‬رواية‭ ‬جميلة،‭ ‬غير‭ ‬أننا‭ ‬نكتشف‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الرواية‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬العبارة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أعاد‭ ‬نسخها‭ ‬خمسين‭ ‬مرة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكتمل‭ ‬القصة‭ ‬لتكون‭ ‬تعبيرًا‭ ‬عن‭ ‬صعوبة‭ ‬التفكير‭ ‬والإبداع‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬فيه‭ ‬العقل‭ ‬البشري‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬النجاة‭ ‬لا‭ ‬غير‭!‬

 

{  أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا