العدد : ١٧١١٦ - السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شعبان ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١١٦ - السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٢ شعبان ١٤٤٦هـ

الثقافي

ما بين المثالية الكانتية والواقعية الغابرييلية :
قراءة في مجموعة (وصال وستائر لا يبللها ماء) للكاتب السعودي حسن علي البطران 

السبت ٠١ فبراير ٢٠٢٥ - 02:00

‮«‬الكِتابة‭ ‬كينونة‭ ‬مستقلة،‭ ‬فهي‭ ‬لا‭ ‬تخضع‭ ‬في‭ ‬وجودها‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬قارئها‭ ‬وشروطه،‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬كاتبها‭ ‬ومحيطه‮»‬‭ ‬رولان‭ ‬بارت‭.‬

القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬الفنون‭ ‬الأدبية‭ ‬الدقيقة‭ ‬بأسلوبها‭ ‬ومداركها‭ ‬الفلسفية،‭ ‬مكثفة‭ ‬لغويا،‭ ‬متسعة‭ ‬فكرياً،‭ ‬يصعب‭ ‬كتابتها‭ ‬مثلما‭ ‬يصعب‭ ‬هدم‭ ‬أفكارها‭ ‬وتكسير‭ ‬عصارة‭ ‬موضوعاتها‭. ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬جدا‭ ‬هي‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬أسلوب‭ ‬فلسفي‭ ‬تزخم‭ ‬باللغة‭ ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ ‬لدى‭ ‬بعض‭ ‬الكتاب‭ ‬بمدرسة‭ ‬فكرية‭ ‬تبنى‭ ‬عليها‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬نظام‭ ‬قصصي‭ ‬متزن؛‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتعامل‭ ‬معها‭ ‬الكاتب‭ ‬حسن‭ ‬علي‭ ‬البطران‭ ‬في‭ ‬مشروعه‭ ‬الأدبي‭ ‬الإنساني‭. ‬الكِتابة‭ ‬عند‭ ‬حسن‭ ‬هي‭ ‬كِتابة‭ ‬ثرّة‭.. ‬فلوت‭.. ‬جموح‭.‬‮ ‬

يضعنا‭ ‬الكاتب‭ ‬في‭ ‬مجموعته‭ ‬‮«‬وصال‭ ‬وستائر‭ ‬لا‭ ‬يبللها‭ ‬ماء»؛‭ ‬التي‭ ‬بمثابة‭ ‬قمة‭ ‬نوعية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الانعكاس‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي‭ ‬وما‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬وقضايا‭ ‬الحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬بفوضيتها،‭ ‬جمالها‭ ‬وقبحها،‭ ‬سعادتها‭ ‬وحزنها‭. ‬كما‭ ‬نلاحظ‭ ‬أيضا‭ ‬عبقرية‭ ‬حسن‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬القصة،‭ ‬فهو‭ ‬أحيانا‭ ‬يلعب‭ ‬باللغة‭ ‬ويعطي‭ ‬إحساس‭ ‬الحياة؛‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تخرج‭ ‬في‭ ‬الأغلب‭ ‬عن‭ ‬واقعية‭ ‬الأدوار وما‭ ‬يحيط‭ ‬بها‭.‬

يستعمل‭ ‬الكاتب‭ ‬أسلوب‭ ‬نادر‭ ‬تتسم‭ ‬بالبراءة‭ ‬في‭ ‬بعضها‭ ‬وفي‭ ‬أحيان‭ ‬أخرى‭ ‬بتقنية‭ ‬يتم‭ ‬تدريبها‭ ‬بواسطة‭ ‬اللغة‭ ‬كأداة‭ ‬زينة‭ ‬فقط‭ ‬اللغة‭ ‬هنا؛‭ ‬أبلغ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬كلمات‭ ‬وعبارات‭ ‬مفتاحية‭ ‬بل‭ ‬أداة‭ ‬فلسفية‭ ‬تتعمق‭ ‬في‭ ‬المخيلة‭ ‬فتنشأ‭ ‬أفكار‭ ‬ووقائع‭ ‬وحيواتْ‭ ‬تعمل‭ ‬على‭ ‬تكتيك‭ ‬عذب،‭ ‬ديناميكية‭ ‬منتظمة‭ ‬لحركة‭ ‬الوجود،‭ ‬ويتم‭ ‬ترتيبها‭ ‬وتوزيعها‭ ‬أشبه‭ ‬بالغنوصية‭ ‬لنضج‭ ‬موضوعاتها‭ ‬وتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬أفكارها‭. ‬في‭ ‬‮«‬وصال‭ ‬وستائر‭ ‬لا‭ ‬يبللها‭ ‬ماء‮»‬‭ ‬امتزجت‭ ‬أفكارها‭ ‬الفلسفية‭ ‬بالواقعية‭ ‬الأدبية‭ ‬وثراء‭ ‬النثر‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬ظهور‭ ‬ديالكتيك‭ ‬منتظم‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬اللغة‭ ‬داخلها،‭ ‬يمكن‭ ‬وصفها‭ ‬بأنها‭ ‬وضعت‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬بما‭ ‬يتوجب‭ ‬على‭ ‬الأبيستيمولوجي‭ ‬فهمه‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬وما‭ ‬تخلق‭ ‬لديه‭ ‬من‭ ‬رؤى‭ ‬وفلسفات‭. ‬هذه‭ ‬المثالية‭ ‬التي‭ ‬تطرأ‭ ‬على‭ ‬صفحاتها‭ ‬جعلتني‭ ‬استبق‭ ‬فلسفة‭ ‬كانط؛‭ ‬إفراط‭ ‬المثالية‭ ‬في‭ ‬تبريره‭ ‬للحياة‭ ‬الإنسانية‭ ‬وما‭ ‬يحاوطها،‭ ‬هنا‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬‮«‬وصال‭ ‬وستائر‭ ‬لا‭ ‬يبللها‭ ‬ماء‮»‬‭ ‬استخدم‭ ‬الكاتب‭ ‬أسلوب‭ ‬مدهش‭ ‬في‭ ‬تعرية‭ ‬الواقع‭ ‬الإنساني،‭ ‬الطبيعة‭ ‬والأفكار‭ ‬والقضايا‭ ‬بلغة‭ ‬فلسفية‭ ‬عميقة،‭ ‬كأنما‭ ‬الكاتب‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬إنسان‭ ‬معين‭ ‬ليملي‭ ‬عليه‭ ‬أفكاره‭ ‬وينشأ‭ ‬معه‭ ‬حلقة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬التيه‭ ‬والغياب،‭ ‬وتظهر‭ ‬اللغة‭ ‬في‭ ‬أبعد‭ ‬صورها‭ ‬الشاعرية‭. ‬هذه‭ ‬الثنائية‭ ‬بين‭ ‬المثالية‭ ‬الكانتية‭ ‬والواقعية‭ ‬الغابرييلية‭ ‬أعطت‭ ‬نكهة‭ ‬خاصة‭ (‬بحسب‭ ‬رؤيتي‭) ‬للمجموعة،‭ ‬واتسعت‭ ‬معهما‭ ‬جدلية‭ ‬المزج‭ ‬كأنما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فكرة‭ ‬امتلاك‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الوجود‭ ‬الفردي‭. ‬في‭ ‬البدايات‭ ‬يتناول‭ ‬الكاتب‭ ‬المثالية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الحياة‭ ‬ورؤية‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬نمط‭ ‬مغاير‭ ‬بأفكار‭ ‬عقلانية،‭ ‬مما‭ ‬يعكس‭ ‬الأفكار‭ ‬ذي‭ ‬الطبيعة‭ ‬الذاتية‭ ‬كأنها‭ ‬تتصارع‭ ‬لتبرهن‭ ‬عقلنة‭ ‬الظروف‭ ‬وتأسيس‭ ‬واقع‭ ‬مغاير‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬عليه،‭ ‬عصارة‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‭ ‬التي‭ ‬نفهمها‭ ‬تضعنا‭ ‬أمام‭ ‬مثالية‭ ‬الحياة‭ ‬ومناداتها‭ ‬وتأسيسها‭.‬

وفي‭ ‬المنتصف‭ ‬تتغير‭ ‬الأفكار‭ ‬تدريجياً‭ ‬من‭ ‬المثالية‭ ‬إلى‭ ‬الواقعية‭ ‬الغابرييليّة‭ ‬وبين‭ ‬أسلوب‭ ‬البطران‭ ‬الذي‭ ‬اعتاده‭ ‬القراء‭. ‬نفهم‭ ‬بشكل‭ ‬دقيق‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬بارت‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ (‬هسهسة‭ ‬اللغة‭) ‬‮«‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬الكِتابة‭ ‬يتطلب‭ ‬بالفعل‭ ‬الفكرة‭ ‬التي‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬اللغة‭ ‬نظام‭ ‬واسع‮»‬‭ - ‬يتعامل‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬اللغة‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬بارت،‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬الواسع‭ ‬يتيح‭ ‬خاصة‭ ‬عند‭ ‬حسن‭ ‬تطبيقها‭ ‬فضاء‭ ‬ثري‭ ‬للإبداع،‭ ‬رغم‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأفكار‭ ‬تظهر‭ ‬خدعة‭ ‬بأسلوب‭ ‬مدهش‭ - ‬الخدعة‭ ‬الإبداعية‭ ‬في‭ ‬ظاهر‭ ‬النصوص‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬يشبه‭ ‬التلاعب‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬الحياة‭.‬

أننا‭ ‬إذ‭ ‬نقرأ‭ ‬نطبع‭ ‬فكرة‭ ‬معينة‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬تشكيل‭ ‬فكرة‭ ‬عامة‭ ‬من‭ ‬عصارة‭ ‬قراءتنا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يتساءل‭ ‬كل‭ ‬قارئ‭ ‬للأدب‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬حينما‭ ‬يطالع‭ ‬كتابا‭ ‬ما،‭ ‬أي‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬الخروج‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬بعد‭ ‬القراءة؟‭ ‬هنا‭ ‬تجيب‭ ‬‮«‬وصال‭ ‬وستائر‭ ‬لا‭ ‬يبللها‭ ‬ماء‮»‬‭ ‬بصوت‭ ‬عالي‭ ‬تعطي‭ ‬القصص‭ ‬القصيرة‭ ‬جداً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬حية‭ ‬وتعري‭ ‬العلاقة‭ ‬المنظمة‭ ‬بين‭ ‬النص‭ ‬وخلاصة‭ ‬الأفكار‭ ‬الناشئة‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬القارئ،‭ ‬مما‭ ‬يمنح‭ ‬القارئ‭ ‬المتعة‭ ‬الكامنة‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬والشعور‭ ‬باللذة‭ ‬الناتجة‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬السرد،‭ ‬ويفصح‭ ‬بارت‭ ‬قائلاً‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المتعة‭ ‬أي‭ ‬العلاقة‭ ‬المنظمة‭ ‬بين‭ ‬القارئ‭ ‬والرد‭ ‬التي‮ ‬تجعل‭ ‬من‭ ‬القارئ‮ «‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬المعرفة‭ ‬نفسها‭ ‬والفكرة‭ ‬تستطيعان‭ ‬أن‭ ‬تكونا‭ ‬مرويتين‭ ‬وخاضعتين‭ ‬إلى‭ ‬حركة‭ ‬من‭ ‬حركات‭ ‬الترقب‮»‬‭. ‬تعامل‭ ‬الكاتب‭ ‬مع‭ ‬اللغة‮ ‬بعقلية‭ ‬البنيوية،‭ ‬متجاوزا‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬القديمة‭ ‬مما‭ ‬عمّق‭ ‬الشعور‭ ‬بالفلسفة‭ ‬وإعطاء‭ ‬فرصة‭ ‬للنصوص‭ ‬عن‭ ‬تعبير‭ ‬مكنونها‭ ‬الباطني،‭ ‬وهنا‭ ‬يختفي‭ ‬القارئ‭ ‬فالكِتابة‭ ‬في‭ ‬أبعد‭ ‬تجلياتها‭ ‬هو‭ ‬إخفاء‭ ‬صوت‭ ‬الكاتب‭ ‬حتى‭ ‬يحصل‭ ‬القارئ‭ ‬على‭ ‬كِتابة‭ ‬حلوة،‭ ‬عذبة‭ ‬ومولد‭ ‬حياة‭.‬

{ كاتب‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا