«الكِتابة كينونة مستقلة، فهي لا تخضع في وجودها إلى وجود قارئها وشروطه، ولا حتى كاتبها ومحيطه» رولان بارت.
القصة القصيرة جداً واحدة من الفنون الأدبية الدقيقة بأسلوبها ومداركها الفلسفية، مكثفة لغويا، متسعة فكرياً، يصعب كتابتها مثلما يصعب هدم أفكارها وتكسير عصارة موضوعاتها. القصة القصيرة جدا هي أقرب إلى أسلوب فلسفي تزخم باللغة وتكاد تكون لدى بعض الكتاب بمدرسة فكرية تبنى عليها الحياة على نظام قصصي متزن؛ وهو ما يتعامل معها الكاتب حسن علي البطران في مشروعه الأدبي الإنساني. الكِتابة عند حسن هي كِتابة ثرّة.. فلوت.. جموح.
يضعنا الكاتب في مجموعته «وصال وستائر لا يبللها ماء»؛ التي بمثابة قمة نوعية من حيث الانعكاس الفكري والثقافي وما بها من موضوعات وقضايا الحياة الإنسانية بفوضيتها، جمالها وقبحها، سعادتها وحزنها. كما نلاحظ أيضا عبقرية حسن في كتابة القصة، فهو أحيانا يلعب باللغة ويعطي إحساس الحياة؛ التي لا تخرج في الأغلب عن واقعية الأدوار وما يحيط بها.
يستعمل الكاتب أسلوب نادر تتسم بالبراءة في بعضها وفي أحيان أخرى بتقنية يتم تدريبها بواسطة اللغة كأداة زينة فقط اللغة هنا؛ أبلغ من أن تكون كلمات وعبارات مفتاحية بل أداة فلسفية تتعمق في المخيلة فتنشأ أفكار ووقائع وحيواتْ تعمل على تكتيك عذب، ديناميكية منتظمة لحركة الوجود، ويتم ترتيبها وتوزيعها أشبه بالغنوصية لنضج موضوعاتها وتوسيع نطاق أفكارها. في «وصال وستائر لا يبللها ماء» امتزجت أفكارها الفلسفية بالواقعية الأدبية وثراء النثر أدت إلى ظهور ديالكتيك منتظم في حركة اللغة داخلها، يمكن وصفها بأنها وضعت الذات الإنسانية بما يتوجب على الأبيستيمولوجي فهمه بعيداً عن الأيديولوجية وما تخلق لديه من رؤى وفلسفات. هذه المثالية التي تطرأ على صفحاتها جعلتني استبق فلسفة كانط؛ إفراط المثالية في تبريره للحياة الإنسانية وما يحاوطها، هنا أي في «وصال وستائر لا يبللها ماء» استخدم الكاتب أسلوب مدهش في تعرية الواقع الإنساني، الطبيعة والأفكار والقضايا بلغة فلسفية عميقة، كأنما الكاتب يبحث عن إنسان معين ليملي عليه أفكاره وينشأ معه حلقة وصل بين التيه والغياب، وتظهر اللغة في أبعد صورها الشاعرية. هذه الثنائية بين المثالية الكانتية والواقعية الغابرييلية أعطت نكهة خاصة (بحسب رؤيتي) للمجموعة، واتسعت معهما جدلية المزج كأنما أن هناك فكرة امتلاك نوعا من الوجود الفردي. في البدايات يتناول الكاتب المثالية من حيث الحياة ورؤية الطبيعة البشرية وما يصاحبها من نمط مغاير بأفكار عقلانية، مما يعكس الأفكار ذي الطبيعة الذاتية كأنها تتصارع لتبرهن عقلنة الظروف وتأسيس واقع مغاير عما هو عليه، عصارة القصة القصيرة جداً التي نفهمها تضعنا أمام مثالية الحياة ومناداتها وتأسيسها.
وفي المنتصف تتغير الأفكار تدريجياً من المثالية إلى الواقعية الغابرييليّة وبين أسلوب البطران الذي اعتاده القراء. نفهم بشكل دقيق من ذلك كما أشار بارت في كتابه (هسهسة اللغة) «أن مفهوم الكِتابة يتطلب بالفعل الفكرة التي تقول إن اللغة نظام واسع» - يتعامل الكاتب مع اللغة كما أشار إليها بارت، هذا النظام الواسع يتيح خاصة عند حسن تطبيقها فضاء ثري للإبداع، رغم أنه في بعض الأفكار تظهر خدعة بأسلوب مدهش - الخدعة الإبداعية في ظاهر النصوص قبل أن تتحول إلى واقع يشبه التلاعب في ذاكرة الحياة.
أننا إذ نقرأ نطبع فكرة معينة عن كيفية تشكيل فكرة عامة من عصارة قراءتنا، وهو ما يتساءل كل قارئ للأدب بشكل خاص حينما يطالع كتابا ما، أي الأفكار التي يمكن الخروج بها من بعد القراءة؟ هنا تجيب «وصال وستائر لا يبللها ماء» بصوت عالي تعطي القصص القصيرة جداً من أجل أن تكون حية وتعري العلاقة المنظمة بين النص وخلاصة الأفكار الناشئة في ذهن القارئ، مما يمنح القارئ المتعة الكامنة في اللغة والشعور باللذة الناتجة مع كل السرد، ويفصح بارت قائلاً عن هذه المتعة أي العلاقة المنظمة بين القارئ والرد التي تجعل من القارئ «لا ينسى أن المعرفة نفسها والفكرة تستطيعان أن تكونا مرويتين وخاضعتين إلى حركة من حركات الترقب». تعامل الكاتب مع اللغة بعقلية البنيوية، متجاوزا الكلاسيكية القديمة مما عمّق الشعور بالفلسفة وإعطاء فرصة للنصوص عن تعبير مكنونها الباطني، وهنا يختفي القارئ فالكِتابة في أبعد تجلياتها هو إخفاء صوت الكاتب حتى يحصل القارئ على كِتابة حلوة، عذبة ومولد حياة.
{ كاتب من السودان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك