اللغة هي تلك الخيوط غير المرئية التي تربط أرواحنا ببعضها البعض، وتعيد نسج ذاكرتنا. في كل حرف تنبض اللغة بحياة تحملنا إلى ماضينا، وتعكس حاضرنا، وترسم معالم مستقبلنا. عندما نلفظ كلمة بلغتنا الأم، لا نشعر بأنها مجرد صوت، بل إحساسٌ عميق بالانتماء، كأننا نعود إلى أحضان أمنا الأولى، إلى دفء البيت ورائحة الخبز الطازج في صباحٍ شتوي.
كل لغة في هذا العالم هي قصة فريدة تنقل تجارب الإنسان على مر العصور. هي التي توثق أفراحنا وأحزاننا، انتصاراتنا وهزائمنا. عندما نتحدث عن لغتنا، فإننا نتحدث عن نبض قلوبنا، عن تلك اللحظات التي تجمعنا مع أحبائنا. إن الحفاظ على اللغة هو صلةٌ تربطنا بجذورنا العميقة، وبإرثنا الذي نود أن نقدمه للأجيال القادمة.
لغتنا العربية، بثروتها وعمقها، كانت ومازالت إحدى الأدوات الرئيسية في تشكيل حضارتنا العربية والإسلامية. وكما قال الإمام الشافعي: «لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا» لكن اليوم، تواجه العربية تحديات عدة، وخصوصا مع انتشار اللغات الأجنبية في مجالات التعليم والإعلام. نشهد تعليم مختلف المواد بلغات أخرى، مما يضعف العلاقة بين الشباب ولغتهم الأم.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن نسبة المحتوى العربي على الإنترنت لا تتجاوز 1% من إجمالي المحتوى الرقمي العالمي، رغم أن الناطقين باللغة العربية يشكلون حوالي 5% من سكان العالم. هذا التفاوت الكبير يسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى زيادة المحتوى الرقمي العربي. في سياق التعليم الإلكتروني، أظهرت إحصائيات أن استخدام التطبيقات التعليمية باللغة العربية شهد ارتفاعًا بنسبة 20% خلال السنوات الخمس الماضية، وخاصة في مجالات تعليم الأطفال والتعلم الذاتي.
علاوة على ذلك، تبين أن حوالي 70% من الطلاب العرب الذين يستخدمون منصات التعليم الإلكتروني يفضلون التعلم بلغتهم الأم إذا توافرت الموارد الكافية، مما يعزز أهمية الاستثمار في تطوير المحتوى العربي الرقمي.
نحن نعيش في عصر رقمي متسارع، وقد ظهرت العديد من المنصات التي تتيح لنا فرصة جديدة لتعزيز اللغة العربية بطرق حديثة.
على سبيل المثال، منصات التعليم الإلكتروني مثل «رواق» و«إدراك» أصبحت تقدم مجموعة من الدورات المتنوعة باللغة العربية، مما يتيح للطلاب فرصة تعلم العلوم والآداب بلغتهم الأم. أما التطبيقات الموجهة للأطفال، مثل «لمسة» و«أبجد»، فهي تسهم في غرس حب اللغة في نفوس الجيل الجديد بطريقة ممتعة وتفاعلية.
تجارب دول مثل اليابان وفرنسا تعطينا مثالا حيا على أن الحفاظ على الهوية اللغوية ليس مستحيلا. رغم انتشار العولمة، تمكنت هذه الدول من تعزيز لغاتها بفضل سياسات تعليمية واعية تركز على استخدام اللغة الأم في كل المجالات. مثلا، وضعت فرنسا قوانين صارمة تحد من هيمنة الإنجليزية في الإعلام والتعليم، وهو ما ساعد في الحفاظ على قوة اللغة الفرنسية عالميا.
في اليابان، وضعت سياسات تعزز استخدام اليابانية في التكنولوجيا والتعليم، لتصبح اللغة جزءًا من حياة الناس اليومية، وليس مجرد وسيلة للتواصل. نحن في العالم العربي، نستطيع الاستفادة من هذه التجارب، عبر وضع سياسات تعليمية تضمن استخدام اللغة العربية في المراحل التعليمية كافة، وتشجيع إنشاء محتوى عربي على الإنترنت بواسطة التكنولوجيا المتقدمة.
بالرغم من التحديات، بدأت تظهر مبادرات مشجعة لدعم اللغة العربية. بعض العائلات أصبحت تعي أهمية غرس مهارات اللغة العربية لدى أبنائها، خاصة مع وجود فجوات في بعض المناهج التعليمية. وفي المقابل، نرى مراكز تعليمية جديدة تعتمد أساليب إبداعية لجعل تعلم اللغة العربية ممتعا وشيقا للأطفال.
من جهة أخرى، تنشط مبادرات تهدف إلى إحياء الإبداع باللغة العربية، مثل مبادرة «نكتب بالعربية» في البحرين، التي أعلنها بنك البحرين الإسلامي بالتعاون مع وزارة الإعلام ووزارة التربية والتعليم، بالإضافة إلى أسرة الأدباء والكتاب، وشركة فيزا العالمية الرائدة في مجال المدفوعات الرقمية، مما يشكل نموذجا ناجحا لدعم الشباب في التعبير بلغتهم الأم وتعزيز ارتباطهم بهويتهم الثقافية.
لا يعني التمسك باللغة العربية أننا ضد تعلم اللغات الأخرى. على العكس، تعلم لغات متعددة يفتح لنا آفاقًا جديدة ويعزز قدرتنا على التواصل مع العالم.
اللغات الأجنبية تمكننا من الانفتاح على ثقافات متنوعة والاستفادة من معارفها. ومع ذلك، يجب أن نحافظ على ارتباطنا الوثيق بلغتنا الأم، لأنها تمثل جذورنا.
إن التعددية اللغوية ليست تهديدًا للعربية، بل يمكن أن تسهم في إثراء مكانتها إذا توازنت مع الاهتمام الكافي بتطوير اللغة العربية في مجالات التعليم والإعلام.
في الختام، لا يمكننا أن نغفل أهمية اللغة العربية كإرث تاريخي وكجزء من هويتنا الحاضرة. إن العربية تتنفس وتعيش مع كل جيل جديد، وهي بحاجة إلى جهودنا المشتركة للحفاظ عليها وتطويرها. والسؤال الذي يجب أن نطرحه الآن: كيف نمنح لغتنا الأدوات التي تحتاج إليها لتبقى راسخة في عقول وقلوب الأجيال القادمة؟ كيف نعيد إليها قوتها لتكون منارةً تضيء لنا طريق المستقبل؟
التكنولوجيا، بكل تطوراتها السريعة، ليست عدوًا للغة العربية بل شريكا قويا لتعزيز حضورها في العالم الرقمي. باستخدام الأدوات الحديثة والمبادرات المبتكرة، يمكننا تحويل التحديات إلى فرص والمحافظة على لغتنا كجزء أساسي من هويتنا. إذ تضافرت جهود الأفراد والمؤسسات، ستظل اللغة العربية نابضة بالحياة وقادرة على مواكبة التغيرات التكنولوجية، مما يجعلها مصدر فخر للأجيال القادمة.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك