العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

علاقتي بأوباما ونميري

لم‭ ‬أخف‭ ‬قط‭ ‬إعجابي‭ ‬بالرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأسبق‭ ‬باراك‭ ‬أوباما،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬لأسباب‭ ‬‮«‬عرقية‮»‬،‭ ‬ولكن‭ ‬بمنطق‭ ‬‮«‬حنانيك‭ ‬بعض‭ ‬الشر‭ ‬أهون‭ ‬من‭ ‬بعض‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬سيأتون‭ ‬بعده‭ ‬سيكونون‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬أكثر‭ ‬شرا‭ ‬ودموية‭ ‬و‮«‬حُشرية‮»‬‭ ‬منه،‭ ‬وكم‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬أن‭ ‬أوباما‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬منصبه‭ ‬خمس‭ ‬أو‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬أخرى،‭ ‬ولو‭ ‬جعلني‭ ‬مستشارا‭ ‬له‭ ‬فترة‭ ‬قصيرة،‭ ‬لشرحت‭ ‬له‭ ‬كيف‭ ‬يفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الحكم‭ ‬ولايتين‭ ‬فقط،‭ ‬انتهت‭ ‬آخرتهما‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2016،‭ ‬كما‭ ‬ينص‭ ‬الدستور‭ ‬الأمريكي‭ ‬الحالي،‭ ‬فالرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬هو‭ ‬القائد‭ ‬الأعلى‭ ‬للقوات‭ ‬المسلحة،‭ ‬وكان‭ ‬بإمكان‭ ‬أوباما‭ ‬تحريك‭ ‬تلك‭ ‬القوات‭ ‬وإعلان‭ ‬حالة‭ ‬الطوارئ،‭ ‬ثم‭ ‬تعديل‭ ‬الدستور،‭ ‬استجابة‭ ‬لرغبة‭ ‬الجمهور،‭ ‬بحيث‭ ‬يصبح‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يحكم‭ ‬ثلاثا‭ ‬ورباعا‭.‬

خلال‭ ‬سنوات‭ ‬حكمه‭ ‬للسودان،‭ ‬ركبت‭ ‬الرئيس‭ ‬المشير‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬العفاريت‭ ‬وقال‭: ‬إما‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬أو‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد،‭ ‬وزج‭ ‬بي‭ ‬في‭ ‬السجن،‭ ‬ثم‭ ‬فصلني‭ ‬من‭ ‬عملي،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬له‭ ‬ضغينة،‭ ‬بل‭ ‬أسديت‭ ‬له‭ ‬خدمة‭ ‬جليلة‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬الرئاسة،‭ ‬وحسب‭ ‬نميري‭ ‬أنه‭ ‬سيبهدلني‭ ‬بإدخالي‭ ‬السجن،‭ ‬وفات‭ ‬عليه‭ ‬أنه‭ ‬أسدى‭ ‬إلي‭ ‬خدمة‭ ‬جليلة‭ ‬بتحويلي‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬مناضل‮»‬،‭ ‬فبعت‭ ‬ذكرياتي‭ ‬في‭ ‬السجن‭ ‬إلى‭ ‬الصحف‭ ‬في‭ ‬سلسلة‭ ‬مقالات‭ ‬بالعملة‭ ‬الصعبة‭ ‬التي‭ ‬أودعتها‭ ‬في‭ ‬بنوك‭ ‬في‭ ‬جزر‭ ‬البهايما‭ (‬هذه‭ ‬غير‭ ‬البهاما‭).‬

نميري‭ ‬فعل‭ ‬بي‭ ‬ما‭ ‬فعل‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدري‭ ‬أنني‭ ‬أسديت‭ ‬إليه‭ ‬خدمة‭ ‬جليلة‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬الرئاسة‭ (‬ترشيح‭ ‬نفسه‭ ‬ضد‭ ‬نفسه‭ ‬باعتبار‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬شخص‭ ‬غيره‭ ‬مؤهلا‭ ‬للمنصب‭): ‬كنت‭ ‬مدرساً‭ ‬في‭ ‬مدرسة‭ ‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬الثانوية،‭ ‬وتقرر‭ ‬تعطيل‭ ‬الدراسة‭ ‬لاستخدام‭ ‬المدارس‭ ‬كمراكز‭ ‬انتخابية،‭ ‬وتحويل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المدرسين‭ ‬إلى‭ ‬ضباط‭ ‬انتخابات‭. ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬ضمن‭ ‬أولئك‭ ‬الضباط‭ ‬فإنني‭ ‬كنت‭ ‬أذهب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬يومياً‭ ‬لأن‭ ‬اللجنة‭ ‬العليا‭ ‬للانتخابات‭ ‬كانت‭ ‬تزود‭ ‬مراكز‭ ‬الاقتراع‭ ‬المزعومة‭ ‬بوجبات‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬النجوم‭ ‬الخمس،‭ ‬وهكذا‭ ‬كنت‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬حصتي‭ ‬من‭ ‬الدخل‭ ‬القومي‭ ‬طعاماً‭ ‬كنت‭ ‬أحسب‭ ‬قبلها‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬التي‭ ‬أعدت‭ ‬للمتقين،‭ ‬وأتسامر‭ ‬مع‭ ‬زملائي‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يحس‭ ‬أحد‭ ‬بوجودهم‭.‬

وفي‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬للاقتراع‭ ‬دب‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬نفوس‭ ‬ضباط‭ ‬الانتخابات،‭ ‬لأن‭ ‬ورقة‭ ‬اقتراع‭ ‬واحدة‭ ‬لم‭ ‬تدخل‭ ‬صناديقهم‭. ‬ماذا‭ ‬يفعلون‭ ‬ومن‭ ‬المفروض‭ ‬أن‭ ‬يفوز‭ ‬نميري‭ ‬بالنسبة‭ ‬العربية‭ ‬المعتادة‭ ‬مع‭ ‬إضفاء‭ ‬بعض‭ ‬المصداقية‭ ‬على‭ ‬النتيجة،‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بإجراء‭ ‬إحصاء‭ ‬ولو‭ ‬شكلي‭ ‬للأصوات‭. ‬وبوصفي‭ ‬خبيراً‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬السياسة‭ ‬العربية‭ ‬طلبت‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يتركوا‭ ‬أمر‭ ‬انتخاب‭ ‬الرجل‭ ‬رئيساً‭ ‬لي،‭ ‬وأمسكت‭ ‬بأحد‭ ‬دفاتر‭ ‬الاقتراع‭ ‬وملأت‭ ‬أوراقه‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬نعم‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬عبأت‭ ‬أوراق‭ ‬دفتر‭ ‬آخر‭ ‬بـ«لا‮»‬‭ ‬وكتبت‭ ‬بخط‭ ‬يدي‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬لاعم‮»‬‭ ‬أي‭ ‬كوكتيل‭ ‬من‭ ‬‮«‬نعم‮»‬‭ ‬و«لا‮»‬‭ ‬في‭ ‬مئات‭ ‬البطاقات‭ ‬ثم‭ ‬كسرت‭ ‬قفل‭ ‬صندوق‭ ‬الاقتراع‭ ‬وحشوته‭ ‬بدفاتر‭ ‬كاملة‭ ‬الدسم‭ ‬أوراقها‭ ‬بيضاء‭. ‬ويا‭ ‬للسعادة‭! ‬فاز‭ ‬نميري‭ ‬بمجموع‭ ‬يؤهله‭ ‬لدخول‭ ‬‮«‬الطب‮»‬،‭ ‬ونال‭ ‬زملائي‭ ‬مبالغ‭ ‬ضخمة‭ ‬كحوافز‭ ‬على‭ ‬اشتراكهم‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬ولما‭ ‬طالبتهم‭ ‬بعمولتي‭ ‬قالوا‭: ‬يكفيك‭ ‬الأكل‭ ‬البلاش‭ ‬الذي‭ ‬التهمته‭ ‬طوال‭ ‬أسبوع‭.‬

وكما‭ ‬ذكرت‭ ‬في‭ ‬زاوية‭ ‬سابقة‭ ‬فإنني‭ ‬أدين‭ ‬لنميري‭ ‬بعد‭ ‬الله‭ ‬بالفضل‭ ‬لأنه‭ ‬دفعني‭ ‬إلى‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬السودان،‭ ‬ففي‭ ‬فترة‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬وزير‭ ‬التربية‭ ‬غائباً‭ ‬أصبح‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬مسؤولاً‭ ‬عن‭ ‬الوزارة‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬يوم‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬وكيل‭ ‬الوزارة‭ ‬إنهاء‭ ‬خدمات‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬اسمه‭ ‬جعفر؟‭ ‬ولأن‭ ‬الوكيل‭ ‬كان‭ ‬بيروقراطياً‭ ‬بعقل‭ ‬حمار‭ ‬فقد‭ ‬أصدر‭ ‬بياناً‭ ‬أنهى‭ ‬فيه‭ ‬خدماتي‭ ‬ومعي‭ ‬بضعة‭ ‬جعافر‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬جعفر‭ ‬نميري،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬ينتهي‭ ‬اليوم‭ ‬كان‭ ‬الوكيل‭ ‬معنا‭ ‬في‭ ‬كشف‭ ‬المطرودين‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬وقد‭ ‬فتحها‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬يومها‭ ‬وأصبح‭ ‬تاجر‭ ‬أسماك‭ ‬بينما‭ ‬عاش‭ ‬نميري‭ ‬حتى‭ ‬مماته‭ ‬عالة‭ ‬على‭ ‬دافع‭ ‬الضرائب‭ ‬السوداني‭.‬

المهم‭ ‬أنهى‭ ‬نميري‭ ‬خدماتي‭ ‬كمدرس‭ ‬فهاجرت‭ ‬وصرت‭ ‬خبيراً‭ ‬أجنبياً‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ (‬هل‭ ‬فهمتم‭ ‬لماذا‭ ‬ألت‭ ‬وأعجن‭ ‬حول‭ ‬كوني‭ ‬نوبياً؟‭ ‬كي‭ ‬يحق‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أزعم‭ ‬بأنني‭ ‬‮«‬أجنبي‮»‬‭. ‬والعرب‭ ‬لا‭ ‬يعتبرون‭ ‬من‭ ‬ينتمي‭ ‬إليهم‭ ‬بدرجة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬خبيراً‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬يتقن‭ ‬المهنة‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا