العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عندما يمكر الصغار (1)

أحد‭ ‬أمتع‭ ‬الأفلام‭ ‬الأمريكية‭ ‬يحمل‭ ‬اسم‭ ‬هوم‭ ‬ألون‭ (‬أي‭ ‬بمفرده‭ ‬في‭ ‬البيت‭) ‬من‭ ‬إخراج‭ ‬كريس‭ ‬كولمبس،‭ ‬وقام‭ ‬ببطولته‭ ‬مكولكي‭ ‬كولكن‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬العاشرة‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬ويحكي‭ ‬قصة‭ ‬عائلة‭ ‬أمريكية‭ ‬تتألف‭ ‬من‭ ‬11‭ ‬أخا‭ ‬واختا‭ ‬كانوا‭ ‬متوجهين‭ ‬بالطائرة‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬الكريسماس‭ ‬وفي‭ ‬زحمة‭ ‬الأشياء،‭ ‬نسوا‭ ‬ولدهم‭ ‬الصغير‭ ‬في‭ ‬البيت‭.‬

الفيلم‭ ‬طريف‭ ‬وقد‭ ‬صدر‭ ‬منه‭ ‬جزءان،‭ ‬فقد‭ ‬عاش‭ ‬الطفل‭ ‬ساعات‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬فيه‭ ‬بمفرده،‭ ‬ثم‭ ‬سافر‭ ‬إلى‭ ‬نيويورك‭ ‬واستخدم‭ ‬بطاقات‭ ‬الائتمان‭ (‬الكريدت‭ ‬كارد‭) ‬الخاصة‭ ‬بأبيه‭ ‬لركوب‭ ‬الطائرة‭ ‬والعيش‭ ‬في‭ ‬أفخر‭ ‬الفنادق،‭ ‬ومر‭ ‬بمواقف‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬العجب،‭ ‬تجعلك‭ ‬تضحك‭ ‬وتنسى‭ ‬أنه‭ ‬وحيد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬‮«‬غابة‮»‬‭ ‬مثل‭ ‬نيويورك‭ ‬تعج‭ ‬بأسماك‭ ‬القرش‭ ‬البرية‭.‬

قبل‭ ‬سنوات‭ ‬قليلة‭ ‬غادرت‭ ‬الدوحة‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬مع‭ ‬زوجتي‭ ‬بغرض‭ ‬الصيانة‭ ‬الطبية‭ ‬الدورية،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أفتى‭ ‬طبيب‭ ‬آسيوي‭ ‬في‭ ‬قطر‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬سيستم‭ ‬مال‭ ‬انت‭ ‬كلش‭ ‬خراب‭ ‬ولازم‭ ‬سوي‭ ‬تشييك‭ ‬في‭ ‬كلينيك‭ ‬في‭ ‬لندن‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬مقرراً‭ ‬أن‭ ‬يلحق‭ ‬بنا‭ ‬عيالنا‭ ‬الأربعة‭ ‬بعد‭ ‬أسبوع،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نفرغ‭ ‬من‭ ‬التشييك‭ ‬الأولي‭ ‬في‭ ‬كلينيك‭ ‬مال‭ ‬لندن‭.‬

وصل‭ ‬العيال‭ ‬إلى‭ ‬المطار‭ ‬الدوحة‭ ‬ليركبوا‭ ‬طائرة‭ ‬الى‭ ‬لندن،‭ ‬ولكن‭ ‬خبيرا‭ ‬آسيويا‭ ‬آخر‭ ‬أفتى‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لأصغر‭ ‬عيالي‭ ‬أن‭ ‬يسافر‭ ‬إلى‭ ‬لندن‭ ‬لأن‭ ‬تأشيرة‭ ‬دخوله‭ ‬إلى‭ ‬بريطانيا‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬انه‭ ‬برفقة‭ ‬والديه،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قاصرا‭ - ‬دون‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ - ‬فلا‭ ‬مجال‭ ‬لسفره‭ ‬إلا‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬والديه‭. ‬ووقع‭ ‬اخوته‭ ‬في‭ ‬حيص‭ ‬بيص،‭ ‬فعندما‭ ‬قرروا‭ ‬العودة‭ ‬جميعاً‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬يحصل‭ ‬أخوهم‭ ‬الصغير‭ ‬على‭ ‬تأشيرة‭ ‬صحيحة‭ ‬قال‭ ‬لهم‭ ‬الخبير‭ ‬إن‭ ‬فرص‭ ‬حصولهم‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬في‭ ‬رحلات‭ ‬جوية‭ ‬لاحقة‭ ‬مثل‭ ‬فرص‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬خلال‭ ‬الخمسين‭ ‬سنة‭ ‬المقبلة‭ ‬بفرق‭ ‬الكشافة‭ ‬المسلحة‭!! ‬وهكذا‭ ‬عاد‭ ‬الولد‭ ‬الصغير‭ ‬أدراجه‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬أقاربنا،‭ ‬وجاءنا‭ ‬أخوته‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬زودوه‭ ‬ببعض‭ ‬المال‭. ‬وعشت‭ ‬أتعس‭ ‬ثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬لأن‭ ‬زوجتي‭ ‬اعتبرت‭ ‬ولدها‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬الدوحة‭ - ‬بينما‭ ‬كل‭ ‬أفراد‭ ‬العائلة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ - ‬في‭ ‬عداد‭ ‬المفقودين،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬مجرد‭ ‬قلق‭ ‬بل‭ ‬الحكاية‭ ‬كان‭ ‬فيها‭ ‬دموع‭ ‬وأرق‭ ‬وسهر‭: ‬يا‭ ‬ترى‭ ‬الولد‭ ‬عامل‭ ‬شنو؟‭ ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬الناس‭ ‬الولد‭ ‬مع‭ ‬أهله‭ ‬وأقاربه‭ ‬وسيكون‭ ‬معنا‭ ‬فور‭ ‬تصحيح‭ ‬تأشيرته‭.. ‬مفيش‭ ‬فايده‭.. ‬الولية‭ ‬ظلت‭ ‬تندب‭ ‬وتبكي‭ ‬على‭ ‬ولدها‭ ‬المسكين‭.‬

واتصلت‭ ‬بالولد‭ ‬المسكين‭ ‬ووجدته‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الانبساط‭ ‬فقد‭ ‬قرر‭ ‬أن‭ ‬يمكث‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬بمفرده‭ (‬هوم‭ ‬ألون‭). ‬استغفر‭ ‬الله‭. ‬أقنع‭ ‬قريبنا‭ ‬الذي‭ ‬عاد‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬أنه‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬الخاص‭ ‬بالعائلة‭ ‬‮«‬لإجراء‭ ‬بعض‭ ‬الاتصالات‭ ‬والتحريات‮»‬،‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬ذلك‭ ‬القريب‭ ‬ويأخذه‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬ليلاً،‭ ‬ونجحت‭ ‬خطته‭ ‬الساذجة‭ ‬لأن‭ ‬قريبه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يفهم‭ ‬شيئاً‭ ‬عن‭ ‬أمور‭ ‬الكمبيوتر‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬كمبيوتر‭ ‬يقوم‭ ‬مقام‭ ‬كمبيوتر‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬التراسل‭ ‬والتواصل،‭ ‬وهكذا‭ ‬ظل‭ ‬الولد‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬بمفرده‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬يومياً‭ ‬لثلاثة‭ ‬أيام‭ ‬قضاها‭ ‬حسب‭ ‬تعبيره‭ ‬في‭ ‬عز‭ ‬ونغنغة‭ ‬وبحبحة‭: ‬جميع‭ ‬الوجبات‭ ‬السريعة‭ ‬التي‭ ‬كنت‭ ‬أحرمه‭ ‬منها‭ ‬صارت‭ ‬تصله‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭. ‬اشترى‭ ‬الآيسكريم‭ ‬بالجردل‭ (‬السطل‭). ‬اشترى‭ ‬بطاقات‭ ‬شحن‭ ‬موبايل‭ ‬تكفي‭ ‬للإدلاء‭ ‬بتصريحات‭ ‬في‭ ‬خمس‭ ‬قنوات‭ ‬فضائية‭ ‬أو‭ ‬تقديم‭ ‬خطبة‭ ‬أمام‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬عبر‭ ‬الأقمار‭ ‬الصناعية‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬أحس‭ ‬الولد‭ ‬أن‭ ‬البعد‭ ‬عن‭ ‬الوالدين‭ ‬‮«‬نعمة‭ ‬وحرية‮»‬‭.‬

وأحسست‭ ‬بالذنب‭: ‬أنا‭ ‬وأمه‭ ‬لم‭ ‬نعرف‭ ‬النوم‭ ‬رغم‭ ‬أننا‭ ‬كنا‭ ‬نعرف‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬أيدٍ‭ ‬أمينة،‭ ‬وكنا‭ ‬سعداء‭ ‬لاصطحابه‭ ‬معنا‭ ‬الى‭ ‬لندن‭ ‬التي‭ ‬يحبها،‭ ‬لأنه‭ ‬فتح‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬فيها‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬أعمل‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬هيئة‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬وله‭ ‬فيها‭ ‬اصدقاء‭ ‬طفولة،‭ ‬ولكن‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يبدو‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬لأنه‭ ‬بعيد‭ ‬عنا،‭ ‬فهل‭ ‬أنا‭ ‬وأمه‭ ‬‮«‬فاشلان‭ ‬كوالدين»؟‭ ‬لا‭ ‬أظن‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬سعيدا‭ ‬بأنه‭ ‬عاش‭ ‬بضعة‭ ‬أيام‭ ‬بلا‭ ‬قوانين‭ ‬تنظم‭ ‬مواعيد‭ ‬اللعب‭ ‬والنوم،‭ ‬وكما‭ ‬اعترف‭ ‬لاحقا‭ ‬‮«‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يجبرني‭ ‬أحد‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬سلطة‭ ‬الخس‭ ‬والخيار‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا