زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
التكنولوجيا تتغول على البشر (2)
ونحن نعيش في رعب من ان الحكومات الإلكترونية ستتسبب في التفنيش الجماعي لملايين الموظفين والعمال ظهر وباء الكتروني جديد، ولا يكاد يمر يوم على أداة إعلام في أي بلد دون الخوض في أمر الذكاء الاصطناعي، بما يوحي بأنه طفرة تقنية قادمة ستؤدي -من بين أمور أخرى- الى تغيير طرق أداء الأعمال، بينما حقيقة الامر هي ان معظمنا ظل يستفيد من الذكاء الاصطناعي على مدى السنوات القليلة الماضية، فهو حاضر في هواتفنا، وحاضر في الروبوتات التي تؤدي أعمالا عالية التعقيد، وفي أنظمة تحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، وفي جميع مدن العالم يستخدم الملايين من سائقي السيارات نظام ويز ليحدد لهم أي الطرق يؤدي إلى الوجهة المنشودة، وقد يوصي ويز WAZE باستخدام طريق ما ذهابا، ولكنه يوصي بتجنبه إيابا لأن به اختناقات مرورية.
وقلت أمس انني عشت في هلع بعض الوقت عندما قيل ان غوغل ستتسبب في جعلي مستحقا للزكاة بطرح برامج للترجمة في وقت كنت ارتزق فيه من الترجمة، ثم اتضح ان ترجمات غوغل لا تختلف عن خطب دونالد ترامب، ولعل كثيرين يذكرون هوجة Y2K، فعند اقتراب السنة الأولى من الألفية الثالثة ساد الذعر في أرجاء المعمورة، وتبارى الإعلاميون والعلماء والسياسيون لرسم سيناريوهات القيامة، وقيل إنه بحلول عام 2000 ستصاب أنظمة الكمبيوتر بلوثة لأنها ستحيل تلقائيا الصفرين الأخيرين من ذلك الرقم الى 1900، لأن 00 لا يأتيان عند العدّ بعد الرقم 99، وإنه بسبب ذلك ستنهار شبكات الاتصالات والكهرباء وتصطدم الطائرات ببعضها بعضا، وتنهال الأقمار الصناعية التي تطوف في الفضاء على الرؤوس كالشهب، وكانت هوجة ارتزقت من ورائها شركات برامج الكمبيوتر، واتضح أن الحكاية برمتها كانت زوبعة مفتعلة في معظم عناصرها.
يسمح الذكاء الاصطناعي لجهاز الحاسوب بأن يفكر، ويتصرف، ويستجيب كما لو أنه إنسان. بعد تزويده بكميات هائلة من المعلومات والبيانات، ليتم تدريبها على تحديد الأنماط الموجودة فيها؛ فتصبح قادرة بعد ذلك على إنتاج تكهنات، وحل المشكلات، وحتى التعلم من أخطائها، ومن ثم تصبح الحواسيب الرقمية قادرة على القيام بأعمال معينة تشابه المهام التي تقوم بها الكائنات الذكية (البشر)، ومن الأمثلة على ذلك؛ القدرة على التعلم من التجارب السابقة، والتفكير بالأحداث الماضية والراهنة والمستقبلية، والقيام بمهام تتطلب نشاطا ذهنيا، ويجري حاليا تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي بحيث تمتلك قدرة كبيرة من شأنها أن تحدث ثورة في أداء العمل في العديد من المجالات، وتفيد تقارير صدرت عن كبريات البنوك الأمريكية بأن مئات الملايين من بني البشر سيحالون الى الأرشيف بعد فقدان وظائفهم خلال العشرين سنة المقبلة.
ولا شك ان الكمبيوتر أحدث نقلات كبرى في كل مجالات الحياة، ثم جاء الانترنت وقيل إنه سيستولي على وظائف البشر ويتسبب في تفشي البطالة وبائيا، ثم صار الانترنت حقيقة واقعة تعزز ديمقراطية المعرفة، حيث صارت المعلومات متاحة للملايين في كل البلدان، وما حدث تاليا هو أنه في جميع مواقع العمل تمددت إدارات تقنية المعلومات من حيث الموارد والكوادر البشرية، ولم يحدث التشريد الواسع النطاق المرتقب لقوى العمل، فالكمبيوتر وما ترتب عليه من تطور وطفرات تكنولوجية من صنع العقل البشري، والبشر هم من يتحكَّمون فيه وفيها، والذكاء الاصطناعي خرج من رحم الكمبيوتر والانترنت، والتلميذ قد يتفوق على المعلم، ولكن المخلوق لا يتفوق على خالقه، وبناء عليه فلا سبيل لتفوق الذكاء المصطنع على ذكاء من صَنعه ويتولى إدارته وتطويره ووضع الضوابط لاستخدامه.
وكما ان الانترنت بكل فوائده ومزاياه الضخمة أنجب نوعا جديدا من الجرائم، عبر اختراق الحسابات (التهكير) او اختلاق حسابات وهمية، فإن الذكاء الاصطناعي قابل للاستخدام في الاحتيال الإلكتروني، والاختراقات السيبرانية، والتضليل الإعلامي، والتلاعب بالأسواق الاقتصادية، وغيرها من الأنشطة غير القانونية وغير الأخلاقية، وهنا أيضا يبقى دور البشر كما هو الحال مع جرائم الانترنت الأخرى حاسما، وفيما يتعلق بمخاطر وفوائد الذكاء الاصطناعي يبقى دور الذكاء البشري هو الأعلى والأرقى، ومن ثم فالتهليل للذكاء الاصطناعي والتهويل من قدراته وإذكاء المخاوف حول ما سيترتب على استخدامه أمر مفتعل كما الضجة حول برنامج غوغل للترجمة وسيناريو القيامة بحلول عام 2000.
وكما تغلب البشر على كورونا سيتغلبون بحول الله على الذكاء الاصطناعي إذا حاول الإطاحة الكاملة ببني البشر من ميادين العمل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك