زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لا تشكُ أمام سوداني من المرض
علمتني التجربة ألا أشكو من مرض أمام سوداني، لأن ذلك كاد يوديني في ستين داهية أكثر من مرة، ولولا أن أدركتني رحمة من ربي لكانت النصائح التي تلقيتها من أصدقائي وأقاربي السودانيين قد جعلتني من قوم «حضارات سادت ثم بادت».
منذ سنوات توقفت عن مناقشة الشؤون السياسية مع أي سوداني، صونا لأذني التي تنتج الشمع بكميات تجارية، كوسيلة تجارية في مواجهة طوفان النظريات العرجاء التي يتم تداولها يوميا في سوق الجدل السياسي السوداني، وتوقفت أيضا عن إزالة الشمع من أذني، أي تعمدت أن أصيب نفسي بالصمم الجزئي حفاظا على أعصابي وما تبقى من قواي العقلية، لأن السياسة مجال «مشاع» والكلام فيها ببلاش، وعندنا سياسيون يقولون ما لا يفعلون وحلاقيمهم مواسير بها تسرب لا تكف عن الضخ، ولكن أن أجعل صحتي موضع نظريات تجعلني فأر تجارب؟ يفتح الله!!
مثلا كلما عانيت من اضطراب هضمي نصحني اختصاصيون بتاع كله: عليك بالروب والزبادي (والروب عندنا -وهو الصحيح- هو اللبن الحامض الرائب الذي يسميه أهل الخليج لبن بينما يسمون الزبادي روب) عليك بهذه وتلك وبطنك تشتغل زي المرسيدس، واتبعت النصيحة وانتهى بي الأمر نزيل المستشفى، والله لا وراكم منظار القولون، ورجح الأطباء إصابتي بمرض اسمه السراتيف كولايتس، وقال لي الطبيب إن ذلك المرض يصيب عادة اليهود الغربيين، وأنه ? شفاء منه.. يعني «يودي وما يجيب!» صحت: الدوام لله يا أبو الجعافر.. جيت الخليج «تكوّن نفسك» لقيت نفسك مكوم في مستشفى، ومن أصل يهودي. والتقطوا من قولوني عينة وبعثوا بها إلى مختبر في كندا. ويا للسعادة: طلعت براءة من السراتيف كولايتس، وعرفت فيما عرفت أن أساس كل المصائب التي أعاني منها هو أنني أعاني من حساسية اللاكتوز، أي أن أمعائي ? تحتمل سكر اللبن/الحليب ومشتقاته. (كل العرب سيم سيم في مجال التشخيص والعلاج بالفهلوة).
تسمى موريتانيا بلد المليون شاعر، والجزائر بلد المليون شهيد، وهناك إربد في الأردن التي يعمل جميع سكانها في الجيش، ويسميها الأردنيون بلد المليون عريف، أما السودان فبلد الثلاثين مليون سياسي. سعيد ومبارك عليكم، فلم يعد الجدل السياسي يستفزني، لم أعد أتنرفز إذا سمعت للمرة الألف أن حال البلد لن ينصلح ما لم «يمسكها» فلان الفلتكاني، أو أن التنمية الاقتصادية لن تتم ما لم يصبح جافر أباس محافظا لبنك السودان المركزي، وأن عمر البشير أو حمدوك هو الذي سيقودنا نحو وحدة الصف ويمنحنا الحريات بالدُّش وليس بالقطارة.
ولكن أن أشكو من ورم أو خراج في اللثة فيتطوع أحدهم بنصحي بأن أشرب ملعقة زيت خروع مخلوطة بلبن تيس، ويقاطعه آخر بأن أمسح موضع الورم بفيكس مخلوط بالثوم.. هذا ما لا أطيقه!! بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك ويعطيك قرص دواء وهو يقول: ابلع هذه وستشعر بتحسن فوري وبالفعل يختفي الألم، بل بكل يختفي الإحساس بكل شيء حولك، لأنه أعطاك قرص بنسلين وأنت - تدري أنك تعاني من حساسية البنسلين وتدخل في غيبوبة قد تجيب أجلك، ما لم ينتبه أحدهم إلى حالتك ابتداء بهرش وحك الجلد وصولا إلى انقطاع النَّفَس.
ويذكرني التنظير السوداني العشوائي في مجال التداوي بفلاح تركي (كتبت عنه كثيرا) كان يعاني من ألم شديد في أحد أضراسه، وكما عند بعض الشرائح الاجتماعية عندنا فقد نصحه أحدهم بشرب الخمر البلدية (العرق)، والمعروف أن جماعة العرق يتعصبون له أكثر من تعصبهم للأحزاب السياسية أندية كرة القدم، فهو عندهم علاج للإمساك والإسهال والسكري وارتفاع ضغط الدم، وهو أفضل من الفياجرا ويحتوي على فيتامين بي وسي -«دبليو سي»، وهكذا أتى الفلاح التركي بزجاجة عرق وشفط محتوياتها بالكامل ولكن ضرسه ظل ينبح وينقح، ومن ميزات الخمر أنها تجعل الشارب ميالا إلى الخلق والإبداع والابتكار، واهتدى الرجل إلى طريقة ناجعة للتخلص من ألم الضرس: أتى بمسدسه، ووضع فوهته على الضرس الوقح وضغط على الزناد، وارتاح من آلام الضرس والحياة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك