العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن أهلي العرنوبيين مجددا (2)

عاش‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيون‭ ‬في‭ ‬حوض‭ ‬النيل‭ ‬الأوسط‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬وما‭ ‬زالوا‭ ‬يتكلمون‭ ‬لغة‭ ‬أسلافهم‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬اليهودية،‭ ‬ثم‭ ‬استعرب‭ ‬وسط‭ ‬السودان،‭ ‬وصارت‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬رسمية،‭ ‬وصارت‭ ‬بالتالي‭ ‬سببا‭ ‬لمعاناتنا‭ ‬في‭ ‬المراحل‭ ‬التعليمية،‭ ‬وصار‭ ‬المستعربون‭ ‬يعايروننا‭ ‬بعجمة‭ ‬ألسنتنا،‭ (‬اللسان‭ ‬النوبي‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬حروف‭: ‬ث،‭ ‬ح،‭ ‬خ،‭ ‬ذ،‭ ‬ز،‭ ‬ص،‭ ‬ض،‭ ‬ط،‭ ‬ظ،‭ ‬ع،‭ ‬غ،‭ ‬والقاف‭ ‬يمنية‭ ‬أي‭ ‬غير‭ ‬مقلقلة‭)‬

حتى‭ ‬مصر‭ ‬التي‭ ‬بنت‭ ‬معظم‭ ‬مجدها‭ ‬على‭ ‬تراثها‭ ‬النوبي،‭ ‬حتى‭ ‬مصر‭ ‬تنكرت‭ ‬للنوبة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬‮«‬استعربت‮»‬‭. ‬ولما‭ ‬عمت‭ ‬الفوضى‭ ‬مصر،‭ ‬لم‭ ‬يتنكر‭ ‬لها‭ ‬ابناء‭ ‬النوبة،‭ ‬بل‭ ‬تطوع‭ ‬كافور‭ ‬لوجه‭ ‬الله،‭ ‬وتولى‭ ‬زمام‭ ‬أمورها‭ ‬فعمّ‭ ‬الاستقرار‭ ‬والرخاء،‭ ‬وتوافد‭ ‬الشعراء‭ ‬على‭ ‬بلاط‭ ‬كافور‭ ‬‮«‬الأسود‮»‬‭ ‬ليمدحوه،‭ ‬ثم‭ ‬أتى‭ ‬المتنبي‭ ‬ليقول‭ ‬في‭ ‬حضرة‭ ‬كافور‭ ‬كلاماً‭ ‬جميلاً‭ ‬ورائعاً،‭ ‬ولكن‭ ‬كافور‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يفهم‭ ‬معظم‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬المتنبي‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكافئه‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الذي‭ ‬ينشده،‭ ‬فحدث‭ ‬سوء‭ ‬تفاهم‭ ‬فخرج‭ ‬المتنبي‭ ‬يشتم‭ ‬كافور،‭ ‬وحفظ‭ ‬العرب‭ ‬تلك‭ ‬الشتائم‭ ‬ونسوا‭ ‬جمائل‭ ‬كافور،‭ ‬أو‭ ‬يعرفونه‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬شتمه‭ ‬المتنبي‭.‬

تتميز‭ ‬النوبة‭ ‬السودانية‭ ‬بإنتاجها‭ ‬الغزير‭ ‬للتمور،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬أكره‭ ‬التمر‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬طعام‭ ‬أهل‭ ‬النار،‭ ‬لا‭ ‬لسبب‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬أهلنا‭ ‬كانوا‭ ‬يحشون‭ ‬جيوبنا‭ ‬بالتمر‭ ‬في‭ ‬الصباح‭ ‬ونحن‭ ‬نتجه‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬ويحسبون‭ ‬أنهم‭ ‬زودونا‭ ‬بوجبة‭ ‬الإفطار،‭ ‬وعندما‭ ‬يعود‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬اليوم‭ ‬الدراسي،‭ ‬والجوع‭ ‬يكوي‭ ‬أمعاءه،‭ ‬يصبّرونه‭ ‬أيضاً‭ ‬بحفنة‭ ‬تمر‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬ينضج‭ ‬طعام‭ ‬الغداء‭.  ‬وفي‭ ‬المساء‭ ‬نخرج‭ ‬للعب‭ ‬فيزودوننا‭ ‬ببعض‭ ‬التمر‭. ‬في‭ ‬عيد‭ ‬الاضحى‭ ‬يسقوننا‭ ‬منقوع‭ ‬التمر‭ ‬الحلو‭.  ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬النفاس‭ ‬يعطونها‭ ‬عصيدة‭ ‬محلاة‭ ‬بالتمر‭.  ‬ضاربات‭ ‬الودع‭ ‬يستخدمن‭ ‬نوى‭ ‬التمر‭. ‬تذهب‭ ‬إلى‭ ‬فقيه‭ ‬القرية‭ ‬ليداويك‭ ‬من‭ ‬سلس‭ ‬البول‭ ‬في‭ ‬الفراش‭ ‬فيمسك‭ ‬تمرات‭ ‬في‭ ‬يديه‭ ‬وهو‭ ‬يقرأ‭ ‬أدعية‭ ‬‮«‬حبس‭ ‬البول‮»‬‭ ‬ويناولك‭ ‬التمرات‭ ‬فتصاب‭ ‬بالسكري‭ ‬وانت‭ ‬صبي‭ ‬وتفشل‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مثانتك‭ ‬وأنت‭ ‬في‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭.  ‬باختصار‭ ‬التمر‭ ‬يلازمك‭ ‬صباح‭ ‬مساء،‭ ‬ولا‭ ‬فكاك‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬ب‮«‬الهجرة‮»‬‭ ‬

العرنوبيون‭ ‬–وقلنا‭ ‬إننا‭ ‬نعني‭ ‬بذلك‭ ‬النوبيين‭ ‬المستعربين–‭ ‬قوم‭ ‬طيبون،‭ ‬حياتهم‭ ‬وادعة،‭ ‬لا‭ ‬جريمة،‭ ‬ولا‭ ‬حكومة،‭ ‬ولكن‭ ‬أكبر‭ ‬مشكلة‭ ‬واجهتني‭ ‬خلال‭ ‬مرحلة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬النوبة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الجن‭ ‬والشياطين‮»‬‭ ‬نعم‭ ‬الجن‭.  ‬تلك‭ ‬الكائنات‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬تتميز‭ ‬بالسلوك‭ ‬العجيب‭.  ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬يحذرونك‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬طفولتك‭ ‬من‭ ‬ارتياد‭ ‬أماكن‭ ‬معينة‭ ‬لأنها‭ ‬‮«‬مسكونة‮»‬‭: ‬لا‭ ‬تلعب‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬سور‭ ‬بيت‭ ‬فلان،‭ ‬لا‭ ‬تذهب‭ ‬وراء‭ ‬الطاحونة‭ ‬بعد‭ ‬المغيب‭ ‬لأن‭ ‬الجن‭ ‬يقومون‭ ‬بتشغيلها‭ ‬مساء‭.  ‬ولم‭ ‬يقل‭ ‬لنا‭ ‬أحد‭ ‬لماذا‭ ‬يكلف‭ ‬الجن‭ ‬أنفسهم‭ ‬مشقة‭ ‬تشغيل‭ ‬طاحونة،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬يأتون‭ ‬بالحبوب‭.  ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬قريتنا‭ ‬مرة‭ ‬أحد‭ ‬أبنائها‭ ‬الذين‭ ‬تعلموا‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬وانهالت‭ ‬عليه‭ ‬النصائح‭ ‬بتفادي‭ ‬الاماكن‭ ‬التي‭ ‬يقطنها‭ ‬الجن‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الطاحونة،‭ ‬وكان‭ ‬يستخف‭ ‬بذلك‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬سمع‭ ‬بأذنيه‭ ‬الطاحونة‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل‭ ‬والظلام‭ ‬يرخي‭ ‬سدوله‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬الكرة‭ ‬الارضية‭ ‬الشمالي‭ ‬بأكمله،‭ ‬ولكن،‭ ‬وبما‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ابن‭ ‬مدينة‮»‬،‭ ‬فانه‭ ‬لم‭ ‬يستسلم‭ ‬لمخاوفه‭ ‬وتسلل‭ ‬إلى‭ ‬الطاحونة‭ ‬ليجد‭ ‬العامل‭ ‬المكلف‭ ‬بتدويرها‭ ‬وهو‭ ‬يعبئ‭ ‬الأكياس‭ ‬بالدقيق‭.  ‬كان‭ ‬العامل‭ ‬يستغل‭ ‬حكاية‭ ‬الجن‭ ‬لتشغيل‭ ‬الطاحونة‭ ‬لحسابه‭ ‬الخاص‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يعلم‭ ‬أن‭ ‬أحداً‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬البلدة‭ ‬لن‭ ‬يجسر‭ ‬على‭ ‬اقتحام‭ ‬مكان‭ ‬مأهول‭ ‬بالطبقة‭ ‬العاملة‭ ‬الجنّيّة،‭ ‬وعندما‭ ‬أبلغ‭ ‬صاحبنا‭ ‬المتعلم‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬بما‭ ‬رآه‭ ‬استدعوا‭ ‬عامل‭ ‬الطاحونة‭ ‬وواجهوه‭ ‬بالتهمة‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬كبير‭ ‬عناء‭ ‬في‭ ‬إنكارها‭ ‬واقناع‭ ‬أهل‭ ‬القرية‭ ‬بأن‭ ‬صاحبنا‭ ‬‮«‬بتاع‭ ‬المدارس‮»‬‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬رأى‭ ‬شيطاناً‭ ‬يتقمص‭ ‬شخصه‭ (‬أي‭ ‬شخص‭ ‬العامل‭) ‬وأن‭ ‬تركه‭ ‬بدون‭ ‬علاج‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬‮«‬الفقيه‮»‬‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تدهور‭ ‬صحته‭ ‬العقلية‭ ‬لأن‭ ‬الجن‭ ‬ينتقمون‭ ‬ممن‭ ‬يتطاول‭ ‬عليهم‭ ‬ويقتحم‭ ‬خلوتهم‭ ‬ويربك‭ ‬انشطتهم،‭ ‬وأكد‭ ‬لهم‭ ‬أنه‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬شاهد‭ ‬الجن‭ ‬وهم‭ ‬يسرقون‭ ‬الزيوت‭ ‬المخصصة‭ ‬لتشغيل‭ ‬الطاحونة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعترض‭ ‬طريقهم‭.‬

وغدا‭ ‬بإذن‭ ‬المولى‭ ‬نعرف‭ ‬مصير‭ ‬من‭ ‬أنكر‭ ‬تشغيل‭ ‬الجن‭ ‬للطاحونة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا