زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن أهلي العرنوبيين مجددا (2)
عاش أهلي النوبيون في حوض النيل الأوسط منذ آلاف السنين، وما زالوا يتكلمون لغة أسلافهم منذ عصر ما قبل اليهودية، ثم استعرب وسط السودان، وصارت العربية لغة رسمية، وصارت بالتالي سببا لمعاناتنا في المراحل التعليمية، وصار المستعربون يعايروننا بعجمة ألسنتنا، (اللسان النوبي ليس فيه حروف: ث، ح، خ، ذ، ز، ص، ض، ط، ظ، ع، غ، والقاف يمنية أي غير مقلقلة)
حتى مصر التي بنت معظم مجدها على تراثها النوبي، حتى مصر تنكرت للنوبة بعد أن «استعربت». ولما عمت الفوضى مصر، لم يتنكر لها ابناء النوبة، بل تطوع كافور لوجه الله، وتولى زمام أمورها فعمّ الاستقرار والرخاء، وتوافد الشعراء على بلاط كافور «الأسود» ليمدحوه، ثم أتى المتنبي ليقول في حضرة كافور كلاماً جميلاً ورائعاً، ولكن كافور لم يكن يفهم معظم ما يقوله المتنبي وبالتالي لم يكافئه على النحو الذي ينشده، فحدث سوء تفاهم فخرج المتنبي يشتم كافور، وحفظ العرب تلك الشتائم ونسوا جمائل كافور، أو يعرفونه فقط على أنه الرجل الذي شتمه المتنبي.
تتميز النوبة السودانية بإنتاجها الغزير للتمور، وكنت في طفولتي أكره التمر وأعتقد أنه طعام أهل النار، لا لسبب سوى أن أهلنا كانوا يحشون جيوبنا بالتمر في الصباح ونحن نتجه إلى المدرسة ويحسبون أنهم زودونا بوجبة الإفطار، وعندما يعود الواحد منا إلى البيت في نهاية اليوم الدراسي، والجوع يكوي أمعاءه، يصبّرونه أيضاً بحفنة تمر إلى أن ينضج طعام الغداء. وفي المساء نخرج للعب فيزودوننا ببعض التمر. في عيد الاضحى يسقوننا منقوع التمر الحلو. المرأة التي في النفاس يعطونها عصيدة محلاة بالتمر. ضاربات الودع يستخدمن نوى التمر. تذهب إلى فقيه القرية ليداويك من سلس البول في الفراش فيمسك تمرات في يديه وهو يقرأ أدعية «حبس البول» ويناولك التمرات فتصاب بالسكري وانت صبي وتفشل في السيطرة على مثانتك وأنت في حجرة الدراسة. باختصار التمر يلازمك صباح مساء، ولا فكاك منه إلا ب«الهجرة»
العرنوبيون –وقلنا إننا نعني بذلك النوبيين المستعربين– قوم طيبون، حياتهم وادعة، لا جريمة، ولا حكومة، ولكن أكبر مشكلة واجهتني خلال مرحلة العيش في أرض النوبة هي «الجن والشياطين» نعم الجن. تلك الكائنات العجيبة التي تتميز بالسلوك العجيب. في بلدتنا يحذرونك في مرحلة مبكرة من طفولتك من ارتياد أماكن معينة لأنها «مسكونة»: لا تلعب بالقرب من سور بيت فلان، لا تذهب وراء الطاحونة بعد المغيب لأن الجن يقومون بتشغيلها مساء. ولم يقل لنا أحد لماذا يكلف الجن أنفسهم مشقة تشغيل طاحونة، أو من أين يأتون بالحبوب. وصل إلى قريتنا مرة أحد أبنائها الذين تعلموا في المدينة وانهالت عليه النصائح بتفادي الاماكن التي يقطنها الجن ومن بينها الطاحونة، وكان يستخف بذلك إلى أن سمع بأذنيه الطاحونة تدور في منتصف الليل والظلام يرخي سدوله على نصف الكرة الارضية الشمالي بأكمله، ولكن، وبما أنه «ابن مدينة»، فانه لم يستسلم لمخاوفه وتسلل إلى الطاحونة ليجد العامل المكلف بتدويرها وهو يعبئ الأكياس بالدقيق. كان العامل يستغل حكاية الجن لتشغيل الطاحونة لحسابه الخاص لأنه كان يعلم أن أحداً من سكان البلدة لن يجسر على اقتحام مكان مأهول بالطبقة العاملة الجنّيّة، وعندما أبلغ صاحبنا المتعلم أهل القرية بما رآه استدعوا عامل الطاحونة وواجهوه بالتهمة ولم يجد كبير عناء في إنكارها واقناع أهل القرية بأن صاحبنا «بتاع المدارس» لابد أن رأى شيطاناً يتقمص شخصه (أي شخص العامل) وأن تركه بدون علاج على يد «الفقيه» قد يؤدي إلى تدهور صحته العقلية لأن الجن ينتقمون ممن يتطاول عليهم ويقتحم خلوتهم ويربك انشطتهم، وأكد لهم أنه كثيراً ما شاهد الجن وهم يسرقون الزيوت المخصصة لتشغيل الطاحونة من دون أن يعترض طريقهم.
وغدا بإذن المولى نعرف مصير من أنكر تشغيل الجن للطاحونة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك