زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن أهلي العرنوبيين مجددا (1)
أعلنها مدوية مجددا: أنا عرنوبي، أي نوبي-عربي بالتجنس، ومن حقي أن أطالب بقبولي عضواً في الجامعة العربية التي لا يتحدث بعض أعضائها (دولها) العربية إطلاقاً. إنه حُب «التكويش»، فمنذ أن تحول العرب إلى أمة تستورد كل شيء: الأكل والملابس والحضارة!!! فلا شيء يتفاخرون به سوى «أن اثنين وعشرين دولة عربية ستفعل كذا وكذا». وهناك عبارة «إن أمتنا من المحيط إلى الخليج...» وكأن وجود أمتنا بين المحيط والخليج إنجاز في حدّ ذاته!
مالي أنا وهذه الأشياء. مبروك عليكم جامعتكم ومحيطكم وخليجكم، واتركوني في حالي. فأنا عربي بـ«الانتساب» ولا أتمتع عندكم بحقوق المواطنة كاملة (يا سلام. وكأنما أنتم تتمتعون بها). وكي أصبح مستعرباً، كلفني ذلك مشقة وجهداً كبيرين. (أعرف أنني كتبت عن هذه التجربة كثيرا، ولكنني مازلت موجوعا!!) فمرحلة الطفولة عند كل الناس هي مخزون الذكريات الجميلة. فالطفل عموماً سعيد وهمُّه على غيره. ولكن طفولتي أنا وإخوتي العرنوبيين كانت كلها نكداً بسبب اللغة العربية، فقد كانت حصيلتنا منها ضعيفة، ونحن في المرحلة الابتدائية، في حين كانت جميع المناهج بالعربية. يقف المدرّس أمامنا وهو يرغي ويزبد ويحسب أنه أتى ما لم تستطعه الاوائل، ونحن في واد آخر، وبعد مدة طويلة اكتشفت السلطات أن وجودنا في المدارس مثل «عدمه»، وعملت على توظيف النوبيين في مجال التدريس بحيث يتم تلقيننا المعارف باللغة العرنوبية التي هي خليط من العربية والنوبية، وكانت أكبر عقبة أمام مدرسينا هي تلك الأناشيد و«المحفوظات» التي ظلت مقررة على المدارس العربية منذ أن تولى عبدالملك بن مروان أعباء وزارة التربية والتعليم. كان حفظ الأناشيد أمراً قاسياً لأننا لم نكن نعرف لها مضموناً.
كان مدرس التربية الإسلامية أكثر وعياً من غيره، فقد أعفانا من حفظ السور القرآنية التي كان يصعب علينا نطق مفرداتها بشكل صحيح، وكان يقول إنه لن يسمح لنوبي أن يلحن في القرآن ولو انكسرت رقبة وزير التربية. وكان يخرج عن طوره عندما يغيظه اعوجاج ألسنتنا وعجزنا عن تلاوة القرآن كما ينبغي. وكان يقول: إن الإسلام انتصر بدون النوبة، وسينتصر أكثر بدونهم. وذات مرة وقف صاحبنا ذاك بالقرب من إحدى حجرات الدراسة يسترق السمع بينما التلاميذ يرددون:
تلأ البدر ألينا من سنيات الوداء وجب الشكر ألينا ما دآ لله داء
دخل صاحبنا حجرة الدراسة من دون أن يستأذن من زميله المدرس الواقف أمام التلاميذ، ثم كتب على السبورة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع...ثم صاح وهو يلقي بعمامته أرضاً: طلع البدر يا عجم يا بجم. إلهي تطلع روحكم. هذا النشيد يحفظه الببغاء على النحو الصحيح بعد تلقينه إياه مرتين، وأنتم تؤلفون كلاماً من عندكم وتسمونه «تلأ البدر ألينا...». إلهي ما يطلع عليكم بدر أيها الانجاس المناكيد.
بعد ذلك بنحو عشرين سنة فهمت مرامي ومعاني كلماته تلك، فقد كان يعايرنا بما عاير المتنبي به كافور. ولم أغضب، فقد ألفنا نحن النوبيين نكران الجميل من جيراننا «العرب»، فعندما اشتدت المحن على بعض القبائل العربية التي عانت من بطش أعدائها جاء وفد منها وتعاقد مع جدّي عنترة العبسي (لاحظ أن أبي بحكم الانتماء القبلي يدعى عباس)، وتعاقدوا معه بشروط مجزية، وهي أن يتولى أعباء وزارة الدفاع والتصنيع الحربي، ولم يقصر عنترة في أداء مهام منصبه. خاض المعارك منتصراً، ورفع شأن القبيلة. وظهرت صورته على غلاف مجلة «نيوزويك». ثم ماذا حدث؟ لضمان النصر طلبوا من عنترة أن يبقي معهم إلى أجل غير محدد، ومنحوه «جواز سفر»، وحسب العبيط أنه أصبح واحداً منهم، وفكّر في الاستقرار الاجتماعي وطلب الزواج من «عبلة» فقامت القيامة، واعتقلوه وعذبوه، وعندما قرر العودة إلى ديار النوبة اعتقلوه مجددا في المطار بتهمة عدم الحصول على تأشيرة خروج.
وأواصل الفضفضة غدا بإذن الله
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك