العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن أهلي العرنوبيين مجددا (1)

أعلنها‭ ‬مدوية‭ ‬مجددا‭: ‬أنا‭ ‬عرنوبي،‭ ‬أي‭ ‬نوبي‭-‬عربي‭ ‬بالتجنس،‭ ‬ومن‭ ‬حقي‭ ‬أن‭ ‬أطالب‭ ‬بقبولي‭ ‬عضواً‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يتحدث‭ ‬بعض‭ ‬أعضائها‭ (‬دولها‭) ‬العربية‭ ‬إطلاقاً‭. ‬إنه‭ ‬حُب‭ ‬‮«‬التكويش‮»‬،‭ ‬فمنذ‭ ‬أن‭ ‬تحول‭ ‬العرب‭ ‬إلى‭ ‬أمة‭ ‬تستورد‭ ‬كل‭ ‬شيء‭: ‬الأكل‭ ‬والملابس‭ ‬والحضارة‭!!! ‬فلا‭ ‬شيء‭ ‬يتفاخرون‭ ‬به‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬أن‭ ‬اثنين‭ ‬وعشرين‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬ستفعل‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‮»‬‭. ‬وهناك‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬إن‭ ‬أمتنا‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج‭...‬‮»‬‭ ‬وكأن‭ ‬وجود‭ ‬أمتنا‭ ‬بين‭ ‬المحيط‭ ‬والخليج‭ ‬إنجاز‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاته‭!‬

مالي‭ ‬أنا‭ ‬وهذه‭ ‬الأشياء‭. ‬مبروك‭ ‬عليكم‭ ‬جامعتكم‭ ‬ومحيطكم‭ ‬وخليجكم،‭ ‬واتركوني‭ ‬في‭ ‬حالي‭. ‬فأنا‭ ‬عربي‭ ‬بـ«الانتساب‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬أتمتع‭ ‬عندكم‭ ‬بحقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬كاملة‭ (‬يا‭ ‬سلام‭. ‬وكأنما‭ ‬أنتم‭ ‬تتمتعون‭ ‬بها‭). ‬وكي‭ ‬أصبح‭ ‬مستعرباً،‭ ‬كلفني‭ ‬ذلك‭ ‬مشقة‭ ‬وجهداً‭ ‬كبيرين‭. (‬أعرف‭ ‬أنني‭ ‬كتبت‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬التجربة‭ ‬كثيرا،‭ ‬ولكنني‭ ‬مازلت‭ ‬موجوعا‭!!) ‬فمرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬عند‭ ‬كل‭ ‬الناس‭ ‬هي‭ ‬مخزون‭ ‬الذكريات‭ ‬الجميلة‭. ‬فالطفل‭ ‬عموماً‭ ‬سعيد‭ ‬وهمُّه‭ ‬على‭ ‬غيره‭. ‬ولكن‭ ‬طفولتي‭ ‬أنا‭ ‬وإخوتي‭ ‬العرنوبيين‭ ‬كانت‭ ‬كلها‭ ‬نكداً‭ ‬بسبب‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬حصيلتنا‭ ‬منها‭ ‬ضعيفة،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬كانت‭ ‬جميع‭ ‬المناهج‭ ‬بالعربية‭. ‬يقف‭ ‬المدرّس‭ ‬أمامنا‭ ‬وهو‭ ‬يرغي‭ ‬ويزبد‭ ‬ويحسب‭ ‬أنه‭ ‬أتى‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تستطعه‭ ‬الاوائل،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬واد‭ ‬آخر،‭ ‬وبعد‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬اكتشفت‭ ‬السلطات‭ ‬أن‭ ‬وجودنا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عدمه‮»‬،‭ ‬وعملت‭ ‬على‭ ‬توظيف‭ ‬النوبيين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التدريس‭ ‬بحيث‭ ‬يتم‭ ‬تلقيننا‭ ‬المعارف‭ ‬باللغة‭ ‬العرنوبية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬خليط‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬والنوبية،‭ ‬وكانت‭ ‬أكبر‭ ‬عقبة‭ ‬أمام‭ ‬مدرسينا‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬الأناشيد‭ ‬و«المحفوظات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬مقررة‭ ‬على‭ ‬المدارس‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬تولى‭ ‬عبدالملك‭ ‬بن‭ ‬مروان‭ ‬أعباء‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭. ‬كان‭ ‬حفظ‭ ‬الأناشيد‭ ‬أمراً‭ ‬قاسياً‭ ‬لأننا‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬لها‭ ‬مضموناً‭.‬

كان‭ ‬مدرس‭ ‬التربية‭ ‬الإسلامية‭ ‬أكثر‭ ‬وعياً‭ ‬من‭ ‬غيره،‭ ‬فقد‭ ‬أعفانا‭ ‬من‭ ‬حفظ‭ ‬السور‭ ‬القرآنية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يصعب‭ ‬علينا‭ ‬نطق‭ ‬مفرداتها‭ ‬بشكل‭ ‬صحيح،‭ ‬وكان‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬لن‭ ‬يسمح‭ ‬لنوبي‭ ‬أن‭ ‬يلحن‭ ‬في‭ ‬القرآن‭ ‬ولو‭ ‬انكسرت‭ ‬رقبة‭ ‬وزير‭ ‬التربية‭. ‬وكان‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬طوره‭ ‬عندما‭ ‬يغيظه‭ ‬اعوجاج‭ ‬ألسنتنا‭ ‬وعجزنا‭ ‬عن‭ ‬تلاوة‭ ‬القرآن‭ ‬كما‭ ‬ينبغي‭. ‬وكان‭ ‬يقول‭: ‬إن‭ ‬الإسلام‭ ‬انتصر‭ ‬بدون‭ ‬النوبة،‭ ‬وسينتصر‭ ‬أكثر‭ ‬بدونهم‭. ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬وقف‭ ‬صاحبنا‭ ‬ذاك‭ ‬بالقرب‭ ‬من‭ ‬إحدى‭ ‬حجرات‭ ‬الدراسة‭ ‬يسترق‭ ‬السمع‭ ‬بينما‭ ‬التلاميذ‭ ‬يرددون‭:‬

تلأ‭ ‬البدر‭ ‬ألينا‭ ‬من‭ ‬سنيات‭ ‬الوداء‭ ‬وجب‭ ‬الشكر‭ ‬ألينا‭ ‬ما‭ ‬دآ‭ ‬لله‭ ‬داء

دخل‭ ‬صاحبنا‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يستأذن‭ ‬من‭ ‬زميله‭ ‬المدرس‭ ‬الواقف‭ ‬أمام‭ ‬التلاميذ،‭ ‬ثم‭ ‬كتب‭ ‬على‭ ‬السبورة‭: ‬طلع‭ ‬البدر‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬ثنيات‭ ‬الوداع‭ ‬وجب‭ ‬الشكر‭ ‬علينا‭ ‬ما‭ ‬دعا‭ ‬لله‭ ‬داع‭...‬ثم‭ ‬صاح‭ ‬وهو‭ ‬يلقي‭ ‬بعمامته‭ ‬أرضاً‭: ‬طلع‭ ‬البدر‭ ‬يا‭ ‬عجم‭ ‬يا‭ ‬بجم‭. ‬إلهي‭ ‬تطلع‭ ‬روحكم‭. ‬هذا‭ ‬النشيد‭ ‬يحفظه‭ ‬الببغاء‭ ‬على‭ ‬النحو‭ ‬الصحيح‭ ‬بعد‭ ‬تلقينه‭ ‬إياه‭ ‬مرتين،‭ ‬وأنتم‭ ‬تؤلفون‭ ‬كلاماً‭ ‬من‭ ‬عندكم‭ ‬وتسمونه‭ ‬‮«‬تلأ‭ ‬البدر‭ ‬ألينا‭...‬‮»‬‭. ‬إلهي‭ ‬ما‭ ‬يطلع‭ ‬عليكم‭ ‬بدر‭ ‬أيها‭ ‬الانجاس‭ ‬المناكيد‭.‬

بعد‭ ‬ذلك‭ ‬بنحو‭ ‬عشرين‭ ‬سنة‭ ‬فهمت‭ ‬مرامي‭ ‬ومعاني‭ ‬كلماته‭ ‬تلك،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يعايرنا‭ ‬بما‭ ‬عاير‭ ‬المتنبي‭ ‬به‭ ‬كافور‭. ‬ولم‭ ‬أغضب،‭ ‬فقد‭ ‬ألفنا‭ ‬نحن‭ ‬النوبيين‭ ‬نكران‭ ‬الجميل‭ ‬من‭ ‬جيراننا‭ ‬‮«‬العرب‮»‬،‭ ‬فعندما‭ ‬اشتدت‭ ‬المحن‭ ‬على‭ ‬بعض‭ ‬القبائل‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬أعدائها‭ ‬جاء‭ ‬وفد‭ ‬منها‭ ‬وتعاقد‭ ‬مع‭ ‬جدّي‭ ‬عنترة‭ ‬العبسي‭ (‬لاحظ‭ ‬أن‭ ‬أبي‭ ‬بحكم‭ ‬الانتماء‭ ‬القبلي‭ ‬يدعى‭ ‬عباس‭)‬،‭ ‬وتعاقدوا‭ ‬معه‭ ‬بشروط‭ ‬مجزية،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬يتولى‭ ‬أعباء‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬والتصنيع‭ ‬الحربي،‭ ‬ولم‭ ‬يقصر‭ ‬عنترة‭ ‬في‭ ‬أداء‭ ‬مهام‭ ‬منصبه‭. ‬خاض‭ ‬المعارك‭ ‬منتصراً،‭ ‬ورفع‭ ‬شأن‭ ‬القبيلة‭. ‬وظهرت‭ ‬صورته‭ ‬على‭ ‬غلاف‭ ‬مجلة‭ ‬‮«‬نيوزويك‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬ماذا‭ ‬حدث؟‭ ‬لضمان‭ ‬النصر‭ ‬طلبوا‭ ‬من‭ ‬عنترة‭ ‬أن‭ ‬يبقي‭ ‬معهم‭ ‬إلى‭ ‬أجل‭ ‬غير‭ ‬محدد،‭ ‬ومنحوه‭ ‬‮«‬جواز‭ ‬سفر‮»‬،‭ ‬وحسب‭ ‬العبيط‭ ‬أنه‭ ‬أصبح‭ ‬واحداً‭ ‬منهم،‭ ‬وفكّر‭ ‬في‭ ‬الاستقرار‭ ‬الاجتماعي‭ ‬وطلب‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬‮«‬عبلة‮»‬‭ ‬فقامت‭ ‬القيامة،‭ ‬واعتقلوه‭ ‬وعذبوه،‭ ‬وعندما‭ ‬قرر‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬ديار‭ ‬النوبة‭ ‬اعتقلوه‭ ‬مجددا‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬بتهمة‭ ‬عدم‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬تأشيرة‭ ‬خروج‭.‬

وأواصل‭ ‬الفضفضة‭ ‬غدا‭ ‬بإذن‭ ‬الله

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا