زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الشاي -هربا منه وإليه (1)
عندي ولله الحمد من العيال أربعة، ومدّ الله في أيامي حتى أكملوا ما تيسر لهم من تعليم ودخلوا الحياة العملية، وأربعتهم يشكرونني لأنني حرمت كل واحد منهم من الشاي في سن مبكرة، والى يوم الناس هذا لا يشرب أي واحد من عيالي أي نوع من الشاي (وان كان اثنان منهم لا يمانعان في شرب القهوة بين الحين والحين)، وكان هدفي من حرمانهم الشاي تحريرهم من عبودية الاعتياد على شيء ليس بالأساسي في حياة أي انسان، فقد عاشت البشرية آلاف السنين وهي لا تعرف شيئا عن الشاي ولكن ما ان ذاع أمره خلال المائتي سنة الماضية حتى صار مشروبا في كل البلدان.
وشخصيا توقفت عن شرب الشاي وعمري نحو 11 سنة، وبالتحديد بعد أن دخلت المدرسة المتوسطة، حيث استدعت الضرورة أن أقيم في السكن الداخلي بالمدرسة، «سكن وأكل وشرب» على حساب الحكومة (ومع هذا فإنني أعترف بأنني عارضت الحكومات السودانية المتعاقبة، فلم يقيض الله بعد لوطني حكومة تملأ عيني، ولم يكن ذلك باللسان فقط. فهل أنا ناكر للجميل؟ إطلاقا)
المهم عندما تكون مقيماً في السكن الداخلي فمعنى ذلك أن تتناول الشاي قبل شروق الشمس بقليل، ومثل كثيرين من زملائي كنت أرى أن المسألة لا تستاهل، وأنه من الخير لي أن أمد ساعات نومي، وهكذا كنا نصلي الصبح ثم ننام حتى قبل رنين الجرس بربع ساعة فنغسل وجوهنا جزئياً ثم نتوجه إلى حجرات الدراسة، وكان السواك على أيامنا تلك فرض كفاية فإذا استاك/ تسوك البعض سقط السواك عن الباقين، وحتى بعد أن دخلت الحياة العملية لم يكن للشاي مكان في برنامجي اليومي، وكان من الوارد أن أشرب كوب شاي واحداً في اليوم أو في الأسبوع أما القهوة فلا أظن أن مجموع ما شربته من أكوابها طوال حياتي يزيد على الخمسة. ولو رشفت جرعة من القهوة في السابعة صباحاً فإنني أظل صاحياً حتى السابعة من صباح اليوم التالي (كان هناك من يتعجبون من رفضي لشرب القهوة خاصة أيام الامتحانات على عهد الدراسة، طالما أنها تمنعني من النوم، وبالتالي تعينني على السهر، ولكن كانت لي فلسفة معاكسة للفهم العام للاستعداد للامتحانات، فما أن تبدأ الامتحانات حتى كنت أقدم موعد نومي حتى عن الساعة المعتادة، بمعنى أنني كنت أحرص على النوم المبكر في مواسم الامتحانات، وبحمد الله كان مردود ذلك طيباً على الدوام، لأنني ببساطة كنت أستعد للامتحانات قبل موعد بدئها بكثير، وبالتالي كنت بحلول الموعد أكون جاهزا للجلوس لها)، وكنت إذا شربت شاياً وضعت في الكوب العادي نحو ست ملاعق سكر (وهو المعدل السوداني المعتاد وأينما ذهبت هنا في الخليج يسألني العامل الآسيوي المكلف بإعداد الشاي: بابا سكر عادي وللا سوداني؟). ومن باب ترشيد الانفاق لم تكن أمي تتحمس كثيراً لدعوتي لشرب الشاي!
ثم جئت إلى منطقة الخليج حيث شرب الشاي في مواقع العمل إجباري، ما أن تدخل مكتبك حتى يوافيك «رفيق» بكوب شاي على رأس كل ساعة، حتى لتحسب أنه يتقاضى عمولة على استهلاكك للشاي، ويستدعيك المدير للتوبيخ ثم معاقبتك بخصم من الراتب ولكنه يصر على أن تشرب الشاي عنده أولاً، وبحكم طول الإقامة في الخليج أدمنت الشاي خاصة بعد أن نجح أكثر من «رفيق» في إقناعي بمزايا الشاي الكرك، وهو أن تغلي ربع كيلو من الشاي لصنع كوب واحد وتضيف إليه اللبن بكمية محسوبة تجعل لون المشروب «بني غامق».
واستفحل إدماني للشاي بدرجة أنني صرت لا «أتكيف» إلا من الشاي الذي أصنعه بيدي، أعد بنفسي كوب الشاي في البيت صباحاً وعصراً، بل صرت ملطشة: صار من المعتاد أن تطلب مني أم الجعافر – وبكل بجاحة ووقاحة – أن أزودها بكوب شاي.. نسوان آخر زمن، وعندي في المكتب عدة كاملة لإعداد الشاي.. لا أحتاج إلى خدمات «رفيق» في مجال الشاي وهكذا أبعدت عن نفسي شبهة التعامل مع البعثيين والشيوعيين وكل الرفاق!! ثم اكتشفت المزايا الصحية المهولة الناتجة عن شرب الشاي.. فشكراً للخليج، وقد أحدثكم عنها غدا وقد لا... والأمور بيد الله ومن بعده يتوقف الأمر على مزاجي بعد كوب الشاي الصباحي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك