العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الشاي -هربا منه وإليه (1)

عندي‭ ‬ولله‭ ‬الحمد‭ ‬من‭ ‬العيال‭ ‬أربعة،‭ ‬ومدّ‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أيامي‭ ‬حتى‭ ‬أكملوا‭ ‬ما‭ ‬تيسر‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬تعليم‭ ‬ودخلوا‭ ‬الحياة‭ ‬العملية،‭ ‬وأربعتهم‭ ‬يشكرونني‭ ‬لأنني‭ ‬حرمت‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬مبكرة،‭ ‬والى‭ ‬يوم‭ ‬الناس‭ ‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يشرب‭ ‬أي‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬عيالي‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الشاي‭ (‬وان‭ ‬كان‭ ‬اثنان‭ ‬منهم‭ ‬لا‭ ‬يمانعان‭ ‬في‭ ‬شرب‭ ‬القهوة‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والحين‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬هدفي‭ ‬من‭ ‬حرمانهم‭ ‬الشاي‭ ‬تحريرهم‭ ‬من‭ ‬عبودية‭ ‬الاعتياد‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬ليس‭ ‬بالأساسي‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬أي‭ ‬انسان،‭ ‬فقد‭ ‬عاشت‭ ‬البشرية‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬شيئا‭ ‬عن‭ ‬الشاي‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬ان‭ ‬ذاع‭ ‬أمره‭ ‬خلال‭ ‬المائتي‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬مشروبا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬البلدان‭.‬

وشخصيا‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬شرب‭ ‬الشاي‭ ‬وعمري‭ ‬نحو‭ ‬11‭ ‬سنة،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬حيث‭ ‬استدعت‭ ‬الضرورة‭ ‬أن‭ ‬أقيم‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬بالمدرسة،‭ ‬‮«‬سكن‭ ‬وأكل‭ ‬وشرب‮»‬‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الحكومة‭ (‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬أعترف‭ ‬بأنني‭ ‬عارضت‭ ‬الحكومات‭ ‬السودانية‭ ‬المتعاقبة،‭ ‬فلم‭ ‬يقيض‭ ‬الله‭ ‬بعد‭ ‬لوطني‭ ‬حكومة‭ ‬تملأ‭ ‬عيني،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬باللسان‭ ‬فقط‭.  ‬فهل‭ ‬أنا‭ ‬ناكر‭ ‬للجميل؟‭ ‬إطلاقا‭)‬

المهم‭ ‬عندما‭ ‬تكون‭ ‬مقيماً‭ ‬في‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬فمعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تتناول‭ ‬الشاي‭ ‬قبل‭ ‬شروق‭ ‬الشمس‭ ‬بقليل،‭ ‬ومثل‭ ‬كثيرين‭ ‬من‭ ‬زملائي‭ ‬كنت‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬لا‭ ‬تستاهل،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أمد‭ ‬ساعات‭ ‬نومي،‭ ‬وهكذا‭ ‬كنا‭ ‬نصلي‭ ‬الصبح‭ ‬ثم‭ ‬ننام‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬رنين‭ ‬الجرس‭ ‬بربع‭ ‬ساعة‭ ‬فنغسل‭ ‬وجوهنا‭ ‬جزئياً‭ ‬ثم‭ ‬نتوجه‭ ‬إلى‭ ‬حجرات‭ ‬الدراسة،‭ ‬وكان‭ ‬السواك‭ ‬على‭ ‬أيامنا‭ ‬تلك‭ ‬فرض‭ ‬كفاية‭ ‬فإذا‭ ‬استاك‭/ ‬تسوك‭ ‬البعض‭ ‬سقط‭ ‬السواك‭ ‬عن‭ ‬الباقين،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للشاي‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬برنامجي‭ ‬اليومي،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الوارد‭ ‬أن‭ ‬أشرب‭ ‬كوب‭ ‬شاي‭ ‬واحداً‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬أما‭ ‬القهوة‭ ‬فلا‭ ‬أظن‭ ‬أن‭ ‬مجموع‭ ‬ما‭ ‬شربته‭ ‬من‭ ‬أكوابها‭ ‬طوال‭ ‬حياتي‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬الخمسة‭. ‬ولو‭ ‬رشفت‭ ‬جرعة‭ ‬من‭ ‬القهوة‭ ‬في‭ ‬السابعة‭ ‬صباحاً‭ ‬فإنني‭ ‬أظل‭ ‬صاحياً‭ ‬حتى‭ ‬السابعة‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ (‬كان‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يتعجبون‭ ‬من‭ ‬رفضي‭ ‬لشرب‭ ‬القهوة‭ ‬خاصة‭ ‬أيام‭ ‬الامتحانات‭ ‬على‭ ‬عهد‭ ‬الدراسة،‭ ‬طالما‭ ‬أنها‭ ‬تمنعني‭ ‬من‭ ‬النوم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تعينني‭ ‬على‭ ‬السهر،‭ ‬ولكن‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬فلسفة‭ ‬معاكسة‭ ‬للفهم‭ ‬العام‭ ‬للاستعداد‭ ‬للامتحانات،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬الامتحانات‭ ‬حتى‭ ‬كنت‭ ‬أقدم‭ ‬موعد‭ ‬نومي‭ ‬حتى‭ ‬عن‭ ‬الساعة‭ ‬المعتادة،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬النوم‭ ‬المبكر‭ ‬في‭ ‬مواسم‭ ‬الامتحانات،‭ ‬وبحمد‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬مردود‭ ‬ذلك‭ ‬طيباً‭ ‬على‭ ‬الدوام،‭ ‬لأنني‭ ‬ببساطة‭ ‬كنت‭ ‬أستعد‭ ‬للامتحانات‭ ‬قبل‭ ‬موعد‭ ‬بدئها‭ ‬بكثير،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كنت‭ ‬بحلول‭ ‬الموعد‭ ‬أكون‭ ‬جاهزا‭ ‬للجلوس‭ ‬لها‭)‬،‭ ‬وكنت‭ ‬إذا‭ ‬شربت‭ ‬شاياً‭ ‬وضعت‭ ‬في‭ ‬الكوب‭ ‬العادي‭ ‬نحو‭ ‬ست‭ ‬ملاعق‭ ‬سكر‭ (‬وهو‭ ‬المعدل‭ ‬السوداني‭ ‬المعتاد‭ ‬وأينما‭ ‬ذهبت‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬يسألني‭ ‬العامل‭ ‬الآسيوي‭ ‬المكلف‭ ‬بإعداد‭ ‬الشاي‭:  ‬بابا‭ ‬سكر‭ ‬عادي‭ ‬وللا‭ ‬سوداني؟‭).  ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬ترشيد‭ ‬الانفاق‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أمي‭ ‬تتحمس‭ ‬كثيراً‭ ‬لدعوتي‭ ‬لشرب‭ ‬الشاي‭!‬

ثم‭ ‬جئت‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬حيث‭ ‬شرب‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬مواقع‭ ‬العمل‭ ‬إجباري،‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬تدخل‭ ‬مكتبك‭ ‬حتى‭ ‬يوافيك‭ ‬‮«‬رفيق‮»‬‭ ‬بكوب‭ ‬شاي‭ ‬على‭ ‬رأس‭ ‬كل‭ ‬ساعة،‭ ‬حتى‭ ‬لتحسب‭ ‬أنه‭ ‬يتقاضى‭ ‬عمولة‭ ‬على‭ ‬استهلاكك‭ ‬للشاي،‭ ‬ويستدعيك‭ ‬المدير‭ ‬للتوبيخ‭ ‬ثم‭ ‬معاقبتك‭ ‬بخصم‭ ‬من‭ ‬الراتب‭ ‬ولكنه‭ ‬يصر‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تشرب‭ ‬الشاي‭ ‬عنده‭ ‬أولاً،‭ ‬وبحكم‭ ‬طول‭ ‬الإقامة‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬أدمنت‭ ‬الشاي‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نجح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬‮«‬رفيق‮»‬‭ ‬في‭ ‬إقناعي‭ ‬بمزايا‭ ‬الشاي‭ ‬الكرك،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬تغلي‭ ‬ربع‭ ‬كيلو‭ ‬من‭ ‬الشاي‭ ‬لصنع‭ ‬كوب‭ ‬واحد‭ ‬وتضيف‭ ‬إليه‭ ‬اللبن‭ ‬بكمية‭ ‬محسوبة‭ ‬تجعل‭ ‬لون‭ ‬المشروب‭ ‬‮«‬بني‭ ‬غامق‮»‬‭.  ‬

واستفحل‭ ‬إدماني‭ ‬للشاي‭ ‬بدرجة‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬لا‭ ‬‮«‬أتكيف‮»‬‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬الشاي‭ ‬الذي‭ ‬أصنعه‭ ‬بيدي،‭ ‬أعد‭ ‬بنفسي‭ ‬كوب‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬صباحاً‭ ‬وعصراً،‭ ‬بل‭ ‬صرت‭ ‬ملطشة‭: ‬صار‭ ‬من‭ ‬المعتاد‭ ‬أن‭ ‬تطلب‭ ‬مني‭ ‬أم‭ ‬الجعافر‭ ‬‭ ‬وبكل‭ ‬بجاحة‭ ‬ووقاحة‭ ‬‭ ‬أن‭ ‬أزودها‭ ‬بكوب‭ ‬شاي‭..  ‬نسوان‭ ‬آخر‭ ‬زمن،‭ ‬وعندي‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬عدة‭ ‬كاملة‭ ‬لإعداد‭ ‬الشاي‭..  ‬لا‭ ‬أحتاج‭ ‬إلى‭ ‬خدمات‭ ‬‮«‬رفيق‮»‬‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الشاي‭ ‬وهكذا‭ ‬أبعدت‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬شبهة‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬البعثيين‭ ‬والشيوعيين‭ ‬وكل‭ ‬الرفاق‭!!  ‬ثم‭ ‬اكتشفت‭ ‬المزايا‭ ‬الصحية‭ ‬المهولة‭ ‬الناتجة‭ ‬عن‭ ‬شرب‭ ‬الشاي‭..  ‬فشكراً‭ ‬للخليج،‭ ‬وقد‭ ‬أحدثكم‭ ‬عنها‭ ‬غدا‭ ‬وقد‭ ‬لا‭... ‬والأمور‭ ‬بيد‭ ‬الله‭ ‬ومن‭ ‬بعده‭ ‬يتوقف‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬مزاجي‭ ‬بعد‭ ‬كوب‭ ‬الشاي‭ ‬الصباحي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا