زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ركزوا على الحاضر وليس المستقبل
على مدى عقود من الزمان كان «الإنشاء/ التعبير» نشاطا مدرسيا يبرع فيه أقلية من الطلاب، وكانت مواضيع الإنشاء هي، هي، من المحيط إلى الخليج: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام،.. كيف قضيت عطلتك الصيفية؟ ماذا تفعل لو هبطت عليك ثروة ضخمة؟ وكان الطالب الذي يحصل على تقدير «ممتاز» هو الذي يحسن استخدام المعلبات من محسنات بديعية ويتلاعب بالألفاظ مجاراة لابن العميد أو ابن النقيب أو ابن وكيل العريف! وفجأة صار الإنشاء نشاطا للكبار، وصارت العواصم العربية تتبارى لعقد منافسات في الإنشاء يشارك فيها الكبار بل الكبار جدا، وبنفس طريقة المدارس التي ظلت فيها مواضيع الإنشاء ثابتة ومكررة منذ بدء التعليم النظامي، فإن الكبار يشاركون في مسابقات «إنشاء» عناوينها واحدة حتى وإن تنوعت واختلفت مفرداتها، وحتى لو عقدت تحت مسميات تجنن وتهبل مثل «منتدى ومؤتمر ومنبر وورشة عمل»، والصرعة في منافسات الإنشاء التي تنظمها مختلف العواصم العربية هي «استشراف المستقبل العربي»، مما يجعل الكلمة الإنجليزية oxymoron تقفز إلى الذهن (تعني الجمع بين معنيين متناقضين): المستقبل.. العربي؟ ما يصير! كيف يجتمع النقيضان؟ والمثل الخليجي يقول «اللي ما له أول ما له تالي»، يعني من ليس له حاضر عليه القيمة، ليس له مستقبل، لأن دعامات وأسس المستقبل لا بد أن تكون متوافرة في الوقت الراهن والحاضر، وإلا فسنظل كما نحن نعيش على ذكريات الماضي «التليد»، حتى صار صلاح الدين الأيوبي وابن سينا والخوارزمي يتميزون غيظا في قبورهم، بعد أن تحول ورثتهم إلى كائنات مجترة، تختزن معارف وأمجاد غابرة في أسنمتها، وتلوك وتعجن سيرة كل منهم بسطحية مقززة (سألت ذات ندوة ما في جامعة ما الحضور من الطلاب عمن هو عدو العرب الأول، فقالوا بالإجماع: إسرائيل، ثم سألتهم عن لورد بلفور، فكانت أقرب الإجابات للصحة: سيارة أمريكية بالدفع الرباعي)
المستقبل يحتاج إلى بنى أساسية: علم وتنوير وخطط ونشاط جماعي. ومن حاضره تعس بائس فإن مستقبله يكون أكثر تعاسة وبؤسا. وباختصار، لا أرى داعيا للحديث عن المستقبل من خلال المنابر العامة أو الخاصة، وشخصيا لست معنيا بالمستقبل، وأعرف أن معظم المواطنين العرب لا يشغلون أنفسهم به، فما يهمني هو أن أشعر أنا ومن حولي بالأمن والأمان وراحة البال وأن نحصل على نصيب طيب من التعليم والرعاية الصحية والرزق الحلال، وأن تكون لنا كلمة في كل شأن يخصنا. ونريد ذلك الآن، والمسألة لا تحتاج إلى ندوات ومحاضرات، وإذا ضمنا تلك الأشياء فسنضمن أن مستقبلنا سيكون أفضل من حاضرنا.
دعونا نطرح الأمر بشكل مبسط: هنالك عائلة تتألف من زوج وزوجة وبعض العيال. الزوج متسلط أو مستهتر أو يتسم باللامبالاة، وطلباته أوامر وكلامه «ماشي» حتى لو كان على خطأ، ويا ويل من يتجرأ على الاعتراض على كلامه. ما مستقبل عائلة كهذه؟ قد ينشأ الأولاد على شاكلته ويجارونه في الفظاظة والغلظة عندما تصبح لهم زوجات وعيال، وقد يكبرون ويتمردون على الأب ويجنحون إلى الهرب من الواقع إلى دنيا المخدرات، أو عالم الجريمة الواسع الرحب، والتمرد ليس بالضرورة عملا محمودا، فيا ما تمرد أفراد وجماعات وانساقوا في نفس الطريق الذي خرجوا عليه، رافضين له.
ارحمونا من الحديث عن المستقبل والأجيال الصاعدة، لأنكم تعرفون أن تلك الأجيال بدأت سلفا في السقوط والهبوط والانحدار. لأن الظل لا يستقيم والعود أعوج. يريد الواحد منا خبزا وسقفا يستند إلى جدران غير آيلة للسقوط، وكتابا وجريدة وطبيبا يستقبلنا لأننا آدميون وليس لأننا أولاد عوائل وقبائل، ونريد شرطيا يعطينا الإحساس بالأمان، وليس من يبعث فينا الخوف عندما يكون قريبا منا، وهذه أمور لا تحتاج إلى ندوات ومنتديات ونظريات، وارحمونا من كلمة «استشراف» لأنها على وزن استف.....
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك