العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كل الحب للسيد رجب

والسودان‭ ‬يشهد‭ ‬حربا‭ ‬لا‭ ‬أخلاقية‭ ‬تدور‭ ‬رحاها‭ ‬فوق‭ ‬رؤوس‭ ‬المواطنين‭ ‬غير‭ ‬المسلحين،‭ ‬في‭ ‬تزامن‭ ‬مع‭ ‬انهيار‭ ‬أخلاقي‭ ‬جعل‭ ‬بعض‭ ‬ضعاف‭ ‬النفوس‭ ‬يتخصصون‭ ‬في‭ ‬نهب‭ ‬الممتلكات‭ ‬من‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬هجرها‭ ‬أهلها‭ ‬طلبا‭ ‬للسلامة،‭ ‬استحضرت‭ ‬حكاية‭ ‬الكرواتي‭ ‬الحاج‭ ‬ريجو‭ (‬رجب‭)‬،‭ ‬وشعرت‭ ‬بالكثير‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬والفرح‭: ‬هو‭ ‬شخص‭ ‬مارس‭ ‬الفلاحة‭ ‬منذ‭ ‬ان‭ ‬بلغ‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة،‭ ‬وظل‭ ‬قانعا‭ ‬بما‭ ‬تدره‭ ‬عليه‭ ‬أرض‭ ‬أجداده،‭ ‬لكنه‭ ‬مثل‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬البلقان‭ ‬شهد‭ ‬الأهوال‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬الصرب‭ ‬ينكلون‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬في‭ ‬عمليات‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية،‭ ‬وفقد‭ ‬رجب‭ ‬خلالها‭ ‬زوجته‭ ‬وشقيقه،‭ ‬وخسر‭ ‬الجرارات‭ ‬والمركبات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يستخدمها‭ ‬في‭ ‬الزارعة‭.                                                                                              ‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬وجد‭ ‬الحاج‭ ‬رجب‭ ‬لفافة‭ ‬بلاستيكية،‭ ‬وفضها‭ ‬ليجد‭ ‬بداخلها‭ ‬مليوني‭ ‬يورو،‭ ‬أي‭ ‬نحو‭ ‬مليونين‭ ‬وثلاثمائة‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬أمريكي،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬في‭ ‬اللفافة‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬الى‭ ‬اسم‭ ‬او‭ ‬عنوان‭ ‬صاحبها،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬توجه‭ ‬الى‭ ‬محطة‭ ‬التلفزيون‭ ‬المحلية‭ ‬ليعلن‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عثوره‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬النقدية،‭ ‬واتضح‭ ‬أنها‭ ‬تخص‭ ‬شخصا‭ ‬باع‭ ‬أرضه‭ ‬وبيته‭ ‬ومحلات‭ ‬تجارية‭ ‬كان‭ ‬يملكها‭ ‬لتوفير‭ ‬المال‭ ‬لعلاج‭ ‬ابنه‭ ‬المصاب‭ ‬بسرطان‭ ‬الدم،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬اول‭ ‬مرة‭ ‬يعثر‭ ‬فيها‭ ‬رجب‭ ‬على‭ ‬مال‭ ‬ملقى‭ ‬في‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق،‭ ‬فقد‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬وجد‭ ‬خلال‭ ‬الفترة‭ ‬المضطربة‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬كرواتيا،‭ ‬نحو‭ ‬ستين‭ ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬كان‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬سحبها‭ ‬من‭ ‬البنك‭ ‬لشراء‭ ‬بيت‭ ‬وسقطت‭ ‬منه،‭ ‬ففوض‭ ‬أمره‭ ‬إلى‭ ‬الله،‭ ‬فأكرمه‭ ‬الله‭ ‬بأن‭ ‬جعل‭ ‬شخصا‭ ‬أمينا‭ ‬شريفا‭ ‬مثل‭ ‬رجب‭ ‬يعثر‭ ‬عليها‭ ‬ويعيدها‭ ‬اليه،‭ ‬وفي‭ ‬كلتا‭ ‬الحالتين‭ ‬رفض‭ ‬رجب‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬نسبة‭ ‬10‭% ‬من‭ ‬المبلغ‭ ‬التي‭ ‬يسمح‭ ‬القانون‭ ‬لمن‭ ‬عثر‭ ‬عليه‭ ‬بالحصول‭ ‬عليها،‭ ‬ولكن‭ ‬الرئيس‭ ‬الكرواتي‭ ‬ومؤسسة‭ ‬‮«‬أدرا‮»‬‭ ‬الخيرية‭ ‬قاما‭ ‬بتكريمه‭ ‬بمنحه‭ ‬فيلا‭ ‬صغيرة‭ ‬وجميلة‭.‬

طبعا‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬حاج‭ ‬رجب‭ ‬من‭ ‬ألسنة‭ ‬الناس‭ ‬فقد‭ ‬وصفه‭ ‬كثيرون‭ ‬بأنه‭ ‬عبيط‭ ‬وأبله‭ ‬ومغفل‭ ‬وساذج‭ ‬‮«‬خلي‭ ‬أمانتك‭ ‬تنفعك‮»‬‭. ‬هؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬متعة‭ ‬الإحساس‭ ‬براحة‭ ‬البال‭ ‬والضمير‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬لو‭ ‬رأى‭ -‬مثلا‭- ‬ألف‭ ‬دولار‭ ‬تسقط‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬يسير‭ ‬أمامه،‭ ‬داس‭ ‬عليها‭ ‬برجله‭ ‬ولا‭ ‬يلتقطها‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬يطمئن‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬صاحب‭ ‬المال‭ ‬لم‭ ‬يحس‭ ‬بفقدانه‭ ‬وواصل‭ ‬سيره،‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬يفكر‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬يمثل‭ ‬أجرة‭ ‬كذا‭ ‬شهر‭ ‬للمنزل‭ ‬الذي‭ ‬يستأجره‭ ‬صاحب‭ ‬المال‭ ‬الأصلي،‭ ‬وتمكن‭ ‬من‭ ‬الحصول‭ ‬عليه‭ ‬بالاقتراض‭ ‬لتفادي‭ ‬حكم‭ ‬بطرده‭ ‬وعائلته‭ ‬من‭ ‬المنزل،‭ ‬فهناك‭ ‬أناس‭ ‬أعطوا‭ ‬ضمائرهم‭ ‬إجازات‭ ‬مفتوحة،‭ ‬ولا‭ ‬يهمهم‭ ‬مصدر‭ ‬المال‭: ‬خزانة‭ ‬الحكومة‭ ‬أو‭ ‬مال‭ ‬يتيم‭ ‬أو‭ ‬مال‭ ‬تم‭ ‬جمعه‭ ‬بـ«ذريعة‮»‬‭ ‬مشروع‭ ‬خيري‭.‬

في‭ ‬مناسبة‭ ‬اجتماعية‭ ‬تخص‭ ‬عائلتي‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬عامة،‭ ‬دعوت‭ ‬اليها‭ ‬نفرا‭ ‬ليس‭ ‬قليلا‭ ‬من‭ ‬الناس،‭ ‬توقفت‭ ‬عند‭ ‬طاولة‭ ‬ضمت‭ ‬عددا‭ ‬منهم‭ ‬لتحيتهم‭ ‬بالسؤال‭ ‬عن‭ ‬حال‭ ‬العيال‭ ‬والماعز‭ ‬والضأن‭ ‬والجيران،‭ ‬وبعد‭ ‬دقائق‭ ‬افتقدت‭ ‬هاتفي‭ ‬الجوال،‭ ‬وكنت‭ ‬متأكدا‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬وضعته‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الطاولة‭ ‬كي‭ ‬أمارس‭ ‬التحية‭ ‬باليدين‭. ‬واستخدمت‭ ‬هاتف‭ ‬صديق‭ ‬وأدرت‭ ‬الرقم‭ ‬الخاص‭ ‬بي،‭ ‬ولكن‭ ‬الهاتف‭ ‬كان‭ ‬مغلقا،‭ ‬فكرت‭ ‬برهة‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬الى‭ ‬الجالسين‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬وأقول‭ ‬لهم‭: ‬أحدكم‭ ‬سرق‭ ‬هاتفي‭ ‬وأرجو‭ ‬ان‭ ‬يعيده‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭ ‬وإلا‭ ‬فالشرطة‭ ‬بيننا‭!! ‬لكنني‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬عيب‮»‬‭. ‬عيب‭ ‬لأنه‭ ‬ليس‭ ‬منطقيا‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬جميع‭ ‬الجالسين‭ ‬على‭ ‬الطاولة‭ ‬قد‭ ‬تواطأوا‭ ‬لسرقة‭ ‬الجوال،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬الخلق‭ ‬وآداب‭ ‬الضيافة‭ ‬إلقاء‭ ‬الاتهام‭ ‬بالجملة‭ ‬وأخذ‭ ‬البريء‭ ‬بجريرة‭ ‬المذنب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬واحدا‭ ‬فقط‭ ‬منهم‭.‬

حتى‭ ‬في‭ ‬المكاتب‭ ‬صار‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬يحمل‭ ‬هاتفه‭ ‬الجوال‭ ‬الى‭ ‬دورة‭ ‬المياه،‭ ‬فالأمانة‭ ‬صارت‭ ‬عملة‭ ‬نادرة،‭ ‬وأسوأ‭ ‬ما‭ ‬ترتب‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬صرنا‭ ‬نسيء‭ ‬الظن‭ ‬بالآخرين،‭ ‬وهذا‭ ‬يؤدي‭ ‬الى‭ ‬الانغلاق‭ ‬والجفاء،‭ ‬لكنني‭ ‬على‭ ‬ثقة‭ ‬بأن‭ ‬الأخيار‭ ‬أكثر‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬الأشرار،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬تتداول‭ ‬الأخبار‭ ‬والأقوال‭ ‬‮«‬السيئة‮»‬،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تبقى‭ ‬الفعال‭ ‬الحسنة‭ ‬قليلة‭ ‬التداول،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬بالحاج‭ ‬رجب‭ ‬إلا‭ ‬اليوم‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حكاية‭ ‬المليوني‭ ‬يورو‭ ‬تعود‭ ‬الى‭ ‬عام‭ ‬2011‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا