العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الكواليس

وفاء جناحي

waffajanahi@gmail.com

أين أبي في فرحي وحزني ومرضي؟

عندما‭ ‬تجلس‭ ‬أمام‭ ‬إنسان‭ ‬عاقل‭ ‬وراشد‭ ‬وتسمع‭ ‬معاناته‭ ‬تتعاطف‭ ‬معه،‭ ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬تنظر‭ ‬في‭ ‬عين‭ ‬طفل‭ ‬صغير‭ ‬لا‭ ‬يتعدى‭ ‬عمره‭ ‬12‭ ‬سنة‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬آلامه‭ ‬وقهره‭ ‬تشعر‭ ‬بآلام‭ ‬غريبة‭ ‬وحزن‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬حزن‭.‬

سمعته‭ ‬يصرخ‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬أمه‭ ‬ويقول‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تقولين‭ ‬أبوي‭! ‬أنا‭ ‬ما‭ ‬عندي‭ ‬أبو‮»‬‭ ‬ويجري‭ ‬إلى‭ ‬غرفته‭ ‬الصغيرة،‭ ‬دخلت‭ ‬عليه‭ ‬الغرفة‭ ‬لألومه‭ ‬على‭ ‬صراخه‭ ‬وهو‭ ‬الولد‭ ‬الطيب‭ ‬الهادئ‭ ‬المتفوق‭ ‬دراسيا،‭ ‬لأفاجأ‭ ‬بأنه‭ ‬يضع‭ ‬وجهه‭ ‬في‭ ‬وسادته‭ ‬ليخفي‭ ‬دموعه‭ ‬الغزيرة،‭ ‬شعرت‭ ‬بألم‭ ‬وحزن‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أوصفه‭ ‬فسألته‭ (‬اشفيك‭ ‬حبيبي‭ ‬ليش‭ ‬زعلان‭ ‬وأول‭ ‬مرة‭ ‬تصارخ‭ ‬على‭ ‬أمك؟‭!)‬،‭ ‬فقال‭ ‬لأنها‭ ‬رغم‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬أبوي‭ ‬فيها‭ ‬وفينا،‭ ‬ورغم‭ ‬تركه‭ ‬لنا‭ ‬وهجرنا‭ ‬وعدم‭ ‬صرفه‭ ‬علينا‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬سنتين‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬مازالت‭ ‬تحثنا‭ ‬على‭ ‬حبه‭ ‬واحترامه‭ ‬وتقول‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬هو‭ ‬أبوكم‭!!‬

أضاف‭ ‬منهارا‭ ‬خالتي‭ ‬أبوكم‭ ‬بالاسم‭ ‬فقط‭ ‬ولكن‭ ‬أين‭ ‬هو؟‭ ‬نحن‭ ‬نعاني‭ ‬نفسيا‭ ‬وماديا‭ ‬منذ‭ ‬شهور‭ ‬طويلة،‭ ‬وعندما‭ ‬يتعطف‭ ‬علينا‭ ‬ليأخذنا‭ ‬معه‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬جدتي‭ ‬يكون‭ ‬مشغولا‭ ‬عنا‭ ‬في‭ ‬غرامياته‭ ‬ومغازلاته‭ ‬وحياته‭ ‬الخاصة،‭ ‬حتى‭ ‬عندما‭ ‬نشتهي‭ ‬أنا‭ ‬وإخوتي‭ ‬الصغار‭ ‬أي‭ ‬أكل‭ ‬ونطلبه‭ ‬منه‭ ‬يصرخ‭ ‬فينا‭ ‬ويقول‭ ‬إننا‭ ‬قليلين‭ ‬أدب‭ (‬وما‭ ‬شايفين‭ ‬خير‭) ‬لأننا‭ ‬نطلب‭ ‬أكل؟؟‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬نطلب‭ ‬الأكل‭ ‬من‭ ‬والدنا‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬أحد‭ ‬غريب‭! ‬ثم‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬الأرض‭ ‬وقال‭: ‬نعم‭ ‬نحن‭ ‬ما‭ ‬شايفين‭ ‬عطفا‭ ‬وحنانا‭ ‬وحبا‭ ‬وخيرا‭ ‬من‭ ‬أبونا،‭ ‬لذلك‭ ‬أصبحنا‭ ‬كالمتسولين‭ ‬نتسول‭ ‬رأفته‭ ‬وعطفه‭ ‬وخيره‭ ‬وهذا‭ ‬ذنبه‭ ‬وليس‭ ‬ذنبنا‭.‬

تصوروا‭ ‬عندما‭ ‬يتحدث‭ ‬طفل‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬هكذا‭ ‬كلام؟‭ ‬أصابني‭ ‬كلامه‭ ‬وطريقة‭ ‬محاولته‭ ‬بشرح‭ ‬معاناته‭ ‬بكلماته‭ ‬البسيطة‭ ‬بالبكم‭ (‬وعيوني‭ ‬بققة‭) ‬من‭ ‬الصدمة‭ ‬بصراحة‭ ‬لم‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬أجيبه‭ ‬لثوانٍ،‭ ‬ولكنني‭ ‬حاولت‭ ‬أن‭ ‬أخفف‭ ‬من‭ ‬معاناته‭ ‬وأقول‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬الخير‭ ‬والبركة‭ ‬في‭ ‬أمهم،‭ ‬ولكنني‭ ‬شعرت‭ ‬بأنني‭ ‬أخطأت‭ ‬أو‭ ‬أصبت‭ ‬جرحا‭ ‬غزيرا‭ ‬في‭ ‬الطفل‭ ‬لأنه‭ ‬فتح‭ ‬في‭ ‬البكاء‭ ‬الشديد‭ ‬وقال‭: ‬حبيبتي‭ ‬أمي‭ ‬ما‭ ‬قصرت‭ ‬ولا‭ ‬تقصر‭ ‬معانا‭ ‬تربينا‭ ‬أحسن‭ ‬تربية‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬حب‭ ‬وحنان‭ ‬يكفي‭ ‬العالم‭ ‬كله،‭ ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬تحاول‭ ‬ما‭ ‬تخلينا‭ ‬نحتاج‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬ولكنها‭ ‬وحيدة‭ ‬ليس‭ ‬لديها‭ ‬أهل‭ ‬وراتبها‭ ‬التقاعدي‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬ثلاثة‭ ‬أطفال‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬متعددة‭ ‬من‭ ‬الدراسة،‭ ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬تشتكي‭ ‬ولا‭ ‬تطريه‭ ‬بالسوء‭ ‬والمصيبة‭ ‬إنها‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬أي‭ ‬حرف‭ ‬سيئ‭ ‬عنه‭ ‬وهذا‭ ‬الذي‭ ‬يخنقني‭!‬

طفل‭ ‬أو‭ ‬ولد‭ ‬في‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬مخنوق‭ ‬لأنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬عقوق‭ ‬وظلم‭ ‬والده‭ ‬المراهق،‭ ‬أم‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬الظلم‭ ‬والقهر‭ ‬وضيق‭ ‬المشاعر‭ ‬واليد،‭ ‬وعليها‭ ‬أن‭ ‬تتعايش‭ ‬مع‭ ‬معاناة‭ ‬أطفالها،‭ ‬ولكن‭ ‬التربية‭ ‬والعادات‭ ‬والتقاليد‭ ‬تجبرها‭ ‬أن‭ ‬تكتم‭ ‬قهرها‭ ‬ومعاناتها‭ ‬عن‭ ‬أطفالها‭ ‬بل‭ ‬تحثهم‭ ‬على‭ ‬حب‭ ‬واحترام‭ ‬الأب‭ ‬الظالم‭! ‬

أي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬هذا‭ ‬الذي‭ ‬يرضى‭ ‬أن‭ ‬يذل‭ ‬فلذات‭ ‬كبده‭ ‬ويتركهم‭ ‬بلا‭ ‬نفقة‭ ‬ولا‭ ‬حب‭ ‬ولا‭ ‬رعاية؟

أي‭ ‬عقل‭ ‬وأي‭ ‬دين‭ ‬وأي‭ ‬قانون‭ ‬وأي‭ ‬عادات‭ ‬وتقاليد‭ ‬يرضى‭ ‬أن‭ ‬نفرض‭ ‬حب‭ ‬إنسان‭ ‬ظالم‭ ‬مجرد‭ ‬من‭ ‬الإنسانية‭ ‬والمشاعر‭ ‬الأبوية‭ ‬على‭ ‬أطفال‭ ‬صغار‭ ‬يعانون‭ ‬القهر‭ ‬والذل‭ ‬والمهانة،‭ ‬كيف‭ ‬نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬هو‭ ‬أبوكم‭ ‬وعيب‭ ‬تغلطون‭ ‬عليه‭! ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يمثل‭ ‬ولا‭ ‬نصف‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬صفة‭ ‬الأبوة؟‭ ‬أين‭ ‬كان‭ ‬أبوهم‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬أوقات‭ ‬احتياجهم‭ ‬إليه؟‭ ‬في‭ ‬فرحهم‭ ‬أو‭ ‬مرضهم‭ ‬أو‭ ‬جوعهم‭ ‬أو‭ ‬أو‭...‬؟‭ ‬كيف‭ ‬أستطيع‭ ‬فرض‭ ‬احترام‭ ‬وحب‭ ‬إنسان‭ ‬لا‭ ‬أعرفه‭ ‬إلا‭ ‬بالاسم؟

إقرأ أيضا لـ"وفاء جناحي"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا