زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
اللغو صار مهنة
أحتفظ منذ سنوات بقصاصة لمقال «قديم» للكاتب السعودي الأستاذ فهد بن سليمان الشقيران، بعنوان «قراءة في ظاهرة الألسنة المتدلية» تناول فيه ظاهرة ممارسة اللغو واللقلقة، واعتبار كل متحذلق يجيد التلاعب بالألفاظ مفكرا ومثقفا جهبذا. وقد اختلطت علينا الأشياء واشتبه البقر، حتى صرنا نعتبر كل ثرثار يعتلي منبراً ويرغي ويزبد واللعاب يتطاير من فمه «فارساً»، ليس فقط للكلمة، بل للحجة والمنطق، ذلك أننا جعلنا من طق الحنك مهنة، وكل ذي صوت زاعق يصبح مطلوباً في وسائل الإعلام و«بتاع كله».
أنظر بعض قنواتنا الفضائية التي تستضيف على مدار العام شخصيات معينة تجيد فن الاستفزاز والتحريض، والتهريج، شخصيات قاموسها محدود وأفكارها محدودة، تجترها شهرا بعد شهر، ومصيبتنا هي أننا مازلنا نستخدم معايير ومقاييس سوق عكاظ، لتقييم الساسة والعلماء والمفكرين وأهل الثقافة عامة: الأجهر صوتاً والأطول يبقى في الصف الأول / ذو الصوت الخافت والمتواني يبقى في الصف الثاني. فالكلام الرنان الأجوف «يؤكل» بقلاوة وليس مجرد خبز.
المهرجون الغوغائيون صاروا مطلوبين على نحو خاص في وسائل الإعلام ليقدموا خطابهم الشعبوي الأجوف الذي يدغدغون به حواس السابلة والدهماء. وبالمقابل لم يعد للكلمة المكتوبة سوق رائجة، فطالما هناك من يقدم لك وجبة كلامية سريعة لا تسبب لك إجهاداً عقلياً، فما حاجتك إلى الكلام المكتوب الذي يتطلب إعمال الفكر، ثم الهضم والاستنتاج؟
تجار الكلام يقدمون لك وجبات كلامية مسبقة الهضم. فهذا كأن يقوم شخص ما بمضغ الطعام ثم إخراجه من فمه ووضعه في حلقك لينزل جوفك مباشرة دون مجهود من جانبك! إخخخخ؟ قرف؟ ولكن هذا بالضبط ما يتعرض له من يصفقون ويهللون لكل صاحب حلقوم وبلعوم واسعين.
توقف الأستاذ فهد الشقيران طويلا عند ظاهرة رواج الشعر الشعبي/ العامي، وهو مثلي لا يرى ضيرا في إعجاب الناس بالشعراء الشعبيين المجيدين، أصحاب المواهب الحقيقية، ولكنه لا يفهم لماذا يريد نصف الخليجيين أن يصبحوا شعراء، وكأن الشعر سلعة مثل صبغة الشعر تشتريها من راجو أو كومار أو كارفور، و«شخارم بخارم»، ثم يتقمصك شيطان الشعر، ويصبح من حقك أن تظهر على شاشات التلفزيون، وتهز المنابر ثم تنتج أشرطة وسي ديهات ودواوين مطبوعة وتصبح مشهوراً و«تطلع يا مسعد عليك الغناوي/ وتحبك مشيرة وبنات الجزيرة».
شخصياً اعتبر الشعر وجبة ضرورية في حياتي اليومية، ولا أحسب أنه يمر بي يوم واحد، دون أن اقرأ بضعة أبيات من الشعر ولو في صحيفة يومية، واعتقد أن هناك شعراً بالعربية العامية جدير بالاحتفاء. فالشعر شعر وكفى، والمهم في تقديري - وتقديري لا يلزم أحدا - أن تكون القصيدة حلوة المعاني والمفردات وجميلة الإيقاع سواء بالعامية أو بالفصحى، ولكن قلة قليلة هي التي تستطيع كتابة قصيدة بمثل تلك المواصفات، ولو كان حب الشعر وحفظه عن ظهر قلب يجعل من الإنسان شاعرا، لكان صاحبكم هذا (شخصي) متنبي هذا الزمان. فقد قرأت شعر إيليا أبو ماضي كله وحفظت مئات الأبيات منه وأنا دون الـ 15 وانتقلت بعدها إلى المعري والمتنبي والبحتري وصولا إلى السياب ونازك والفيتوري وعبدالصبور ودرويش، وركبني الغرور في مرحلة ما وحسبت أنني «وصلت» وصرت قادراً على كتابة قصائد يتغنى بها المطربون، فارتكبت شعرا أنزل علي عقابا بدنيا.
من الحقائق العلمية الثابتة أن نسبة جمال الصوت بين الرجال أعلى منها بين النساء، ومقابل كل خمسة أصوات رجالية جميلة، يوجد صوت نسائي واحد جميل، (وأتحدث هنا عن جمال الصوت من حيث التنغيم والتطريب، وليس الدلال الذي يخلخل أوصال الرجال)، والشواهد تقول: أن هناك شاعرا واحدا «عليه القيمة» بين كل مليون نسمة. ولهذا، فليس من المفهوم لماذا يجلس الناس في قاعات يصفقون لكل ناعق وزاعق ينثر أمامهم الشعير ويسميه شعرا.
والمصيبة الكبرى تكمن في الهوس بشعر الغزل رغم أنه أصعب فنون الشعر، لأن «الأقدمين» قالوا فيه معظم ما يمكن أن يقال، ولا يستطيع ان يأتي فيه بجديد، إلا أصحاب المواهب البارعة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك