العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

غزلية في الحمير

عندما‭ ‬كنا‭ ‬صغارا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬مراكز‭ ‬صحية،‭ ‬بل‭ ‬كنا‭ ‬نتلقى‭ ‬العلاج‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬الشفخانة،‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬شفخانة‭ (‬كلمة‭ ‬تركية‭ ‬‮«‬شفا‭ ‬خانة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬الاستشفاء‭) ‬نحو‭ ‬ستة‭ ‬أوعية‭ ‬زجاجية‭ ‬ضخمة‭ ‬تحوي‭ ‬أدوية‭ ‬سائلة‭ ‬لعلاج‭ ‬الأمراض‭ ‬الشائعة‭: ‬يقف‭ ‬المرضى‭ ‬في‭ ‬طابور‭ ‬ويمد‭ ‬الممرض‭ ‬كأسا‭ ‬صغيرة‭ ‬بها‭ ‬الدواء‭ ‬لكل‭ ‬واحد،‭ ‬ويتغير‭ ‬الدواء‭ ‬ولا‭ ‬يتغير‭ ‬الكأس،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الوارد‭ ‬ان‭ ‬تدخل‭ ‬الشفخانة‭ ‬مصابا‭ ‬بإسهال‭ ‬وتخرج‭ ‬منها‭ ‬مصابا‭ ‬بإنفلونزا‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الإقبال‭ ‬على‭ ‬الشفخانات‭ ‬كبيرا،‭ ‬لأن‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬كانوا‭ ‬يتعالجون‭ ‬بالعون‭ ‬الذاتي‭ ‬بوصفات‭ ‬شعبية،‭ ‬وكتبت‭ ‬كثيرا‭ ‬عن‭ ‬كيف‭ ‬أرغمتني‭ ‬أمي‭ ‬على‭ ‬شرب‭ ‬لبن‭ ‬حمارة‭ ‬جربانة‭ ‬بعد‭ ‬إصابتي‭ ‬بسعال‭ ‬حاد،‭ ‬وكانت‭ ‬حمارة‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬إسهال‭ ‬شبه‭ ‬دائم‭. ‬ولكنني‭ ‬شفيت‭ ‬من‭ ‬السعال‭ ‬بعد‭ ‬شرب‭ ‬لبنها‭ ‬يومين‭ ‬متتاليين،‭ ‬وفي‭ ‬أول‭ ‬سنة‭ ‬لي‭ ‬بدولة‭ ‬الإمارات‭ ‬زرت‭ ‬بستانا‭ ‬لبدوي‭ ‬وقدم‭ ‬لي‭ ‬كوبا‭ ‬ضخما‭ ‬من‭ ‬اللبن‭ ‬الطازج‭ ‬أبو‭ ‬رغوة،‭ ‬ووجدته‭ ‬لذيذا‭ ‬وشربته‭ ‬كله،‭ ‬وبعد‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬هذيان،‭ ‬وعلمت‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يشرب‭ ‬لبن‭ ‬الناقة‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬يشربه‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬ويطلع‭ ‬من‭ ‬هناك،‭ ‬فيصاب‭ ‬بفقدان‭ ‬السوائل‭! ‬ثم‭ ‬أثبت‭ ‬العلم‭ ‬أن‭ ‬لبن‭ ‬الناقة‭ ‬الحامض‭ ‬يخفف‭ ‬‮«‬السكري‮»‬‭ ‬وتناقلت‭ ‬وكالات‭ ‬الأنباء‭ ‬أمر‭ ‬السيدة‭ ‬ماريا‭ ‬استير‭ ‬هيرديا‭ ‬ليكاردو‭ ‬التي‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬إكوادور‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الجنوبية‭ ‬والتي‭ ‬احتفلت‭ ‬بذكرى‭ ‬مولدها‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬بعد‭ ‬المائة‭! ‬سألوها‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬عيشها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬فقالت‭: ‬ربما‭ ‬لأنني‭ ‬أعيش‭ ‬أساسا‭ ‬على‭ ‬لبن‭ ‬الحمير‭.‬

كل‭ ‬عام‭ ‬يتعرض‭ ‬العالم‭ ‬لإنفلونزا‭ ‬سببها‭ ‬الطيور‭ ‬أو‭ ‬الخنازير‭ ‬أو‭ ‬البعير،‭ ‬فدعك‭ ‬من‭ ‬لقاح‭ ‬التاميفلو‭ ‬وجرعات‭ ‬فيتامين‭ ‬سي‭ ‬وعليك‭ ‬ان‭ ‬تشتري‭ ‬حمارة‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الاحتياط‭ ‬للإنفلونزا،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬مكانك‭ ‬لعجلت‭ ‬بشراء‭ ‬الحمارة‭ ‬لأن‭ ‬الأغنياء‭ ‬سيدخلون‭ ‬سوق‭ ‬الحمير‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬لبنها‭ ‬لمعالجة‭ ‬نوبات‭ ‬السعال‭ ‬المتوقعة،‭ ‬ولكن‭ ‬لضمان‭ ‬العيش‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قرن،‭ ‬فكثير‭ ‬من‭ ‬الأغنياء‭ ‬لو‭ ‬قيل‭ ‬لهم‭ ‬ان‭ ‬الصرصور‭ ‬المقلي‭ ‬بزيت‭ ‬تشحيم‭ ‬السيارات‭ ‬يطيل‭ ‬العمر‭ ‬لخلت‭ ‬دورات‭ ‬المياه‭ ‬من‭ ‬الصراصير‭.. ‬وإذا‭ ‬شرع‭ ‬الأغنياء‭ ‬في‭ ‬شراء‭ ‬الحمير‭ ‬فإن‭ ‬سعر‭ ‬الحمار‭ ‬سيفوق‭ ‬سعر‭ ‬السيارة‭ ‬المرسيدس،‭ ‬وسيكف‭ ‬الأغنياء‭ ‬عن‭ ‬التباهي‭ ‬بسياراتهم‭ ‬ويصبح‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬مجالسهم‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬رايح‭ ‬المطار‭ ‬بعد‭ ‬شوية‭ ‬استقبل‭ ‬حمارة‭ ‬فور‭ ‬ويل‭ ‬اشتريتها‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬درمان‭. ‬شوفوا‭ ‬صورتها‭.. ‬بذمتك‭ ‬ما‭ ‬تجنن‭.. ‬وراح‭ ‬أشتري‭ ‬أرض‭ ‬جاري‭ ‬لأوسع‭ ‬صالون‭ ‬الحمير‭!.. ‬وهكذا‭ ‬ستجد‭ ‬السيارات‭ ‬الفارهة‭ ‬واقفة‭ ‬على‭ ‬قارعة‭ ‬الطريق‭ ‬بينما‭ ‬تحتل‭ ‬الحمير‭ ‬مكانها‭ ‬في‭ ‬الظل‭ ‬المزود‭ ‬بمكيفات‭ ‬الهواء‭ ‬وسنقرأ‭ ‬إعلانات‭: ‬مطلوب‭ ‬دادة‭ ‬حمير‭ ‬ذات‭ ‬خبرة‭.. ‬مطلوب‭ ‬توريد‭ ‬بامبرز‭ ‬حمير‭ ‬وتبن‭ ‬مبستر،‭ ‬وبرسيم‭ ‬‮«‬خالي‮»‬‭ ‬من‭ ‬الكولسترول‭ ‬وماء‭ ‬مفلتر‭ ‬خالي‭ ‬الدسم‭. ‬وستطالع‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬أيضا‭ ‬إعلانات‭ ‬عجيبة‭: ‬حمارة‭ ‬رمادية‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬محافظة‭ ‬ترتدي‭ ‬جاكيت‭ ‬أسود‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬العائلة‭ ‬يوم‭ ‬السبت‭ ‬الماضي‭ ‬ولم‭ ‬تعد‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭.. ‬مكافأة‭ ‬13‭ ‬آلاف‭ ‬دولار‭ ‬لمن‭ ‬يعثر‭ ‬عليها‭.‬

وانتعاش‭ ‬سوق‭ ‬الحمير‭ ‬سيشعلل‭ ‬المسائل‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬أقاليم‭ ‬السودان،‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬تفشي‭ ‬وباء‭ ‬المطالبة‭ ‬بقسمة‭ ‬السلطة‭ ‬والثروة،‭ ‬فأهل‭ ‬منطقة‭ ‬مشروع‭ ‬الجزيرة‭ ‬الزراعي‭ ‬الضخم‭ ‬مثلا‭ ‬سيجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬نهبا‭ ‬لمطامع‭ ‬التماسيح‭ ‬والسماسرة‭ ‬والأثرياء‭ ‬الجدد‭! ‬لماذا؟‭ ‬لأن‭ ‬مشروع‭ ‬الجزيرة‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ينتج‭ ‬سوى‭ ‬نباتات‭ ‬طفيلية‭ ‬لا‭ ‬تصلح‭ ‬إلا‭ ‬علفا‭ ‬للحمير‭ ‬واختفت‭ ‬من‭ ‬المشروع‭ ‬السيارات‭ ‬وصار‭ ‬الحمار‭ ‬هو‭ ‬وسيلة‭ ‬المواصلات‭ ‬بين‭ ‬أقسامه‭. ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬صارت‭ ‬الحمير‭ ‬أهم‭ ‬ثروة‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الجزيرة‭. ‬وفي‭ ‬إقليم‭ ‬دارفور‭ ‬المضطرب‭ ‬أيضا‭ ‬اسطول‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬الحمير‭. ‬ويا‭ ‬عيب‭ ‬الشوم‭ ‬لو‭ ‬وضع‭ ‬المتفاوضون‭ ‬في‭ ‬الشأن‭ ‬الدارفوري‭ ‬‮«‬توزيع‭ ‬الحمير‮»‬‭ ‬في‭ ‬جدول‭ ‬الأعمال‭.. ‬وسيبقى‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬أهم‭ ‬مصدر‭ ‬للحمير‭ ‬لقربه‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬سوق‭ ‬للدواب‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط،‭ ‬في‭ ‬دراو‭ ‬بمصر‭.. ‬وبوصفي‭ ‬شماليا‭ ‬نوبيا‭ ‬فسأرفع‭ ‬شعار‭ ‬‮«‬حميرنا‭ ‬لنا‭ ‬وبعيرهم‭ ‬إن‭ ‬أمكن‮»‬،‭ ‬يعني‭ ‬لن‭ ‬نكتفي‭ ‬بحميرنا‭ ‬بل‭ ‬سنطالب‭ ‬ببعير‭ ‬المناطق‭ ‬الأخرى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أثبت‭ ‬باحثون‭ ‬سودانيون‭ ‬أن‭ ‬بول‭ ‬الإبل‭ ‬يشفي‭ ‬بعض‭ ‬أمراض‭ ‬الكبد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا