زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
غزلية في الحمير
عندما كنا صغارا لم تكن هناك مراكز صحية، بل كنا نتلقى العلاج فيما يسمى الشفخانة، وكان في كل شفخانة (كلمة تركية «شفا خانة» أي مكان الاستشفاء) نحو ستة أوعية زجاجية ضخمة تحوي أدوية سائلة لعلاج الأمراض الشائعة: يقف المرضى في طابور ويمد الممرض كأسا صغيرة بها الدواء لكل واحد، ويتغير الدواء ولا يتغير الكأس، وبالتالي كان من الوارد ان تدخل الشفخانة مصابا بإسهال وتخرج منها مصابا بإنفلونزا.
ولم يكن الإقبال على الشفخانات كبيرا، لأن معظم الناس كانوا يتعالجون بالعون الذاتي بوصفات شعبية، وكتبت كثيرا عن كيف أرغمتني أمي على شرب لبن حمارة جربانة بعد إصابتي بسعال حاد، وكانت حمارة تعاني من إسهال شبه دائم. ولكنني شفيت من السعال بعد شرب لبنها يومين متتاليين، وفي أول سنة لي بدولة الإمارات زرت بستانا لبدوي وقدم لي كوبا ضخما من اللبن الطازج أبو رغوة، ووجدته لذيذا وشربته كله، وبعد نصف ساعة كنت في المستشفى في حالة هذيان، وعلمت أن من يشرب لبن الناقة لأول مرة يشربه من هنا ويطلع من هناك، فيصاب بفقدان السوائل! ثم أثبت العلم أن لبن الناقة الحامض يخفف «السكري» وتناقلت وكالات الأنباء أمر السيدة ماريا استير هيرديا ليكاردو التي تعيش في إكوادور في أمريكا الجنوبية والتي احتفلت بذكرى مولدها السادسة عشرة بعد المائة! سألوها عن سر عيشها أكثر من قرن فقالت: ربما لأنني أعيش أساسا على لبن الحمير.
كل عام يتعرض العالم لإنفلونزا سببها الطيور أو الخنازير أو البعير، فدعك من لقاح التاميفلو وجرعات فيتامين سي وعليك ان تشتري حمارة من باب الاحتياط للإنفلونزا، ولو كنت مكانك لعجلت بشراء الحمارة لأن الأغنياء سيدخلون سوق الحمير ليس فقط للحصول على لبنها لمعالجة نوبات السعال المتوقعة، ولكن لضمان العيش أكثر من قرن، فكثير من الأغنياء لو قيل لهم ان الصرصور المقلي بزيت تشحيم السيارات يطيل العمر لخلت دورات المياه من الصراصير.. وإذا شرع الأغنياء في شراء الحمير فإن سعر الحمار سيفوق سعر السيارة المرسيدس، وسيكف الأغنياء عن التباهي بسياراتهم ويصبح الكلام في مجالسهم من شاكلة: رايح المطار بعد شوية استقبل حمارة فور ويل اشتريتها من أم درمان. شوفوا صورتها.. بذمتك ما تجنن.. وراح أشتري أرض جاري لأوسع صالون الحمير!.. وهكذا ستجد السيارات الفارهة واقفة على قارعة الطريق بينما تحتل الحمير مكانها في الظل المزود بمكيفات الهواء وسنقرأ إعلانات: مطلوب دادة حمير ذات خبرة.. مطلوب توريد بامبرز حمير وتبن مبستر، وبرسيم «خالي» من الكولسترول وماء مفلتر خالي الدسم. وستطالع في الصحف أيضا إعلانات عجيبة: حمارة رمادية من عائلة محافظة ترتدي جاكيت أسود خرجت من بيت العائلة يوم السبت الماضي ولم تعد حتى الآن.. مكافأة 13 آلاف دولار لمن يعثر عليها.
وانتعاش سوق الحمير سيشعلل المسائل في بعض أقاليم السودان، وخاصة بعد تفشي وباء المطالبة بقسمة السلطة والثروة، فأهل منطقة مشروع الجزيرة الزراعي الضخم مثلا سيجدون أنفسهم نهبا لمطامع التماسيح والسماسرة والأثرياء الجدد! لماذا؟ لأن مشروع الجزيرة لم يعد ينتج سوى نباتات طفيلية لا تصلح إلا علفا للحمير واختفت من المشروع السيارات وصار الحمار هو وسيلة المواصلات بين أقسامه. بعبارة أخرى صارت الحمير أهم ثروة في منطقة الجزيرة. وفي إقليم دارفور المضطرب أيضا اسطول ضخم من الحمير. ويا عيب الشوم لو وضع المتفاوضون في الشأن الدارفوري «توزيع الحمير» في جدول الأعمال.. وسيبقى شمال السودان النوبي أهم مصدر للحمير لقربه من أكبر سوق للدواب في الشرق الأوسط، في دراو بمصر.. وبوصفي شماليا نوبيا فسأرفع شعار «حميرنا لنا وبعيرهم إن أمكن»، يعني لن نكتفي بحميرنا بل سنطالب ببعير المناطق الأخرى بعد أن أثبت باحثون سودانيون أن بول الإبل يشفي بعض أمراض الكبد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك