زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الدستور الكستوري
جميع مشاكل السودان محلولة بل تطالع مجريات الأمور السياسية وما يصاحبها من جدل فتحسب أن البلاد لا تواجه مشكلة من أي نوع، فأهل الحكم والمعارضة يقولون للمواطن إن السودان سيصبح قوة عظمى متى ما تم الاتفاق على دستور مع أنه ما من مجموعة مدنية أو عسكرية تسلطت على العباد والبلاد إلا وكتبت دستورا، ونهش كل دستور بعضا من لحم البلاد، حتى صارت قوة «عظمية».
وبما أنني قضيت قرابة ثلاثة أشهر في كلية القانون في بداية دراستي الجامعية، فإنني ذو ثقافة واسعة في مجال القانون الدستوري والجنائي والمدني والتجاري والكروي. يعني أعزف على «القانون» بطريقة مذهلة، وأستطيع العزف القانوني بما يرضي كل طرف جالس في قصر الحكم، ولي دراسات منشورة في «أخبار الخليج» وغيرها، أكدت فيها مرارا أن أجود أنواع الدستور هي تلك المصنوعة من الكستور، الذي هو نوع من القماش القطني تشتهر مصر بإنتاجه للطبقات الكادحة، وتصنع منه الجلابيب المنزلية والبيجامات، وكانت نانسي عجرم من التواضع بحيث طلعت المسرح أكثر من مرة بفستان كستور لا يكشف كل ما ينبغي أن يكون «مستورا».
وما يميز الكستور هو أنه ناعم الملمس، ويمكن تفصيله بسهولة ليناسب مختلف المقاسات، وبلد كالسودان أو العراق بحاجة إلى دستور كستوري مؤقت إلى حين أن تأخذ الأمور فيه مجراها الطبيعي، بقيام انقلاب عسكري، أو حكم طائفي لذوي «البركات والكرامات» مواصلة للتقاليد السياسية العربية الأصيلة، فقد خرج الاستعمار من الدول العربية وتركها محكومة بدساتير مؤقتة في إطار نظام حزبي يسمح لأصحاب المال والبركات (من يدعون القداسة) بالسيطرة على مقاليد الأمور، ويصبح حال هذا البلد أو ذاك مائلا فيتقدم العسكر الصفوف ويستولون على السلطة ويقلبون الأوضاع «سَلطَة» بفتح السين والطاء: خس على خيار على جزر على مخلل على نعناع على بقدونس على طماطم على فجل.
ليس السودان والعراق فحسب من يتردد فيه الكلام السمج الفج عن أن التوافق بين ذوي الجاه والسلطان سيطلق للتنمية العنان، وعندنا في السودان كما الحال في غيره من بلاد العرب فإن التاريخ فيه يعيد نفسه! وسيهتف الكثيرون قائلين: إن التاريخ لا يعيد نفسه! كلام فارغ، بل يعيد نفسه و«نُص»! تماماً مثل الحصبة: يصاب طفلك بطفح جلدي وارتفاع في درجة الحرارة فتذهب به إلى الطبيب فيقول: إنه مصاب بالحصبة فتصيح فيه: ما يصير يا دكتور.. أنت بنفسك أعطيته التطعيم ضد الحصبة ولما ظهرت نفس الأعراض، قلت إنه ربما تحدث حصبة على خفيف تحدث أحياناً حتى بعد التطعيم، وإنها لن تصيبه مرة أخرى! هنا يبتسم الطبيب بسخرية ويقول: الولد يعاني هذه المرة الحصبة الألمانية.. ولا يستبعد أن يصاب الولد بمرض ما في المستقبل ويقول لك نفس الطبيب: أنه مصاب بالحصبة الكمبودية! والشاهد هو أنه فيما يتعلق بمسيرة البشر لا يملك أحد منا القول الفصل بالزعم بأن التاريخ يعيد أو لا يعيد نفسه، فها هي أنفلونزا الطيور تتحول إلى أنفلونزا الخفافيش باسم حلو هو كورونا.
على كل حال نصيحتي لجميع العرب هي ألا يضيعوا وقتهم في تفصيل دستور لن يحترمه حتى الذين سيجيزونه، فهناك أناس فوق الدستور والقانون وكراسي الحكم مُفصَّلة على مقاساتهم. بعد الاستقلال ابتلى الله السودان بنحو خمسة دساتير كل واحد منها «أنْيَل» من الذي سبقه، حتى أصيب الشعب السوداني بـ«الدستور» وهو التسمية المحلية للزار، وهو أن يصاب الإنسان بمرض ما فلا يكون شفاؤه إلا بأداء رقصات معينة على إيقاعات وكلمات معينة يستجيب لها «الريح الأحمر»، وهو الجن الذي يسبب مرض الزار. ويخيل إلي أن الزار فبركة أمريكية مثل كثير من الخرافات السياسية، ودليلي على ذلك أن الأمريكان ربما ربطوا الزار بالريح الأحمر للإيحاء بأن الجن الذي يسببه «شيوعي» لأن اللون الأحمر هو شعار الشيوعية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك