العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الدستور الكستوري

جميع‭ ‬مشاكل‭ ‬السودان‭ ‬محلولة‭ ‬بل‭ ‬تطالع‭ ‬مجريات‭ ‬الأمور‭ ‬السياسية‭ ‬وما‭ ‬يصاحبها‭ ‬من‭ ‬جدل‭ ‬فتحسب‭ ‬أن‭ ‬البلاد‭ ‬لا‭ ‬تواجه‭ ‬مشكلة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع،‭ ‬فأهل‭ ‬الحكم‭ ‬والمعارضة‭ ‬يقولون‭ ‬للمواطن‭ ‬إن‭ ‬السودان‭ ‬سيصبح‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬دستور‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬مدنية‭ ‬أو‭ ‬عسكرية‭ ‬تسلطت‭ ‬على‭ ‬العباد‭ ‬والبلاد‭ ‬إلا‭ ‬وكتبت‭ ‬دستورا،‭ ‬ونهش‭ ‬كل‭ ‬دستور‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬لحم‭ ‬البلاد،‭ ‬حتى‭ ‬صارت‭ ‬قوة‭ ‬‮«‬عظمية‮»‬‭.‬

وبما‭ ‬أنني‭ ‬قضيت‭ ‬قرابة‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬القانون‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬دراستي‭ ‬الجامعية،‭ ‬فإنني‭ ‬ذو‭ ‬ثقافة‭ ‬واسعة‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬القانون‭ ‬الدستوري‭ ‬والجنائي‭ ‬والمدني‭ ‬والتجاري‭ ‬والكروي‭. ‬يعني‭ ‬أعزف‭ ‬على‭ ‬‮«‬القانون‮»‬‭ ‬بطريقة‭ ‬مذهلة،‭ ‬وأستطيع‭ ‬العزف‭ ‬القانوني‭ ‬بما‭ ‬يرضي‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬جالس‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬الحكم،‭ ‬ولي‭ ‬دراسات‭ ‬منشورة‭ ‬في‭ ‬‮«‬أخبار‭ ‬الخليج‮»‬‭ ‬وغيرها،‭ ‬أكدت‭ ‬فيها‭ ‬مرارا‭ ‬أن‭ ‬أجود‭ ‬أنواع‭ ‬الدستور‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬المصنوعة‭ ‬من‭ ‬الكستور،‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬القطني‭ ‬تشتهر‭ ‬مصر‭ ‬بإنتاجه‭ ‬للطبقات‭ ‬الكادحة،‭ ‬وتصنع‭ ‬منه‭ ‬الجلابيب‭ ‬المنزلية‭ ‬والبيجامات،‭ ‬وكانت‭ ‬نانسي‭ ‬عجرم‭ ‬من‭ ‬التواضع‭ ‬بحيث‭ ‬طلعت‭ ‬المسرح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬بفستان‭ ‬كستور‭ ‬لا‭ ‬يكشف‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬مستورا‮»‬‭.‬

وما‭ ‬يميز‭ ‬الكستور‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬ناعم‭ ‬الملمس،‭ ‬ويمكن‭ ‬تفصيله‭ ‬بسهولة‭ ‬ليناسب‭ ‬مختلف‭ ‬المقاسات،‭ ‬وبلد‭ ‬كالسودان‭ ‬أو‭ ‬العراق‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬دستور‭ ‬كستوري‭ ‬مؤقت‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬الأمور‭ ‬فيه‭ ‬مجراها‭ ‬الطبيعي،‭ ‬بقيام‭ ‬انقلاب‭ ‬عسكري،‭ ‬أو‭ ‬حكم‭ ‬طائفي‭ ‬لذوي‭ ‬‮«‬البركات‭ ‬والكرامات‮»‬‭ ‬مواصلة‭ ‬للتقاليد‭ ‬السياسية‭ ‬العربية‭ ‬الأصيلة،‭ ‬فقد‭ ‬خرج‭ ‬الاستعمار‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬وتركها‭ ‬محكومة‭ ‬بدساتير‭ ‬مؤقتة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬نظام‭ ‬حزبي‭ ‬يسمح‭ ‬لأصحاب‭ ‬المال‭ ‬والبركات‭ (‬من‭ ‬يدعون‭ ‬القداسة‭) ‬بالسيطرة‭ ‬على‭ ‬مقاليد‭ ‬الأمور،‭ ‬ويصبح‭ ‬حال‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬مائلا‭ ‬فيتقدم‭ ‬العسكر‭ ‬الصفوف‭ ‬ويستولون‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬ويقلبون‭ ‬الأوضاع‭ ‬‮«‬سَلطَة‮»‬‭ ‬بفتح‭ ‬السين‭ ‬والطاء‭:  ‬خس‭ ‬على‭ ‬خيار‭ ‬على‭ ‬جزر‭ ‬على‭ ‬مخلل‭ ‬على‭ ‬نعناع‭ ‬على‭ ‬بقدونس‭ ‬على‭ ‬طماطم‭ ‬على‭ ‬فجل‭.‬

ليس‭ ‬السودان‭ ‬والعراق‭ ‬فحسب‭ ‬من‭ ‬يتردد‭ ‬فيه‭ ‬الكلام‭ ‬السمج‭ ‬الفج‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬التوافق‭ ‬بين‭ ‬ذوي‭ ‬الجاه‭ ‬والسلطان‭ ‬سيطلق‭ ‬للتنمية‭ ‬العنان،‭ ‬وعندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كما‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬العرب‭ ‬فإن‭ ‬التاريخ‭ ‬فيه‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭!  ‬وسيهتف‭ ‬الكثيرون‭ ‬قائلين‭: ‬إن‭ ‬التاريخ‭ ‬لا‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭! ‬كلام‭ ‬فارغ،‭ ‬بل‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه‭ ‬و‮«‬نُص‮»‬‭! ‬تماماً‭ ‬مثل‭ ‬الحصبة‭: ‬يصاب‭ ‬طفلك‭ ‬بطفح‭ ‬جلدي‭ ‬وارتفاع‭ ‬في‭ ‬درجة‭ ‬الحرارة‭ ‬فتذهب‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬الطبيب‭ ‬فيقول‭: ‬إنه‭ ‬مصاب‭ ‬بالحصبة‭ ‬فتصيح‭ ‬فيه‭: ‬ما‭ ‬يصير‭ ‬يا‭ ‬دكتور‭.. ‬أنت‭ ‬بنفسك‭ ‬أعطيته‭ ‬التطعيم‭ ‬ضد‭ ‬الحصبة‭ ‬ولما‭ ‬ظهرت‭ ‬نفس‭ ‬الأعراض،‭ ‬قلت‭ ‬إنه‭ ‬ربما‭ ‬تحدث‭ ‬حصبة‭ ‬على‭ ‬خفيف‭ ‬تحدث‭ ‬أحياناً‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬التطعيم،‭ ‬وإنها‭ ‬لن‭ ‬تصيبه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭! ‬هنا‭ ‬يبتسم‭ ‬الطبيب‭ ‬بسخرية‭ ‬ويقول‭: ‬الولد‭ ‬يعاني‭ ‬هذه‭ ‬المرة‭ ‬الحصبة‭ ‬الألمانية‭..  ‬ولا‭ ‬يستبعد‭ ‬أن‭ ‬يصاب‭ ‬الولد‭ ‬بمرض‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬ويقول‭ ‬لك‭ ‬نفس‭ ‬الطبيب‭: ‬أنه‭ ‬مصاب‭ ‬بالحصبة‭ ‬الكمبودية‭! ‬والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بمسيرة‭ ‬البشر‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬أحد‭ ‬منا‭ ‬القول‭ ‬الفصل‭ ‬بالزعم‭ ‬بأن‭ ‬التاريخ‭ ‬يعيد‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يعيد‭ ‬نفسه،‭ ‬فها‭ ‬هي‭ ‬أنفلونزا‭ ‬الطيور‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬أنفلونزا‭ ‬الخفافيش‭ ‬باسم‭ ‬حلو‭ ‬هو‭ ‬كورونا‭. ‬

على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬نصيحتي‭ ‬لجميع‭ ‬العرب‭ ‬هي‭ ‬ألا‭ ‬يضيعوا‭ ‬وقتهم‭ ‬في‭ ‬تفصيل‭ ‬دستور‭ ‬لن‭ ‬يحترمه‭ ‬حتى‭ ‬الذين‭ ‬سيجيزونه،‭ ‬فهناك‭ ‬أناس‭ ‬فوق‭ ‬الدستور‭ ‬والقانون‭ ‬وكراسي‭ ‬الحكم‭ ‬مُفصَّلة‭ ‬على‭ ‬مقاساتهم‭.  ‬بعد‭ ‬الاستقلال‭ ‬ابتلى‭ ‬الله‭ ‬السودان‭ ‬بنحو‭ ‬خمسة‭ ‬دساتير‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منها‭ ‬‮«‬أنْيَل‮»‬‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬سبقه،‭ ‬حتى‭ ‬أصيب‭ ‬الشعب‭ ‬السوداني‭ ‬بـ«الدستور‮»‬‭ ‬وهو‭ ‬التسمية‭ ‬المحلية‭ ‬للزار،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يصاب‭ ‬الإنسان‭ ‬بمرض‭ ‬ما‭ ‬فلا‭ ‬يكون‭ ‬شفاؤه‭ ‬إلا‭ ‬بأداء‭ ‬رقصات‭ ‬معينة‭ ‬على‭ ‬إيقاعات‭ ‬وكلمات‭ ‬معينة‭ ‬يستجيب‭ ‬لها‭ ‬‮«‬الريح‭ ‬الأحمر‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الجن‭ ‬الذي‭ ‬يسبب‭ ‬مرض‭ ‬الزار‭.  ‬ويخيل‭ ‬إلي‭ ‬أن‭ ‬الزار‭ ‬فبركة‭ ‬أمريكية‭ ‬مثل‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الخرافات‭ ‬السياسية،‭ ‬ودليلي‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الأمريكان‭ ‬ربما‭ ‬ربطوا‭ ‬الزار‭ ‬بالريح‭ ‬الأحمر‭ ‬للإيحاء‭ ‬بأن‭ ‬الجن‭ ‬الذي‭ ‬يسببه‭ ‬‮«‬شيوعي‮»‬‭ ‬لأن‭ ‬اللون‭ ‬الأحمر‭ ‬هو‭ ‬شعار‭ ‬الشيوعية‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا