زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الدراسة وسنين الدراسة
كنت أسعد الناس بالتخرج في الجامعة، ليس لأنني حصلت على البكالوريوس ولكن لأن تلك الشهادة كانت تعني طلاق مرحلة الدراسة والتوتر والأرق والقلق من الامتحانات والنتائج، وما يصاحب ذلك من عتاب وعقاب، ولم يكن تزوير نتائج الامتحانات على عهدنا بكراسي الدراسة ممكنا لأن إدارات المدارس كانت ترسل تلك النتائج مباشرة الى أولياء الأمور، وعشت عدة سنوات بعد هجر مقاعد الدراسة، مرتاح البال نسبياً إلى أن تزوجت وأنجبت، وصار لي عيال سرعان ما كبروا ودخلوا المدارس، فعشت مجدداً أجواء التوتر والقلق والضيق من «الدراسة»: يا ولد ذاكر دروسك.. يا يابا أريد دفتر رسم.. يا بنت لمي شنطتك المدرسية.. ولا بد من توصيل زيد وزبيدة إلى المدارس في مواقيت معلومة ثم إعادتهما إلى البيت.
وحقيقة الأمر هي أن توتر الآخرين هو الذي يوترني منذ أن تركت مقاعد الدراسة، وكان الله قد حباني بميزة عجيبة هي أنني لم أكن أرهب الامتحانات، حتى امتحانات الرياضيات التي كنت أعلم أنني سأرسب فيها بالمزيكة، كنت أجلس إليها متماسكا و«ثابتا»، وكانت لي فلسفتي الخاصة في ذلك وقد أورثتها لعيالي: اعمل اللي عليك، اي استعد للامتحان بما يسمى المذاكرة ولا معنى بعدها للتوتر أو القلق قبل أو خلال الامتحان لأنك ستحصد من الدرجات ما يعادل جهدك المبذول أو أقل أو أكثر منه. يعني اللي بدو يصير، يصير.
ولكن أجواء الامتحانات الكئيبة وتوتر زملائي وأصدقائي وأقاربي من حولي هو الذي يجعلني أضيق بالامتحانات، بل صرت أضيق بأجواء الدراسة عموما، وأحس بالضيق مع بداية كل عام دراسي: غليان في حركة المرور. وفي الأسواق تحسب أن العيد على الأبواب.. هجوم على متاجر الأقمشة لشراء الزي المدرسي، ومعارك في محلات الخياطة لأن الخياط يقول إن الملابس لن تكون جاهزة إلا بعد ثلاثة أيام من بدء العام الدراسي (يذكرني هذا بطرفة تروى عن خياط غير مسلم من أبناء جنوب السودان جاءه نفر فقدوا عزيزا لديهم بالكفن ليخيطه، فوضع قماش الكفن في صندوق وقال لهم: تعالوا بعد يومين).. أم محمد تشتم الخياط: ما فيك خير.. حنا زبائنك من خمس سنوات وتريد البنت تروح المدرسة بمريول العام اللي طاف (فات)؟ فيقول الخياط: ماما إنتي مافي فكر مدرسة في إلا قبل يوم واحد من سنة جديد... كلش نفرات جيب مريول قبل أشرة كمسة (يعني خمسة عشر) يوم.. وإنتي جيب قماش قبل أشرة كمسة ساءة (ساعة)؟ وتقول له أم محمد: مالت عليك.. ولكن الخياط يبتسم من موقع قوة!.. والمكتبات؟ هجوم على أقلام الرصاص والحبر والدفاتر والحقائب المدرسية والصغار يرفضون معظم المعروض من الحقائب ويرفضون استخدام حقائب العام الماضي «لأن موضتها راحت».. هذا يريد حقيبة أديداس وذاك حقيبة نايكي.
ذات عام أصر ولدي لؤي على شراء حقيبة نايكي، تلك الشركة التي اشتهرت بصنع مستلزمات الرياضة واكتشفت أن ثمن الحقيبة يعادل ما أنفقه أهلي على تعليمي منذ المرحلة الابتدائية حتى حصلت على عمل بعد نيل الشهادة الجامعية، فقلت له إنه سيقتني حقيبة نايكي المنشودة، واشتريت من وراء ظهره حقيبة عادية بمبلغ زهيد وذهبت إلى محل خطاط هندي وطلبت منه أن يرسم علامة «صح» على جانبي الشنطة بحيث تأتي مطابقة لشعار نايكي الذي هو علامة «صح» وفرح الصغير بالشنطة وكان موضع حسد بعض زملائه الذين كانوا يحملون حقائب ميكي وبطوط (لسوء حظي صمدت العلامة نحو شهرين فاضطررت إلى شراء عدة حقائب نايكي بالطريقة الهندية تلك له خلال عام دراسي واحد).
كلما رأيت طفلاً أو رضيعا يبتسم ويقفز هانئ البال قلت في سري: المسكين ما يدري المستخبي. على الأقل 16 سنة من وجع الرأس والواجبات المدرسية وحمل حقائب تسبب اعوجاج السلسة الفقرية. وشتائم لأنه رسب في الرياضيات أو وصل إلى المدرسة متأخراً.. وبعد الـ16 سنة قد يكتشف أنه ظل طوال تلك الأعوام حماراً يحمل أسفارا وأنه لم يتعلم شيئاً ذا بال وأن عليه أن يتبهدل نحو أربع سنوات أخرى في المقاهي والأرصفة إلى أن يحصل على عمل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك