زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
المال والعيال والصحة
نشرت مجلة نيوزويك الأمريكية ملفا بعنوان «عائلتك وصحتك»، وقد سبق للمجلة ونظيرتها «تايم» فتح هذ الملف عدة مرات في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد أن صار الناس أكثر ميلا للوجبات السريعة، ومن ثم أكثر ميلا لعدم تناول الطعام في البيوت، وهذا في حد ذاته مؤشر إلى أن نسيج العائلات بدأ في التفكك، فجلوس العائلة على مائدة واحدة ولو مرة واحدة في اليوم يساعد على تجانس وتآلف أفرادها واكتسابهم العافية النفسية والاجتماعية.
وكما هو مألوف في الصحافة الغربية عموما، فقد تم تناول هذا الموضوع الشائك بلغة خالية من التنطع، و«الكلام الكبير» أي المصطلحات المعقدة، بحيث يسهل على القارئ العادي فهم محتواه الذي كان موزعا على 12 صفحة. ويبدأ التقرير بحكاية الطفل توم الذي شكت أمه للطبيب النفساني من أنه عنيد ومشاغب ويخالف توجيهاتها ونصائحها، وذهب الطبيب الى روضة الأطفال التي يقضي فيها توم نصف يومه، فوجده هادئا ومنسجما مع أقرانه، وسمع من أسرة التدريس بالروضة ان توم طفل ذكي وهادئ ووديع! هنا أحس الطبيب أن الحكاية فيها «إنّ»، وجلس مع الأم طويلا، وعرف منها انها مطلقة وأن عليها أعباء منزلية كثيرة ومرهقة وخاصة ان هناك أطفالا غير توم بحاجة إلى رعايتها.
باختصار اكتشف الطبيب ان الأم وليس توم تعاني من اكتئاب مرضي، وأنها كانت تهمل أمر توم، ما جعله يعاني من اضطراب يسميه الأطباء أتينشن ديفيسيت attention deficit ومعناه الافتقار إلى الاهتمام، وهو ما يحمل بعض الأطفال وحتى الكبار الى اتيان سلوكيات غريبة للفت الانتباه إلى أنفسهم، وقد يصل ذلك إلى حد إيذاء النفس. وقد تجد فتاة في منتهى الجمال الطبيعي تفرط في استخدام الزينة الاصطناعية التي تفسد جمالها فتبدو كأنها أخت شعبان عبدالرحيم، وربما كان تفسير ذلك أنها برغم جمالها تحس أن من حولها لا يلتفتون اليها –على المستوى الاجتماعي الانساني– فتلجأ الى البهرجة المتبرجة للفت الأنظار. والأتينشن ديفيسيت متفش على نحو وبائي في الأوساط الإعلامية، فتجد إعلاميين كل همهم السباحة عكس التيار حتى في مياه مثلث برمودا، كي يثبتوا تميزهم وتفرُّدهم، وقد يزعم أحدهم على نحو مباشر أو ملتوٍ انه الوحيد المعني بتحرير فلسطين والجميع في نظره خونة وعملاء و«أولاد الذين»، وعندما يجد ان هناك من يوافقه الرأي، ويثني عليه لكونه النصير الأوحد للقضية الفلسطينية، يتحول موقفه 180 درجة فهرنهايت ويصيح: حريقة تحرق فلسطين.. كل بلاوينا من تحت راس فلسطين.
أعود الى نيوزويك وأقول ان تقريرها الصحي ذاك «يهبل» من فرط دسامته وثراء معلوماته، وإن من بين ما جاء فيه أن البيئة العائلية التي ينشأ فيها الإنسان تؤثر على صحته إلى حد كبير. وهناك طبعا الأمراض الوراثية التي تنتقل من جيل إلى آخر، ولكن هناك عوامل أخرى عائلية لها انعكاسات على الصحة، فالحالة المادية للأسرة لها مثل تلك الانعكاسات، ليس لأن وفرة النقود تعني القدرة على شراء الدواء، بل لأن يُسر الحال المادي يعني درجة من الاستقلالية وقدرا أقل من التوتر والهم والغم، وفرصا أكبر للتواصل الاجتماعي، وتقول دراسات أجرتها كليات العلوم الطبية في جامعتي هارفارد وسان انتونيو (تكساس) ان الأثرياء –نسبيا– في الولايات المتحدة يعيشون متوسط 20 سنة أطول من الفقراء. فالفقير لا يحمل فقط هم كسب القوت ويعيش في حالة قلق وشد عصبي بل إنه بداهة لا يملك الحيلة والوسيلة لطلب العلاج الناجع، في عصر صار فيه الطب سلعة لا يستطيع شراءها إلا ذوو اليسار.
أما ما سبب لي لطمة قاسية فهو ان تلك الدراسات تقول ان من نشأ في بيئة فقيرة يكون أكثر عرضة للأمراض حتى لو تحسنت أوضاعه المادية لاحقا! بقى كده؟ وأنا أقول لماذا جهازي الهضمي مخربط وملخبط، ويشتغل بصورة عشوائية محرجة رغم تحسن أوضاعي المالية نسبيا ورغم انني اتعامل مع أفضل الأطباء واشتري أجود أنواع الدواء! يعني الجراثيم والميكروبات تقول لي: بيننا عشرة وصحبة من المهد إلى اللحد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك