العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٤ - الخميس ٢١ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

بركات في نافورة وفي قارورة

ظاهرة‭ ‬ادعاء‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬القداسة‭ ‬وامتلاك‭ ‬قدرات‭ ‬خارقة‭ ‬لجلب‭ ‬النفع‭ ‬وإزالة‭ ‬الضرر‭ ‬باستخدام‭ ‬التعاويذ‭ ‬والتمائم،‭ ‬ليست‭ ‬وقفاً‭ ‬على‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬تتفشى‭ ‬فيها‭ ‬الأمية‭ ‬والجهالة،‭ ‬ففي‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬توصف‭ ‬بالمتقدمة‭ ‬يمارس‭ ‬الكهنوت‭ ‬طقوساً‭ ‬عجيبة‭ ‬مستعينين‭ ‬بقواهم‭ ‬الخارقة‭ ‬المفترضة‭ - ‬مثلا‭ - ‬لمنع‭ ‬انتشار‭ ‬وباء‭ ‬أو‭ ‬لاستنزال‭ ‬المطر،‭ ‬او‭ ‬لدرء‭ ‬الخطر‭ ‬أو‭ ‬لجلب‭ ‬المنافع‭ ‬لمن‭ ‬يصدقونهم‭ ‬من‭ ‬بني‭ ‬البشر‭.‬

ولدينا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬آلاف‭ ‬القباب‭ ‬والأضرحة‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬أسماء‭ ‬‮«‬أولياء‮»‬،‭ ‬وقد‭ ‬تسأل‭ ‬عمن‭ ‬هو‭ ‬مدفون‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬القباب‭ ‬والأضرحة‭ ‬فتكون‭ ‬الإجابة‭ ‬بـ«لا‭ ‬أحد‮»‬‭! ‬كيف‭ ‬يا‭ ‬جماعة؟‭ ‬يقولون‭ ‬لك‭ ‬إن‭ ‬الشيخ‭ ‬فلان‭ ‬الفلاني‭ ‬أتى‭ ‬علان‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يشيدوا‭ ‬له‭ ‬قبة‭ ‬وضريحاً‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬غير‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬مدفون‭ ‬فيه،‭ ‬وبداهة‭ ‬فإن‭ ‬من‭ ‬رأى‭ ‬الشيخ‭ ‬في‭ ‬المنام‭ ‬يصبح‭ ‬وسيطاً‭ ‬وسمساراً‭ ‬روحياً‭ ‬وصاحب‭ ‬بركات‭ ‬‮«‬بالوكالة‮»‬‭! ‬وتختزن‭ ‬الذاكرة‭ ‬السودانية‭ ‬حكاية‭ ‬الشيخ‭ ‬أبو‭ ‬نافورة‭ ‬وأصلها‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬كانت‭ ‬تحفر‭ ‬بئراً‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬السودان‭ ‬لتوفير‭ ‬مياه‭ ‬الشرب‭ ‬للسكان‭ ‬عندما‭ ‬اندفعت‭ ‬المياه‭ ‬بقوة‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬شاهق‭ ‬بمجرد‭ ‬شروع‭ ‬الآليات‭ ‬في‭ ‬الحفر،‭ ‬وكانت‭ ‬المياه‭ ‬شديدة‭ ‬الملوحة،‭ ‬وذاع‭ ‬أمرها‭ ‬وقرر‭ ‬‮«‬بعضهم‮»‬‭ ‬أن‭ ‬تلك‭ ‬المياه‭ ‬مباركة‭ ‬فتدفق‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬البئر‭ ‬بالآلاف‭ ‬يطلبون‭ ‬الشفاء‭ ‬من‭ ‬الأمراض‭ ‬الجلدية‭ ‬والباطنية‭ ‬وأمراض‭ ‬العيون‭ ‬وتسوس‭ ‬الإنسان‭ ‬والعنوسة،‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الاستحمام‭ ‬بذلك‭ ‬الماء‭ ‬يجلب‭ ‬الثروة،‭ ‬وخلال‭ ‬بضعة‭ ‬أشهر‭ ‬صارت‭ ‬عين‭ ‬الماء‭ ‬تلك‭ ‬بؤرة‭ ‬للأمراض‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تلوثت‭ ‬باختلاط‭ ‬الحابل‭ ‬بالنابل،‭ ‬ولما‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬الناس‭ ‬شيخاً‭ ‬ينسبون‭ ‬إليه‭ ‬بركات‭ ‬ذلك‭ ‬النبع‭ ‬صنعوا‭ ‬شيخاً‭ ‬وهمياً‭ ‬سموه‭ ‬الشيخ‭ ‬أبو‭ ‬نافورة،‭ ‬وتحركت‭ ‬الحكومة‭ ‬بسرعة‭ ‬وأغلقت‭ ‬البئر،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتضح‭ ‬أن‭ ‬أبو‭ ‬نافورة‭ ‬هذا‭ ‬سيكون‭ ‬مصدر‭ ‬أوبئة‭ ‬سريعة‭ ‬الانتشار‭ ‬والدمار،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حسبه‭ ‬الناس‭ ‬عنصر‭ ‬إعجاز‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬ذلك‭ ‬البئر‭ ‬هو‭ ‬اندفاع‭ ‬الماء‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬بقوة‭ ‬هائلة،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬حق‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لأولئك‭ ‬القوم‭: ‬هناك‭ ‬آلاف‭ ‬النوافير‭ ‬الطبيعية‭ ‬وعيون‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم،‭ ‬فهل‭ ‬وجود‭ ‬نافورة‭ ‬كتلك‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لاس‭ ‬فيغاس‭ ‬الأمريكية‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬مبروكة‮»‬،‭ ‬علما‭ ‬بأنه‭ ‬حتى‭ ‬الأمريكان‭ ‬يسمون‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ ‬‮«‬عاصمة‭ ‬الخطيئة‮»‬؟

صادف‭ ‬يوم‭ ‬19‭ ‬سبتمبر‭ ‬الماضي،‭ ‬الذكرى‭ ‬الـ‭ ‬1705‭ ‬لـ‮«‬استشهاد‭ ‬القديس‭ ‬جينارو‮»‬‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬نابولي‭ ‬الإيطالية،‭ ‬وطوال‭ ‬القرون‭ ‬الماضية‭ ‬ظل‭ ‬الأساقفة‭ ‬ينظمون‭ ‬صلوات‭ ‬يحضرها‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬المدينة‭ ‬لمتابعة‭ ‬مشهد‭ ‬‮«‬معجزة‮»‬،‭ ‬ففي‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬يقف‭ ‬كبير‭ ‬الأساقفة‭ ‬في‭ ‬كاتدرائية‭ ‬المدينة‭ ‬حاملاً‭ ‬قارورة‭ ‬تحمل‭ ‬مادة‭ ‬صلبة‭ ‬هي‭ ‬دم‭ ‬‮«‬القديس‭ ‬جينارو‮»‬،‭ ‬ويحرك‭ ‬القارورة‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة‭ ‬فتتحول‭ ‬المادة‭ ‬الصلبة‭ ‬إلى‭ ‬دم‭ ‬سائل‭ ‬أحمر‭ ‬بين‭ ‬شهيق‭ ‬الآلاف‭ ‬وصيحاتهم،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬يمشي‭ ‬القساوسة‭ ‬وسط‭ ‬الجماهير‭ ‬حاملين‭ ‬القارورة‭ ‬في‭ ‬محفة‭ ‬تمر‭ ‬فوق‭ ‬أجساد‭ ‬من‭ ‬ينبطحون‭ ‬أرضاً‭ ‬كي‭ ‬تمر‭ ‬القارورة‭ ‬المباركة‭ ‬من‭ ‬فوقهم‭ ‬فينالون‭ ‬الشفاء‭ ‬أو‭ ‬البركة‭. ‬ولكن‭ ‬رابطة‭ ‬العلماء‭ ‬الإيطاليين‭ ‬لعلوم‭ ‬ما‭ ‬وراء‭ ‬الطبيعة‭ ‬صبت‭ ‬ماء‭ ‬بارداً‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الطقوس‭ ‬عندما‭ ‬قالت‭ ‬إن‭ ‬المسألة‭ ‬برمتها‭ ‬استهبال‭ ‬في‭ ‬استعباط‭ ‬وأن‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬في‭ ‬القارورة‭ ‬ليست‭ ‬دماً‭ ‬متجمدا‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬هيدرات‭ ‬أوكسيد‭ ‬الحديد‭ ‬(OH FeO)‭ ‬التي‭ ‬تشابه‭ ‬خصائصها‭ ‬خصائص‭ ‬الدم،‭ ‬والذي‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬كتلة‭ ‬شبه‭ ‬صلبة‭ ‬إلى‭ ‬سائل‭ ‬عند‭ ‬رج‭ ‬القارورة‭ ‬التي‭ ‬تحتويه‭. ‬وبالطبع‭ ‬ثأرت‭ ‬ثائرة‭ ‬الكهنوت‭ ‬وشركات‭ ‬السياحة‭ ‬في‭ ‬نابولي‭ ‬لأن‭ ‬حرمان‭ ‬المدينة‭ ‬من‭ ‬‮«‬معجزة‮»‬‭ ‬تجذب‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬سيحرمها‭ ‬من‭ ‬عنصر‭ ‬جذب‭ ‬سياحي‭ ‬وديني‭ ‬وتجاري‭. ‬ويحدث‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬فيه‭ ‬دوائر‭ ‬الفاتيكان‭ ‬تغلي‭ ‬من‭ ‬نشر‭ ‬رواية‭ ‬‮«‬شيفرة‭ ‬دافنشي‮»‬‭ ‬وتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬فيلم‭ ‬وهي‭ ‬رواية‭ ‬تطعن‭ ‬في‭ ‬صحة‭ ‬الأناجيل‭ ‬المتداولة‭ ‬وتتهم‭ ‬الكنيسة‭ ‬بنشر‭ ‬أضاليل‭ ‬عن‭ ‬السيد‭ ‬المسيح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬ومريم‭ ‬المجدلية‭ (‬صدرت‭ ‬الرواية‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬وطوال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية‭ ‬أوكلت‭ ‬الكنيسة‭ ‬الكاثوليكية‭ ‬لفريق‭ ‬من‭ ‬القساوسة‭ ‬محاربة‭ ‬ما‭ ‬أسمته‭ ‬هرطقة‭ ‬المؤلف‭ ‬دان‭ ‬براون،‭ ‬وعاد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬الرجل‭ ‬بالملايين‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا