زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
بركات في نافورة وفي قارورة
ظاهرة ادعاء بعض الناس القداسة وامتلاك قدرات خارقة لجلب النفع وإزالة الضرر باستخدام التعاويذ والتمائم، ليست وقفاً على البلدان التي تتفشى فيها الأمية والجهالة، ففي كثير من البلدان التي توصف بالمتقدمة يمارس الكهنوت طقوساً عجيبة مستعينين بقواهم الخارقة المفترضة - مثلا - لمنع انتشار وباء أو لاستنزال المطر، او لدرء الخطر أو لجلب المنافع لمن يصدقونهم من بني البشر.
ولدينا في السودان آلاف القباب والأضرحة التي تحمل أسماء «أولياء»، وقد تسأل عمن هو مدفون في تلك القباب والأضرحة فتكون الإجابة بـ«لا أحد»! كيف يا جماعة؟ يقولون لك إن الشيخ فلان الفلاني أتى علان في المنام وطلب منه أن يشيدوا له قبة وضريحاً في مكان غير الذي هو مدفون فيه، وبداهة فإن من رأى الشيخ في المنام يصبح وسيطاً وسمساراً روحياً وصاحب بركات «بالوكالة»! وتختزن الذاكرة السودانية حكاية الشيخ أبو نافورة وأصلها أن الحكومة كانت تحفر بئراً في منطقة في شرق السودان لتوفير مياه الشرب للسكان عندما اندفعت المياه بقوة إلى ارتفاع شاهق بمجرد شروع الآليات في الحفر، وكانت المياه شديدة الملوحة، وذاع أمرها وقرر «بعضهم» أن تلك المياه مباركة فتدفق الناس إلى موقع البئر بالآلاف يطلبون الشفاء من الأمراض الجلدية والباطنية وأمراض العيون وتسوس الإنسان والعنوسة، وهناك من قال إن الاستحمام بذلك الماء يجلب الثروة، وخلال بضعة أشهر صارت عين الماء تلك بؤرة للأمراض بعد أن تلوثت باختلاط الحابل بالنابل، ولما لم يجد الناس شيخاً ينسبون إليه بركات ذلك النبع صنعوا شيخاً وهمياً سموه الشيخ أبو نافورة، وتحركت الحكومة بسرعة وأغلقت البئر، بعد أن اتضح أن أبو نافورة هذا سيكون مصدر أوبئة سريعة الانتشار والدمار، رغم أن ما حسبه الناس عنصر إعجاز في أمر ذلك البئر هو اندفاع الماء إلى أعلى بقوة هائلة، ولم يكن من حق أحد أن يقول لأولئك القوم: هناك آلاف النوافير الطبيعية وعيون الماء في مختلف أنحاء العالم، فهل وجود نافورة كتلك في مدينة لاس فيغاس الأمريكية دليل على أنها «مبروكة»، علما بأنه حتى الأمريكان يسمون تلك المدينة «عاصمة الخطيئة»؟
صادف يوم 19 سبتمبر الماضي، الذكرى الـ 1705 لـ«استشهاد القديس جينارو» في مدينة نابولي الإيطالية، وطوال القرون الماضية ظل الأساقفة ينظمون صلوات يحضرها الآلاف من أهل المدينة لمتابعة مشهد «معجزة»، ففي مثل ذلك اليوم من كل عام يقف كبير الأساقفة في كاتدرائية المدينة حاملاً قارورة تحمل مادة صلبة هي دم «القديس جينارو»، ويحرك القارورة يمنة ويسرة فتتحول المادة الصلبة إلى دم سائل أحمر بين شهيق الآلاف وصيحاتهم، خاصة عندما يمشي القساوسة وسط الجماهير حاملين القارورة في محفة تمر فوق أجساد من ينبطحون أرضاً كي تمر القارورة المباركة من فوقهم فينالون الشفاء أو البركة. ولكن رابطة العلماء الإيطاليين لعلوم ما وراء الطبيعة صبت ماء بارداً على تلك الطقوس عندما قالت إن المسألة برمتها استهبال في استعباط وأن المادة التي في القارورة ليست دماً متجمدا بل هي هيدرات أوكسيد الحديد (OH FeO) التي تشابه خصائصها خصائص الدم، والذي يتحول من كتلة شبه صلبة إلى سائل عند رج القارورة التي تحتويه. وبالطبع ثأرت ثائرة الكهنوت وشركات السياحة في نابولي لأن حرمان المدينة من «معجزة» تجذب عشرات الآلاف سيحرمها من عنصر جذب سياحي وديني وتجاري. ويحدث هذا في الوقت الذي لا تزال فيه دوائر الفاتيكان تغلي من نشر رواية «شيفرة دافنشي» وتحويلها إلى فيلم وهي رواية تطعن في صحة الأناجيل المتداولة وتتهم الكنيسة بنشر أضاليل عن السيد المسيح عليه السلام ومريم المجدلية (صدرت الرواية عام 2003، وطوال السنوات الماضية أوكلت الكنيسة الكاثوليكية لفريق من القساوسة محاربة ما أسمته هرطقة المؤلف دان براون، وعاد ذلك على الرجل بالملايين).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك